دور الحوزة الشريفة في حياة الأمة (خطاب المرحلة(100))
خطاب المرحلة(100)
دور الحوزة الشريفة في حياة الأمة (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
حينما قسم الفقهاء المسائل الفقهية الى (عبادات ) و ( معاملات) وقسموا المعاملات الى(عقود) و(ايقاعات) و (احكام)فانهم انطلقوا من ناحية علمية وفنية لتبويب وتصنيف وسائل الفقه حتى يسهل اخذها فانطلقوا بتقسيمهم على اساس ان فعل المكلف اما مشروط بقصد القربة او لا فالاول هي العبادات والثاني المعاملات وهي اما متقومة بطرفين كالبيع والنكاح او بطرف واحد كالعتق والطلاق او غير متقومة باي احد كالحدود والديات والمواريث فالأولى هي العقود والثانية هي الايقاعات والثالثة هي الاحكام ولم يدر في خلد هؤلاء الفقهاء ان هذا التقسيم الفني العلمي سيتحول الى ممارسة خاطئة وفهم ظيق لدور الشريعة في حياة الامة حيث رسخ هذا التقسيم في اذهان الناس ان عبادة الله تعالى ومراعاة الشريعة انما يختص بالقسم الاول وتراهم يسألون عن تفاصيل جزئية في الوضوء والصلاة والصوم وهو شيء حسن لكن السيء انهم اقصوا الشريعة عن المعاملات ولم يحكّموا دين الله فيها ويشرعون من انفسهم قوانين تحكم المعاملات كقوانين الاحوال الشخصية والسنينة العشائرية وسائر القوانين الوضعية الاخرى فتقوقع الدين وانحسر دوره خلافا لقوله تعالى (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما )) فهذا التسليم المطلق وتحكيم الشريعة جار لكل شؤون الامة(2) وانا هنا لا ادعي ان هذا التقسيم هو السبب الوحيد في هذه النتيجة السيئة وانما توجد اسباب اخرى لكنني اريد ان اتوصل الى فكرة ان اختيار العناويين والمصطلحات مهم لان أي خطأ فيه يسري الى خطأ في المعنون والمضمون والتطبيق ولا يقتصر على الجهة النظرية فقط فليس صحيحا ما يتردد في كتب الدراسة الحوزوية ( لا مشاحة في الاصطلاح ) فان عدم الدقة فية تؤدي الى مثل هذه النتيجة الخاطئة ومن هذا الشرح المختصر للفكرة و المثال عليها انطلق الى القول بان توصف الحوزة الشريفة بالعلمية فيقال ( الحوزة العلمية ) وان كان له ما يبرره باعتبار ان النشاط الاوضح فيها هو تحصيل العلوم الدينية وتعميقها والإبداع فيها ونشرها وتدوينها الا ان هذا الوصف رسخ في أذهان أبنائها أن وظيفتهم هو طلب العلم وتدريسه ونحوه من الشؤون وصار الكثير من المرجعيات التقليدية واتباعهم يردد ان وظيفتهم الدرس ونحوه وعدم التدخل في شؤون الامة، وهو تحجيم لدورها وافراغ لمحتواها فهي ليست كالجامعات الاكاديمية عبارة عن كيان علمي صرف بل انها الحوزة وعلى رأسها المرجعية تمثل الكيان القيادي للامة بما تقتضيه القيادة من نشاط سياسي واجتماعي واخلاقي وتربوي وفكري وانساني وحتى اقتصادي وقد مارست القيادات الدينية الواعية والمخلصة هذه الادوار في حياة الامة فعلى الصعيد السياسي تجد ان كل حركات التحرر والنهضة الحديثة قادها علماء الدين ومعلموا القرآن كعمر المختار في ليبيا والخطاب في المغرب وابن باديس وعبد القادر الجزائري في الجزائر ومحمد عبده في مصر وعبد الرحمن الكواكبي في سوريا وامين الحسيني في فلسطين وناهيك عن القيادات الشعبية في العراق وايران ولبنان. وعلى الصعيد الاجتماعي فان الحوزة الشريفة تجد نفسها مسؤولة عن اصلاح ذات البين بين المتخاصمين من عشائر وافراد والسعي للتوفيق في تزويج المؤمنين والمؤمنات ومشاركة الامة في مناسباتها الاجتماعية، واما الدور التربوي والاخلاقي والاصلاحي فان الدور الاوضح للفضلاء والخطباء وائمة المساجد والجماعات في حياة الامة وبفضل هذا الجهد المبارك حافظت الامة على اخلاقها واعرافها ولم يجد الانحراف والانحلال والانهيار الخلقي الذي تعاني منه مجتمعات الغرب مكانا واسعا له في المجتمعات المتدينة، يكفي ان تعلم ان مرض الايدز الذي فتك الى الان بعشرين مليون انسان لم يسجل له وجود يذكر في امتنا المحافظة. اما على الصعيد الانساني من باب الشاهد نقول ان المساعدات التي قدمتها المرجعية للبائسين والمحرومين ومعالجة المرضى في فترة الحصار كان لها اثر مهم في حفظ حياة هؤلاء ومصابرتهم وصيانة كرامتهم، واما الجهد الفكري والعلمي فان اكثر نتاج المطابع وما تتلاقفه دور الطبع فهو من تأليف علماء الحوزة الشريفة وفضلائها ومفكريها.
وقس على هذا نشاطهم في الحقول الحيوية الأخرى.
وفي ضوء هذا يجب على طلبة الحوزات الشريفة ـ رجالاً ونساءاً ـ أن يستوعبوا مسؤولياتهم ووظائفهم التي يقتضيها وجودهم في هذا الكيان الشريف وهي إن بدت واسعة وثقيلة إلا انه مع الاخلاص لله تبارك وتعالى والهمة وقوة العزم والتعاون مع كل العاملين بل قد يشعر الانسان ان سعة المسؤوليات وقوة التحدي دليل على ان ايمانه بخير وان مستواه ليس متدنياً حيث اختاره الله تبارك وتعالى لهذا الدور الكبير فهو من مواطن الشكر لله تعالى على لطفه بعبده حين اختاره لهذا الدور الشريف ووفقه لاستجابة دعوة الرسول (ص) ( يا ايها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول اذا دعاكم لما يحييكم واعلموا ان الله يحول بين المرء وقلبه وانه اليه تحشرون ) انه مع هذه الثلة القليلة الصالحة استجابة من بين الملايين من المسلمين لقوله تعالى ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون ) وحضي من دون كل اولئك بما اعد الله تعالى من الكرامات لطالب العلم الذي يستغفر له من في السماوات والارض وان الملائكة تفرش له اجنحتها وان حلق العلم روضة من رياض الجنة وان من ترك ورقة فيها علم نافع كانت حجابا بينه وبين النار وغيرها من الالطاف الالهية. ولا بد ان لا نكتفي بالشكر اللساني فانه ادنى مراتب الشكر وانما علينا ان نؤدي الشكر العملي بان نؤدي وظائف النعمة ونقوم باستحقاقاتها التي تقدم ذكرها مع الاعتراف بعجزنا عن شكر ولو نعمة واحدة بان كل شكر هو نعمة تستحق الشكر من جديد فانى للانسان ان يؤدي حق الشكر. انني اسمع عن البعض انه حينما تعرض عليه مسؤولية دينية معينة كامامة الجماعة او التدريس فانه يرفضها ظنا منه ان ذلك تورع وحفظ للنفس من الرياء والعجب ونحوها وهو قد يكون حسن النية وقد يكون تكليفه ذلك لكن هذا تصرف سلبي وتحقيق لمراد الشيطان بلباس الدين فان ابليس لا يريد ان يعبد الله تبارك وتعالى(لاقعدن لهم صراطك المستقيم ) فحينما تنسحب من الاعمال الايمانية فقد اعطيت لابليس مراده ووقعت في حبائل خداعه فان المسجد اذا خلى من صلاة الجماعة سوف لا يقصده المصلون وتعطل شعائر الله ويفتقد الناس الكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والاخ المخلص حيث يجد كل هذا المجد اما التصرف الايجابي فهو تهذيب النفس وتأهيل الشخصية لممارسة هذه الوظائف ولا نكون كذاك الرجل الذي كانت زوجته تكره التدخين وعاش صراعا بين الاحتفاظ بزوجته وعادة التدخين واخيرا قال لصاحبه لقد تركتها، قال الاخر: تقصد عادة التدخين قال الرجل : لا .. فقد تركت زوجتي، فهذا سير في الاتجاه الخاطئ في مثل هذه المنعطفات التاريخية فعليه ان يتوكل على الله ويخلص نيته ويشد عزمه ويكون ذا مصداقية فيطابق قوله عمله وحينئذ سيكون التصدي للمسؤولية فرصة لتحقيق التكامل فان الارتقاء في سلم التكامل يحصل من اعمال ورياضات فردية ويحصل بدرجة اكبر من خلال الانخراط في العمل الجماعي واداء الوظائف الاجتماعية فان المؤمن يشعر بدرجة من المسؤولية امام ربه فيؤدي الواجبات ويتجنب المحرمات حتى في السر فاذا انخرط في سلك الحوزة الشريفة وارتدى الزي الديني فان شعوره سيزداد وسيترك بعض التصرفات المحللة لمجرد انها غير لائقة بوضعه الجديد فإذا صار إماما للجماعة فسيكون أكثر مراقبة لنفسه لانه صار محل ثقة عدد من الناس يصلون خلفه ويعتقدون بعدالته ولا بد من مطابقة ظاهره لباطنه لكي لا يصير منافقا وهكذا يرتقي في السعي نحو الكمال حتى اذ بلغ المرجعية وقيادة الامة فانه سيكون في درجة عالية من النزاهة والعفة والطهارة لانه يشعر بمسؤوليته عن مصير ملايين المسلمين في ارواحهم واموالهم واعراضهم وعزتهم وكرامتهم. انكم حين كرستم انفسكم لخدمة الدين واعلاء كلمة الله تعالى وحفظ مصالح الناس اصبحتم من انصار الامام الموعود والممهدين له فحينما يدعو الامام (ع) كما دعى عيسى روح الله (من انصاري الى الله ) ستجيبون كما اجاب الحواريون ( نحن انصار الله( ان يوم ارتدائكم الزي الديني واعلانكم اتخاذ هذا السلك منهجا لحياتكم هو اهم منعطف في حياتكم واعظم قرار تتخذونه وسيكافئكم الله بالحسنى لان موقفا شجاعا يقوم به الانسان يكون كافيا لملئ حياته بالنفحات الالهية ( وما عند الله خيرا وابقى افلا تعقلون ) ( وللآخرة خير لك من الاولى ) كما اني اعتقد ان بركات كثيرة نلتها في حياتي ببركة توفيق الله تعالى لي حينما رفضت خدمة النظام الصدامي المجرم ولو لحظة بعد تخرجي من الكلية عام 1982م.
محمد اليعقوبي
1 ذي الحجة الحرام 1426هـ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) من حديث سماحة الشيخ (دامت تأييداته) في حفل تخرج دفعة جديدة من كلية التوجيه الديني والاصلاح الأجتماعي من جامعة الصدر الدينية في النجف الأشرف وارتدائهم الزي الديني يوم الأثنين 1 ذي الحجة 1426 هـ ومن حديث سماحته مع طلبة جامعة الصدر الدينية - الفرع الأول في الرصافة من بغداد في اليوم التالي ومن حديث سماحته مع طالبات جامعة الزهراء الدينية فرع البصرة يوم الخميس 26 / ذي القعدة / 1426 هـ.
(2) تجد توضيحاً لهذه الاشكالية في كتاب (شكوى القرآن) بحث (الجاهلية الحديثة واسلوب مواجهتها) و (دليل سلوك المؤمن) في الجزء الثاني من كتاب (حديث الروح)