ماذا تعلمنا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (خطاب المرحلة (92))

| |عدد القراءات : 7449
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

خطابات المرحلة (92)

 

ماذا تعلمنا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام (*)

 بسم الله الرحمن الرحيم

 

جرت العادة ان تتضمن الاحتفالات في مثل هذه المناسبات الشريفة ذكر مناقب أهل البيت (ع) ومكارمهم كميلاد امير المؤمنين في الكعبة وهي حالة لم يسبقه اليها أحد ولن يلحقه بها أحد وهي حقاً شرف عظيم له ولوالدته السيدة الهاشمية الجليلة فاطمة بنت أسد التي قال عنها رسول الله (ص) إنها أمي بعد أمي وقد غفل أرباب المعاجم والسيَر مع كل الأسف التأليف في سيرة هذه المرأة العظيمة وتحدثنا عنها بشيء من التفصيل في مثل هذه المناسبة قبل اربع سنوات وطبع في كتاب (من وحي المناسبات).

 

وذكر مناقب أهل البيت عليهم السلام ضروري لتعزيز إيمان المؤمنين وإقامة الحجة على المنكرين ولمواجهة السعي الحثيث الذي يقوم به خصوم أهل البيت لطمس مآثرهم ومع ذلك ظهر منها ما يُحيّر الألباب لذا قيل (إن علياً (ع) أخفى أولياؤه مناقبَه خوفاً وأعداؤه حسداً ومع ذلك ظهر منها ما ملأ الخافقين) اذن لو كُتب التاريخ بأمانة وموضوعية وحفظه وتناقله المنصفون لرأيت من ابن ابي طالب العجب العجاب.

 

ولقد اتبع خصوم عليّ (ع) مختلف الوسائل الخسيسة والخبيثة في هذه المواجهة فيرصد معاوية لسمرة بن جندب أربعمائة ألف درهم كي يروي عن رسول الله (ص) ان قوله تعالى (ومن الناس من يعجبُك قوله في الحياة الدنيا ويشهد اللهَ على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى في الأرض سعى ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل..) (البقرة/204-205) نزل في علي بن ابي طالب وان قوله تعالى (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) (البقرة/207) انزل في عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي.

 

وهكذا زوّروا التاريخ وحرّفوه ودسّوا فيه ما يوافق أهواءهم ومصالحهم فقالوا ان حكيم بن حزام ولدته امه في الكعبة برواية تحمل كذبها في طيّاتها، وكان لمسجد الكوفة باب يسمى باب الثعبان منه انساب الثعبان ليهمس في اذن امير المؤمنين وهو يخطب في المسلمين في المسجد ويعود، ولم يرُق لمعاوية هذا الاعجاز فربط الى هذا الباب فيلاً بعد دخوله الكوفة اثر صلح الامام الحسن (ع) فشاع بين الناس انه باب الفيل ونُسيَ اسمه الاول.

 

فإحياء ذكر اهل البيت (ع) وتعداد مناقبهم امر ضروري لمواجهة هؤلاء الذين يغيّرون الكلم من بعد مواضعه لأن هذا الذكر ليس تأريخاً يتلى ولا ارشيفاً يوضع في المتاحف وإنما هو منهل يرده القادة والمصلحون والمفكرون والعلماء والمربّون وطلاب الحق والخير وهو نبراس يضيء للبشرية طريق العقيدة الحقّة والأخلاق الفاضلة والحياة السعيدة ولم يتركوا لنا شاردة وواردة إلا وقنّنوا لها الحالة الصحيحة حتى في الأمور الحياتية العادية التي لا يلتفت اليها الناس كالأكل والجماع والتخلي والنوم ودخول الحمام ونحوها مما تفتقده الشرائع الوضعية وتعجز عن تلبية الحاجات البشرية.

 

والذي أريد أن أقوله هنا أن احياءنا لهذه المناسبات لا ينبغي ان يكون ارشيفياً تراثياً تاريخياً وإنما يجب ان يكون إحياءاً واعياً يستمد من الماضي ما يعين على الحاضر ويخطط للمستقبل ليكون أكثر فاعلية في حياة الامة ومن ذلك ما فعلته قبل ثلاث سنوات في مثل هذه المناسبة حينما اخترت عنوان (من هم شيعة علي بن ابي طالب) الذين نزل فيهم قوله تعالى في سورة البيّنة (أولئك هم خير البرية) وفسّرها النبي (ص) لجابر أنهم عليّ وشيعته إذ لا يكفي ان يولد الانسان من ابوين شيعين او يعيش في بيئة شيعية او يؤدي شعائر الشيعة ليدخل في هذا العنوان الشريف بحيث يقول الامام (ع) (إنما شيعة علي: الحسن والحسين وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار) لذا كان علينا ان نجري دراسة تحليلية استقرائية في احاديث اهل البيت (ع) لنستنبط منها أوصاف وخصائص شيعة علي (ع) والعناصر المكونة لشخصية المسلم من منظور أهل البيت (ع) والمحاضرة منشورة في كتاب (نحن والغرب) و (شكوى الامام (عج)).

 

واليوم نريد أن نسأل انفسنا (ماذا تعلمنا من أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب) او ماذا حققنا في انفسنا من تلك الصفات التي ذكرناها في البحث السابق لأن الله تعالى حثنا على التأسّي برسول الله (ص) والاستنان بسنته الشريفة فقال عز من قائل ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) (الاحزاب/21) وعليٌّ اخو رسول الله (ص) وصنوه فالآية تدعونا الى التأسّي بأمير المؤمنين (ع) خصوصاً وأن التأسي تعلَّـق بموقع رسول الله (ص) ولم تقل الآية (في محمد) أي شخص رسول الله (ص) فالتأسي حالة مطلوبة من الأمة دائماً ضمن علاقتها مع قادتها الصالحين الذين هم ورثة الانبياء وحصون الاسلام.

 

فهل تعلمنا من علي شجاعته في كل الميادين فصولته في ساحات القتال معلومة وفي قول كلمة الحق حينما قال الخليفة الثاني: ماذا تفعلون لو دعوتكم الى ما تنكرون وما لا تعرفون من الشريعة؟ فقال (ع): إذن لقوّمناك بسيوفنا (راجع كتاب دور الأئمة في الحياة الاسلامية).

 

هل تعلمنا من عليّ أمانته على المال العام ونزاهته حينما كان يأخذ عطاءه كواحد من المسلمين وهو رئيس الدولة ويأتيه أخوه عقيل طالباً المساعدة لأنه كثير العيال وقد أملق حتى عاد أولاده شعثاً غبراً فارجأه الى أوان عطائه فيعطيه فقال: وما يصنع لي عطاؤك اريد من بيت المال فأحمى حديده وقرّبها اليه فجزع عقيل من حرّها فقال له كلماته العظيمة: أتئنُّ من حديدة أحماها انسانها لِلعبه وتجرّني الى نار سجّرها جبارها لغضبه.

 

ووقف على منبر المسلمين ليسنّ للحكام قانون محاسبة المسؤولين وإجراء الجرد المالي لممتلكاتهم قبل توليهم وبعده فيقول (ع): (لو خرجت منكم بغير هذه القطيفة التي جئتكم بها من المدينة لكنت خائناً) فلم يكن بحاجة الى مفوضية نزاهة او محكمة او أي شيء آخر مما اضطرت اليه الدول المتحضرة اليوم لكثرة الفضائح واختلاس الاموال العامة والرشاوى تحت عناوين متعددة فضلاً عن غيرها بل يقف هو امام مواطنيه ليحاسب نفسه.

 

هل تعلمنا من علي (ع) شعوره بالمسؤولية عن كل رعاياه وحمله هموم كل الناس في شرق الارض وغربها فيقول: (أأقنع من نفسي أن يقال لي أمير المؤنين ولا أشاركهم في جشوبة العيش ولعل في الحجاز او في اليمامة من لا عهد له بالشبع ولا طمع له بالقرص).

 

هل تعلمنا من علي رحمته وشفقته حينما مرّ على دار في الكوفة وسمع أطفالاً يبكون لم يهمل الحالة فطرق الباب، خرجت امرأة سألها عن سبب بكاء الاطفال قالت: ان اباهم استشهد في صفين وبقيت وحدي لهم وانا حائرة بين اسكاتهم وخبز اقراص لهم فبكى امير المؤمنين لحالهم ولما تسبّب به تمرد معاوية من إزهاق ارواح الآلآف وجاء (ع) بتمر ولوز وأخذ يضاحك الأطفال ويلاعبهم وتفرغت المرأة للخبز وهو يقول:

 

ما إن تـأوهـتُ من شــيءٍ رُزِئتُ به كمــا تأوهــتُ للأيتــام في الصـغرِ

 

قد مات والـدهم من كـان يـكفلهم في النائبات وفي الأسفار والحضرِ

 

ما أحوج البشرية اليوم الى رحمة علي بن ابي طالب بعد ان عبثت بها مخالب المستكبرين والجشعين والمستبدين والطغاة فإلى من تفزع؟ وأنتم معاشر الأطباء وذوو المهن الصحية يا رسل الرحمة والإنسانية ارفقوا بالناس وارحموهم وأخلصوا لهم لا كما أسمع عن كثير منهم قد تحول الى جلاد وقاتل لأن همّه المال، تأتي أمرأة في حالة عسرة من الولادة وهي تئن بين الحياة والموت لكنها لا تملك التكاليف الباهضة لعملية الولادة فتُغلق الباب دونها والآخر يتلوى من الألم قد ضاقت الدنيا في عينه لا يُعالج لأنه لم يدفع أو لأن الطبيب الخفر نائم ولا يرضى لأحد أن يزعجه أما الاستشاري فلا يصل الى الطوارئ مطلقاً فقط يسجل اسمه لأخذ المخصصات فمتى تنتفضون على نفوسكم، احذرا سخط الله ومكره فإنه لا يأمن مكره الا القوم الكافرون فقد يضعكم في موضع الحاجة والاضطرار ثم لا يسعفكم أحد.

 

هل تعلمنا من علي بن ابي طالب مبدأيته وعدم مساومته على الحق، توّلى الخلافة في ظرف عصيب والمدينة تعجّ بالغاضبين الناقمين ويتربص بها الانتهازيون والمنافقون وأعداء الاسلام والمسلمين فعزل الولاة السابقين وأرسل آخرين وفق معاييره فقال عبد الله بن عباس لو تركت معاوية على الشام حتى تستتب لك الامور فتعزله من موقع قوة وهو عملٌ ربما يقوم به كل الساسيين وفق حسابات المصالح إلا أن علياً لم يكن يعمل لحالة مؤقته حتى يخضع لحساباتها وإنما يؤسس لمُثل انسانية عُليا تبقى مشعلاً يضيء للبشرية طريق السمو والكمال فلا غرو أن يضحي بالحسابات الدنيوية فقال (ع): والله لا أبيت ليلة ومعاوية على الشام.

 

هل تعلمنا من علي عدالته وانصافه للناس حينما خاصمه يهودي على درع له وطلب مرافعته عند القاضي الذي نصبه أمير المؤنين وجاء معه امير المؤنين الى القاضي فقال له: يا أبا الحسن إجلس الى جنب خصمك فجلس وقدّم البينات على أن الدرع له فحكم القاضي بذلك فرأى القاضي الامتعاض في وجه علي (ع) وظنّه انه لمساواته مع خصمه وهو هو في ذاته وفي موقعه فبدأ بالاعتذار بأن هذه هي آداب القضاء واجراءاته لكنه يبدو انه لم يفهم سمو علي بن ابي طالب فقال له الامام : انما غضبت لأنك كنّيتني يا أبا الحسن في حضرة خصمي والمفروض ان تساوي بيننا بالاسم او الكنية، ويمر في طريقه في الكوفة على رجل يستعطي فسأل عن هذه الحالة الغريبة في ظل عدالة علي (ع) وانصافه فقيل له انه مسيحي كبر ولم يقوَ على العمل فقال (ع) فهل استعملتموه حتى اذا ضعف تركتموه، أعطوه من بيت المال.

 

هل تعلمنا من علي (ع) نكران ذاته وتقديم المصلحة العامة على الشخصية فإنه صاحب أعظم حق في الاسلام وهي خلافة رسول الله (ص) بنص قوله تعالى (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغتَ رسالته والله يعصمك من الناس) (المائدة/67) ولما رأى الامة غير واعية لهذه المسؤولية ولا مستعدة لتحملها ورأى ان اصراره على استحصال حقه يوقع في الامة فتنة كبيرة ليس هو المسؤول عنها وإنما الذين خالفوا وصية نبيهم (ص) فآثر الاعراض بعد إلقاء الحجة على الامة ومع ذلك لم يبخل على الحكام بالنصيحة والمؤازرة وحين عزم الخليفة الثاني على الخروج لملاقاة الفرس استشار أصحابه فأشاروا عليه بذلك إلا أمير المؤنين فإنه قال: إن خروجك سيحفّزالاعداء على القتال (لأن العجم إذا رأوك غداً قالوا هذا رأس العرب فإذا قطعتموه استرحتم فيكون ذلك أشد لكَلَبهم) فالصحيح أن تبقى في المدينة ردءاً وفئة تسعفهم وتمدّهم بالرجال والمؤونة وتبعث اليهم من أهل الحزم والشجاعة .. الى آخر وصيته التي أخذ بها لخليفة. أما السياسيون اليوم فإن همهم إسقاط المنافسين لهم وإن كان على حساب الامة والوطن والدين.

 

أقول هذا وأنا أعلم ان علياً قمة سامقة فاق من قبله الا ابن عمه رسول الله (ص) واتعب من بعده فلم يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق وقد قال للناس: انكم لا تقدرون على مثل ذلك ولكن أعينوني بورعٍ واجتهاد وعفّة وسداد. فمن كان برنامج عمل لا يستطيع ان يحققه كله فإنه ينفّذ ما يتيسر له ويطمح للارتقاء لاستيعاب الباقي وهكذا فإن علياً يمثل ارقى برنامج حياتي انساني فلنضعه نصب اعيننا ونُجهد انفسنا للتأسّي به وسيوفقنا الله تبارك وتعالى ويأخذ بأيدينا (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) (النحل/128).

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

(*) تقرير حديث سماحة الشيخ مع الوفود التي هنأته بميلاد امير المؤمنين (ع) ومنهم رابطة الأطباء والعشرات من ذوي المهن الصحية في العمارة يوم 12/رجب/1426.