إننا بحاجة إلى مشاريع إعمار كما نحن بحاجة إلى مشاريع استشهاد (خطاب المرحلة 111)

| |عدد القراءات : 2483
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

خطاب المرحلة 111

 

بسم الله الرحمن الرحيم

إننا بحاجة إلى مشاريع إعمار كما نحن بحاجة إلى مشاريع استشهاد*

إن لبس الكفن الذي ارتديتموه يثير في النفس عدة معانٍ :

الأول : أخلاقي لان لبس الكفن يعني الاستعداد للموت وللقاء الله تبارك وتعالى والإعراض عن الدنيا وزخرفها وزبرجها وكان السلف الصالح يحرصون على استثارة هذه المعاني التي تزهّدهم في الدنيا وتهذب أنفسهم وتردعها عن أتباع الهوى فقد كان بعضهم يحفر قبره في بيته وينام فيه كل يوم ويستحضر محاسبة الملكين له ثم يكرر قول الله تبارك وتعالى على لسان الإنسان الذي يكشف له يومئذٍ عن غطاء الغفلة فيرى ما قدمت يداه فيقول :(ربّ أرجعوني لعلي اعمل صالحاً فيما تركت) ثم يخاطب نفسه بأنك قد أُعدت إلى الدنيا وأستجيب دعوتك هذه فانظر ماذا تعمل، ولا شك إن تكرار هذه التذكرة وهذه الموعظة يومياً لا يجعل ثغرة للشيطان أو النفس الأمارة بالسوء كي تنفذ فيها الشرور والآثام ولذا ورد الحث الأكبر على ذكر الموت والاتعاظ بأخباره وقد فصّلنا الكلام حول الموضوع في كتاب (الأسوة الحسنة).

فارتداؤكم للكفن واستعدادكم للقاء الله تبارك وتعالى يعني إنكم عمرتُم آخرتكم وتودّون اللحاق بها وذلك هو الفوز العظيم، يروى إن جماعة سألوا احد أصحاب رسول الله (ص) كأبي ذر أو سلمان (رضوان الله عليها) انه لماذا نكره الموت قال: لأنكم عمّرتم الدنيا وخربّتم الآخرة فأنتم تكرهون الانتقال من دار عماركم إلى دار خرابكم .

 الثاني : حركي أو ثوري يعني إننا مستعدون للتضحية بأغلى شيء وهي النفس من اجل إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى ونصرة المظلومين والمستضعفين والدفاع عن الحقوق المقدسات، كما وصف الشاعر اصحاب الإمام الحسين عليه السلام:

لبسوا القلوب على الدروع واقبلوا يتهافتون على ذهاب الأنفس

أي عكس ما يفعل الآخرون حين يلبسون الدروع لوقاية أجسادهم من الإصابة .

وفي ضوء هذين المعنيين فإنكم بلبس الكفن توجهون رسالة لإدخال اليأس على جميع الأعداء فبالمعنى الأول تردّون على الشيطان والنفس الأمارة بالسوء وتحققون الانتصار في ميدان الجهاد الأكبر، أما المعنى الثاني فتوجهون مثل هذه الرسالة للأعداء من إرهابيين وطغاة يريدون منكم أن تتخلوا عن حقوقكم وهويتكم وانتمائكم ويخيفوننا بالموت فنقول لهم كما قال الإمام السجاد عليه السلام (القيل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة) وبذلك تحققون النصر في ميدان الجهاد الأصغر.

وحينئذٍ قد ينقدح في الذهن سؤال حاصله إن الأمة إذا تكاملت بتربيتها إلى هذه الدرجة من الإقدام على التضحية بالنفس تحت راية مرجعيتها الرشيدة التي هي نائبة الإمام المعصوم إذن فما الذي يؤخر الإمام المهدي (عج) ويقعده عن القيام بحركته الإصلاحية المباركة مادام السبب المتوارث تاريخياً هو عدم وجود ناس كذاك الذي أمره الإمام الصادق عليه السلام برمي نفسه في التنور المسجور ففعل فوراً من دون تردد أو مناقشة وقد أجبت عن هذا السؤال في خطاب سابق بعنوان (ما الذي ينتظره الإمام من شيعته) وقلنا إن عليكم الان أمرين:

الأول :- زيادة درجة الوعي لدى الأمة حتى تمتلك الحصانة من التضليل والانحراف والتشويش المؤدي إلى الإرباك وتعويق حركة الإصلاح المنشود.

الثاني:- تنمية القدرات على إدارة المجتمع وبناء دولة المؤسسات التي نحكم بين الناس بالعدل والتي تقدم للبشرية نموذجاً حضارياً مزدهراً راقياً يذهل البشرية ويدفعها ـ لعجزها عن مجاراته ـ إلى الإذعان بأحقيتها في قيادة البشرية فيا أحبتي إن الإمام ينتظر وجود الحلقة الوسطية بين القائد والقواعد الشعبية المهيأة لنصرت المشروع الإلهي العظيم واعني بهم الثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً الذين يقود بهم الناس واعتقد إنكم تشاطرونني القناعة إن المتصدين للعملية السياسية لم يقدموا لنا ثلاثة عشر نموذجاً صالحاً لهذا الدور فضلاً عن الثلاثمائة الآخرين فأين من تسير به همته ليكون من هؤلاء (وفي مثل ذلك فليتنافس المتنافسون)؟ وأنا لا ادعي عدم وجودهم لأنهم قد يكونون موجودين في أوساط الأمة ولكننا لجهلنا وقصورنا وتقصيرنا لم نتوصل إليهم لكن الإمام (عج) يعرفهم بأسمائهم وأعيانهم وسوف يجمعهم من اسقاع الأرض أما نحن فليس لنا تلك المعرفة. ولذا طالما دعونا ذوي الكفاءاة والقدرات حتى يعرِّفوا أنفسهم كما فعل الصديق يوسف(عليه السلام) حينما قال لعزيز مصر (إجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) وما التلكؤ الذي يحيط بحركة المرجعية الرشيدة إلا بسبب هذا النقص والخلل في الحلقة الوسيطة، إنني اسمع منكم إنكم (مشاريع استشهاد) وإنكم تأنسون بالموت استئناس الطفل بمحالب أمه إذا أمرت المرجعية الرشيدة بمواجهة الظلم بالسلاح.

ولكن يا أحبتي إن موقف الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء كان يوماً واحداً من (57) سنة عاشها الإمام الحسين عليه السلام ورغم علمي إن موقفاً كذاك كافٍ لصنع الحياة ومستقبل البشرية كلها والواقع يشهد بذلك حيث لا زلنا منذ أربعة عشر قرناً ولا زلنا نحيا بركات ذلك اليوم الحسيني العظيم ولكن لا يجوز لنا أن نغفل بقية الأيام الحسينية من عمره الشريف ومساهمتها في بناء صرح الإسلام العظيم من جميع جوانبه، فنحن كما إننا محتاجون لمشاريع الاستشهاد حينما يدعونا الواجب إليها كذلك نحن بحاجة إلى مشاريع أعمار لكل أنشطة الحياة الفكرية والأخلاقية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والهدف الذي خلقنا من اجله{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ }هود61 فلا بد ان تتصدى كل شريحة من المجتمع لوجه من هذه النشاطات التي يكمل بعضها بعضاً بحسب قابيلة كل شخص واستعداده أنطلاقاً من الحديث الشريف (الانسان ميّسر لما خلق له)، فلكل حالة طريقتها المناسبة لمعالجتها وليس السلاح والاستشهاد دائما هو الحل فهذا تحجيم لطاقات الامة بل يكون أحياناً هدراً لها وتضيعاً بلا مبرر،إن مقتضى الحكمة ان حمل السلاح والقتال لا يكون لمجرد القتال وابراز العضلات والفتّوة وطلباً للسمعة والجاه وحتى يقال انه رجل شجاع ومقاتل شرس وإنما يكون حمل السلاح وسيلة لتأسيس مشروع فيه خير الامة وصلاحها ويكون الملاذ الاخير حينما تعجز كل الوسائل. وهكذا فان الاسلام لم يأمر بالقتال ليبسط نفوذه وليجني امولاً ودنيا او لمجرد تلبية غؤائز حب التسلط على رقاب الناس وإنما قاتل ليحرر الناس من عبادة الطواغيت ويترك لهم الخيار والحرية التامة في اعتناق العقيدة التي يشاؤون ولو اذن كسرى لصوت الاسلام ان يُعرض على الفرس ويسمح لهم بالاختيار بحرية لما قاتله المسلمون ولكنه لما عتى وتجبَّر وأصرَّ على استعباد قومه قاتله المسلمون وكسروا شوكته ولما أمَّنوا هذه الحرية للناس تركوا لهم حرية المعتقد وكان اتباع اهل الديانات الاخرى يعيشون في عاصمة الاسلام وغيرها من الحواظر وتوفر الدولة كل حقوقهم حتى ان امير المؤمنين عليه السلام وبخ اصحابه حينا يرى مسيحياً يستعطي في عاصمته الكوفة لانه كبر وعجز عن العمل وامر اصاحبه بصرف راتب تقاعدي له من بيت مال المسلمين. ويؤكد قوله تعالى هذه الحقيقة (لا اكراه في الدين) ولكن بعد ان تؤمن حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر للناس جميعاً . ولذا قاتل المسلمون بشرف وجسدوا اسمى ثقافة للقتال فعندما دخل المسلمون مكة فاتحين كان سعد بن عبادة يحمل راية الانصار فأخذه زهو الانتصار وتراءى له شريط طويل من ذكريات قريش الظالمة المعتدية مع النبي صلى الله عليه و اله فاخذ يرتجز ويقول :

اليوم يوم الملحمة اليوم تُسبى الحُرَمة

فما بلغ النبي (صلى الله عليه واله) هذا الموقف ارسل ابن عمه عليَ ابن ابي طالب وامره باخذ الراية من سعد وان ينادي

اليوم يوم المرحمة اليوم تُصان الحُرمة

هذه هي اخلاق الاسلام واهدافه ومبادئه التي جاء لتاصيلها في الامة (وما ارسلناك الا رحمة للعالمين) فكلُّه خير وعطاء ونفع عميم للبشرية ومواقف امير المؤمنين مع خصومه الذين شنّوا عليه الحروب وازهقوا الاف النفوس مما يطأطئ له الرأس إجلالاً وإعظاماً .

انني حينما دعوت الى تشكيل اللجان والمجاميع الشعبية ذكرت عملين لهما وهما :-

(الاول) تنفيذي ويتضمن :

حماية المناطق السكنية والتجمعات البشرية والمؤسسات من اعتداءات المجرمين لان جهد الحكومة غير كافٍ لوحده في تحقيق هذا الهدف.

القضاء على اوكار الارهابيين الذين يقتلون الابرياء ويفجرون اماكن العبادة وينشرون الرعب والدمار في البلد وجزائهم القتل في كتاب الله تعالى (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الارض فساداً ان يقتّلوا) .

(الثاني) تعبوي ونفسي ليكونوا مستعدين لأي طارئ يستهدف وجودهم وهوّيتهم فان السياسة لا تعرف اماً ولا اباً ولا صاحباً ولا صديقاً والسيناريوهات الموضوعة للعراق والعراقيين خطيرة وبعضها مرعبة فلا بد للشعب ان يبرز البطاقة الصفراء لهؤلاء المتأمرين من خلال استعداده لأي مواجهة.

 

 

ورغم ان هذه التوجهات تثير قلقاً وخشية لدى البعض لاحتمال عدم تطبيقها بالدقة وضمن الحدود المرسومة لها الا انني على ثقة كبيرة بوعي القواعد المرتبطة بالمرجعية الرشيدة وانها لا تحيد عن اوامر قيادتها الشرعية وفي ضوء هذه الثقة فأنني أتخذُّ قرارات قد يراها البعض مجازفة الا انها في الحقيقة مستندة الى التقييم الموضوعي لقدرات الامة وتربيتها النفسية والعقلية وارجوا منكم ان تكونوا عند حسن ظن قيادكم فلا تنساقوا وراء عواطفكم وتحملوا توجيهات المرجعية ازيد مما ذُكِر فيها . إن البعض ما زال يفكر بعقلية المعارضة فيشكل الخلايا السرّية ويخطط لساعة الصفر ونحوها وهذا جهل وتخلّف لان الحالة تغيرت والامة تستطيع ان تعبّر عن ارادتها بكل حرية وكل صاحب مشروع يستطيع ان يقنع الامة به فتنتخبه ليبرهن قدرته على تنفيذ المشروع وبذلك انتقلت الامة من حالة المعارضة الى حالة الحكم فلا بد لها ان تفكر بهذه العقلية الجديدة وتخطط لبناء دولة المؤسسات وسلطة القانون والاعمار والازدهار في جميع اوجه الحياة .

وهذه الثقافة ـ أي ثقافة الحكم ـ لا بد من استيعابها ووضع البرامج التفصيلية لها وهذا موضوع مهم ربما تسنح فرصة اخرى لشرحة بأذن الله تعالى

من حديث سماحة الشيخ مع إحدى المجاميع الشعبية من حي المعارف ببغداد وقد ارتدوا الأكفان يوم 11 ربيع الاول 1427هـ ومن حديث سماحته مع حشود المؤمنين وفدوا لتهنئته بذكرى المولد النبوي الشريف  ومن حديث سماحته مع طلبة مدرسة أهل البيت للعلوم الدينية في النجف الأشرف يوم 5 ربيع الأول 1427هـ .