{وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} - لماذا يكره أكثر الناس الحق؟ أمير المؤمنين (ع) مثالاً للحق
بسم الله الرحمن الرحيم
{وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70]
لماذا يكره أكثر الناس الحق؟ أمير المؤمنين (A) مثالاً للحق[1]
قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [المؤمنون: 70] وقال تعالى {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78].
قال ابن فارس ((حق: يدل على إحكام الشيء وصحته، فالحق نقيض الباطل)) وقال الراغب ((الحق: المطابقة والموافقة)) وفي المصباح ((حق الشيء إذا وجب وثبت، وحقيقة الشيء منتهاه وأصله مشتمل عليه)) وحق الشيء: بلوغ غايته قال سيبويه ((قالوا: هذا العالم حق العالم يريدون بذلك التناهي، وأنه بلغ الغاية فيما يصفه به من الخصال))[2] كما في الحديث (لا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان حتى لا يعيب مسلما بعيب هو فيه)[3] يعني خالص الإيمان ومحضه وكنهه.
ويتحصل من مجموعها إن معنى الحق فيه ركنان: الثبوت والاستحكام كما في قوله تعالى {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد : 17] مع كونه مطابقاً للواقع وموافقاً للغرض الصحيح، قال الطوسي ((الحق: وضع الشيء في موضعه على ما تقتضيه الحكمة))[4] ولذا كان نقيضاً للباطل تارة بلحاظ فقدان الركن الأول فيه فإن الباطل لا استحكام فيه ولا ثبوت قال تعالى {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} [الإسراء: 81] {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8]، ونقيضاً للضلال تارة أخرى بلحاظ فقدان الركن الثاني، قال تعالى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] .
و(الحق) من الأسماء الحسنى لأن وجود الله تعالى وتوحيده وصفاته الحسنى هو الحق المطلق وكما عليه الأكثر في تفسير الآية التالية {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ}، قال تعالى {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25] والعلم هنا بمعنى ارتفاع حجاب الغفلة وإلا فإن هذه الحقيقة لا يجهلها أحد، قال تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: 62] وقال تعالى {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32] فهو سبحانه الحق وما نزّله حق، وما حكم به حق، وما قضى به حق، وما وعد به حق، ومن بعثهم حق وما دعا إليه حق، وما سوى ذلك باطل وضلال وزُخرُف وغرِر، فلا يتوقع من عاقل أن يترك الحق ويسير خلف الباطل مع ما فيه من الضلال والابتعاد عن الواقع والصواب.
لكن النتائج كانت على العكس كما تنبئ الآيتان الكريمتان فإن أكثر الناس عزفوا عن الحق وكرهوه وقاوموه، واستمرأوا الباطل ونصروه، وهي نتيجة غريبة لكنها حقيقة واقعة كرّرها القرآن الكريم بحسرةٍ وأسف، وقد أكدّها في عشرات الآيات الكريمة بألفاظ متعددة مثل (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون، لا يشكرون، لا يعلمون) أو مثل قوله تعالى {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء : 89] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف : 103]، وقد لا يكون كرههم للحق عناداً واستكباراً وإنما لجهلهم والتضليل الذي مارسه كبارهم الذين يثقون بهم، قال تعالى {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء : 24] بل إن كثيراً من المؤمنين ليسوا صادقين في إيمانهم ويتزلزلون عند تعرضهم للفتنة والابتلاء {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف : 106].
وتكرار لفظ الحق صريحاً في المقطع الثاني مع أن الاولى الإتيان بضمير يرجع إليه فيكون (وأكثرهم له كارهون) وهو ما يعرف بالإظهار في موقع الإضمار لإفادة حالة عامة وهي كره مطلق الحق بما هو حق وليس فقط الحق الذي جاء به رسول الله (J) المقصود باللفظ الأول، (بل جاءهم بالحق) وكذا في الآية الثانية، فانتقل الكلام من الخاص إلى العام.
والغريب أن الناس تدعي أنها تريد الحق وتخرج مظاهرات للمطالبة بالحقوق وإقامة العدالة لكنهم يكرهون الحق ولا يقيمون العدالة في حياتهم قال أمير المؤمنين (A) في خطبة خطبها في صفين: (فالحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف. لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه. ولكنه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه وتوسعا بما هو من المزيد أهله. ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضا. ولا يستوجب بعضها إلا ببعض)[5].
وتوجد قلة تتحدث بالحق وتعمل به، ومما قال أمير المؤمنين (A) في وصفهم: (قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ يَصِفُ الْحَقَّ وَيَعْمَلُ بِهِ لَا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا وَلَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ فَهُو َقَائِدُهُ وَإِمَامُهُ)[6].
وقد دلّت الروايات الشريفة على ان المصداق الأكمل والأوضح للحق الذي لا ريب فيه هو رسول الله وأمير المؤمنين (صلوات الله عليهما)، وقد تواتر عن النبي (J) قوله (علي مع الحق والحق مع علي، اللهم أدر الحق معه حيث دار)[7] وروى هذا المعنى علي بن إبراهيم في تفسيره قال (الحق رسول الله (J) وأمير المؤمنين (A)، والدليل على ذلك قوله {قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ} [النساء: 170] يعني بولاية أمير المؤمنين (A))[8] ويشهد له ما ورد من الروايات في تفسير قوله تعالى {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال : 32] حيث نزلت في النعمان بن الحارث الفهري الذي أنكر بيعة النبي (J) لأمير المؤمنين (A) يوم الغدير بالإمامة والخلافة من بعده[9]، وثبت هذا الحق من بعده لأولاده الأئمة المعصومين (%) ففي زيارة الجامعة الكبيرة (والحق معكم وفيكم ومنكم وإليكم وأنتم أهله ومعدنه) فالحق منهم يؤخذ وإليهم يعود وهو لازم لهم لأنهم أصله ويجريه الله تعالى إلى الخلق من خلالهم قال أمير المؤمنين (A): (وَخَلَّفَ – رسول الله (J) – فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ وَمَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ)[10]، كما ورد في الزيارة (وإرادة الرب في مقادير أموره تهبط إليكم، وتصدر من بيوتكم)[11] وقال الإمام السجاد(A) في الصلوات الشعبانية: (المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق)[12] وقد حصلت معجزات لمن سأل الله تعالى بحق محمد وآل محمد في دعائه كالمرأة التي شفيت من العمى[13].
فكثر اعداءهم لأن أكثر الناس تكره الحق، وقد أستمر هذا الكره لكل ما هو حق ومن يسير على طريق الحق، ودفع شيعة أمير المؤمنين (A) وأتباعه ثمناً باهظاً من أرواحهم وأموالهم وسائر حقوقهم لأنهم على الحق، روى البرقي في المحاسن عن أبي بصير قال: (قلت لابي جعفر جعلت فداك اسم سمينا به استحلت به الولاة دماءنا وأموالنا وعذابنا ، قال : وما هو؟ قال : الرافضة ، فقال أبو جعفر: إن سبعين رجلا من عسكر فرعون رفضوا فرعون فأتوا موسى فلم يكن في قوم موسى أن أثبت لهم هذا الاسم في التوراة فاني نحلتهم ، وذلك اسم قد نحلكموه الله)[14].
وفي أمالي الطوسي قال: (دخل سماعة بن مهران على الصادق فقال له: يا سماعة من شر الناس؟ قال: نحن يا ابن رسول الله، قال: فغضب حتى احمرت وجنتاه ثم استوى جالسا وكان متكئا فقال: يا سماعة من شر الناس عند الناس؟ فقلت: والله ما كذبتك يا ابن رسول الله نحن شر الناس عند الناس لأنهم سمونا كفارا ورافضة، فنظر إلي ثم قال: كيف بكم إذا سيق بكم إلى الجنة، وسيق بهم إلى النار؟ فينظرون إليكم ويقولن: «مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الاشرار »)[15].
وبقي شيعة أهل البيت (%) منزّهين عن الحقد والكره والظلم والانتقام، قال ابن ابي الحديد: (إن بشر الوجه وطلاقة المحيّا والتبسم والهيبة التي كانت من أخلاق أمير المؤمنين (A) بقيت متوارثة في محبيه واوليائه إلى الآن، كما بقي الحقد والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، وقال: ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوايدهم يعرف ذلك)[16].
وقد ذكرت الآية التالية أحد أسباب كرههم للحق وهو أنه يخالف أهوائهم فهم يريدون ديناً ونظاماً للحياة يلبي شهواتهم ويحفظ مصالحهم ويعزّز نفوذهم وامتيازاتهم فيدعهم وشركهم ويبقى لهم أصنامهم لأنها مصدر ثروتهم وأن يبيح لهم الفحشاء والمنكر ونحو ذلك مما تشتهيه أنفسهم، لكن هذا غير ممكن لأنه يؤدي إلى ضياع الضوابط والمعايير الصحيحة لأن الكون كله خلق بحق ويدبّره الله تعالى بالحق بلا فرق بين التشريع والتكوين فالخروج عن نظام الكون وقوانينه وترك الأشياء تسير عبثاً ينتج عنه ضلال وفساد كبير ولا يمكن أن يأمر به إله الحق، قال تعالى {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون : 71] ومما يريدون بأهوائهم اتخاذ شركاء لله تعالى وهذا عين الفساد {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء : 22] وأن أهواء الناس متفاوتة ومتناقضة فاتباع أهوائهم يؤدي إلى الصراع والفناء، فلا تتحقق سعادة الإنسان التي هي الغاية من وجوده إلا بالسير وفق النظام الكوني الذي رسمه الله تعالى وأودعه في فطرة الإنسان وجعل الدين منهاجاً له {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم : 30].
ويمكن ذكر أسباب أخرى لكره اهل الحق وعدائهم والسعي لاستئصالهم هي التي أوجبت كثرة أعداء علي (A) تناولتها في كلمة سابقة[17] قال الأزري في هائيته مشيراً إلى هذا المعنى
خصّك الله في مآثر شــتى هي مثل الأعداء[18] لا تتــناهى
منها:
1- الحسد، قال تعالى {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة : 109] وقد توسعنا[19] في شرح هذه الظاهرة عند تفسير قوله تعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء : 54] قال الإمام الباقر (A): (نحن الناس المحسودون على ما أتانا الله من الإمامة دون خلق الله أجمعين)[20] وقد أعترف غاصبو حق أمير المؤمنين (A) وظالمو أهل البيت (%) بأن قريشاً كرهت أن تجتمع النبوة والخلافة فتذهب بالفخر كله[21].
وهذا الحسد غريزة متأصلة في مرضى القلوب والمبتلين بعقدة الحقارة، قال الشاعر:
ان يحسدوك على علاك فإنما متسافل الدرجــــــات يحسد من علا.
2- إن الحق ناصح أمين للناس يتحرى مصلحتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وهم لا يحبون من ينصحهم ويرشدهم ويدلّهم على عيوبهم ليهديهم إلى الكمال قال تعالى {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 79] قال أمير المؤمنين (A): (أمحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة)[22] وهو يعلم أن النصيحة مرّة لا يستسيغها الناس لكنه (A) كان يقول (مرارة النصح أنفع من حلاوة الغش)[23] وقال الإمام الباقر (A): (أتبع من يبكيك وهو لك ناصح، ولا تتبّع من يضحكك وهو لك غاش)[24] وقيل للإمام الرضا (A) (إن قوما من أهل بيتك يتعاطون أمورا قبيحة فلو نهيتهم عنها فقال: لا افعل، فقيل: ولم؟ قال: لأني سمعت أبي يقول النصيحة خشنة)[25].
3- الاختلاف الطبيعي مع الحق بسبب خبث المعدن وسوء السريرة فيتحول إلى باطن خبيث يكره خصال الخير والنبل والكمال، ونقصد بالطبع ما كان مكتسباً بسبب المعاصي والذنوب وعدم الاصغاء لصوت الهداية والصلاح لا الطبع الأولي وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها فإنها لا تأبى الحق، ولو جبل الإنسان فطرياً على كراهة الحق لكان معذوراً في عدم قبوله لذا كان حب علي (A) ميزاناً يميِّز بين من أصله طيّب أو خبيث، فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن علي (A) (والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة إنّه لعهد النبي الأمي إليّ أن لا يحبّني إلاّ مؤمن ولا يبغضني إلاّ منافق)، وروى الترمذي في صحيحه بسنده عن أم سلمة قالت (كان رسول الله (2) يقول: لا يحبّ علياً منافق ولا يبغضه مؤمن)[26].
وحربهم على الحق وأهله ليست شريفة ولا نظيفة بل يستعملون فيها أقذر الأدوات من البهتان والكذب والتدليس والخداع والمكر من أجل الحيلولة بين الناس والاستماع إلى الحق كاتهام النبي (J) بالجنون كما حكت الآية مع أن ما جاء به عين الحكمة والصواب ولو كان من صنع مجنون لكان مضطرباً فيه اختلاف كثير ، ويغلفون دوافعهم الحقيقية بعناوين تخدع العامة فتنطلي عليهم الحيلة ويصدقون الكذب، سئل مروان بن الحكم عن قتالهم لعلي (A) وسبِّه على المنابر وهل إنه كان مسؤولاً عن دم عثمان كما زعموا فقال مروان: (ما كان أحدٌ أدفع عن عثمان من علي (A) فقيل له: ما لكم تسبّونه على المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك)[27].
هذا من سجّلناه من دواعٍ وأسباب، ولعله توجد غيرها يكتشفها المتتبع، ولكن ماذا كانت النتيجة، قال تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال/309) فكانوا كلما أوغلوا في معاداة علي (A) وسبّه على المنابر والافتراء عليه والانتقاص منه كان علي (A) يرتفع ويزداد تألّقاً حتّى اعترفوا بذلك فقال قائلهم ((إن بني أمية لهجوا بسبّ علي بن ابي طالب في مجالسهم ولعنوه على منابرهم فإنما يأخذون بضبعيه إلى السماء مدا))[28].
هذه الظاهرة المؤلمة في حياة البشر تتكرر أيضاً بدرجات متفاوتة طبعاً مع كل الأنبياء والرسل والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين) ومع العلماء الربانيين العاملين المخلصين ولنفس الأسباب المتقدّمة، ممّا يوجب الحسرة الألم والاستنكار والاستغراب قال تعالى (يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون) (يس/30).
وتُبقي الآية الكريمة باب الأمل بتحقق الهداية والصلاح مفتوحاً حيث وصفت المعرضين عن الحق بالأكثرية وهذا يعني وجود قلة تحب الحق وتعتنقه وتثبت عليه، لأنهم حافظوا على سلامة فطرتهم.
لذا على العاملين الرساليين أن لا يستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه وأن لا يشعرهم كثرة أعدائهم بالإحباط واليأس فهذا دليل نجاحهم وتأثيرهم في الناس، ولو كانوا فاشلين ولا يمتلكون القدرة على الإصلاح والتغيير لما عاداهم أحد ولا حسدهم أحد.
وقد أكدّت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة على التمسك بالحق والتواصي به والصبر عليه وإن كان شديداً، قال تعالى {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] قال أمير المؤمنين (A): (إن أفضل الناس عند الله من كان العمل بالحق أحبَّ إليه – وإن نقصه وكرثه – من الباطل وإن جرَّ إليه فائدة وزاده)[29] وقال الإمام الصادق (A) لمن كره حكماً شرعياً على خلاف هواه (يا هذا أصبر على الحق فإنه لم يصبر أحد قط لحق إلا عوّضه الله ما هو خير له)[30] وفي تحف العقول عن ابي محمد (A) قال: (ما ترك الحقَّ عزيزٌ إلا ذل، ولا أخذ به ذليل إلا عزّ)[31].
وحذر المعصومون (%) من التجاوز على أهل الحق، روى الشيخ الصدوق بسنده عن عبد الأعلى عن أبي عبد الله (A) قال: (من دخل مكة مبرّءاً من الكبر غفر ذنبه، قلت: وما الكبر؟ قال: غمص[32] الحق وسفه الخلق، وكيف ذاك؟ قال: يجهل الحق ويطعن على أهله)[33].
ويجب الالتفات إلى أمرين تضمنتهما كلمة أمير المؤمنين (A):
1- أن مجرد عدم نصرة الحق وخذلانه هو نصرة للباطل.
2- أن الحق يعرف بالحجة والبرهان فإذا ثبت صار هو المعيار في تمييز أهله عن غيرهم وليس العكس بأن يخدع بعناوين كبيرة يجعلها المقياس لمعرفة الحق كالذي وقع فيه أصحاب الجمل[34]، قال أمير المؤمنين (A) في الذين توقفوا عن بيعته (وقيل إن الحارث بن حوط اتاه عليه السلام، فقال له: أتراني أظن أن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ فقال عليه السلام: يا حار، إنك نظرت تحتك، ولم تنظر فوقك فحرت، إنك لم تعرف الحق فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه. فقال الحارث: فإني اعتزل مع سعد بن مالك وعبد الله بن عمر. فقال عليه السلام: إن سعدا وعبد الله بن عمر لم ينصرا الحق، ولم يخذلا الباطل)[35].
روى عبد الرحمن بن الحجاج قال: (كنا في مجلس أبان بن تغلب فجاء شاب فقال: يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب عليه السلام من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله قال: فقال له أبان: كأنك تريد أن تعرف فضل علي [عليه السلام] بمن تبعه من أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وآله] قال: فقال الرجل: هو ذاك، فقال: والله ما عرفنا فضلهم إلا باتباعهم علياً (عليه السلام))[36].
وكلما امتد الزمان ازدادت الهجمة على الحق وأهله وأتباعه وكثر أعداء الحق وأنضم إليهم من لم تتوقع منهم ذلك مصداقاً لقول الإمام الصادق (A): (والله لتمحصن، والله لتميزن، والله لتغربلن، حتى لا يبقى منكم إلا الأندر)[37]، قال أمير المؤمنين (A): (وإنه سيأتي عليكم من بعدي زمان ليس فيه شيء أخفى من الحق، ولا أظهر من الباطل، ولا أكثر من الكذب على الله ورسوله)[38].
وهنا قد يثار سؤال بأنه وردت روايات تحث على لزوم الجماعة وعدم الانشقاق عنهم وأن الحق معهم كقول أمير المؤمنين (A): (وألزموا السواد الأعظم فإن يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة، لأن الشاذين من الناس للشيطان كما أن الشاذ من الغنم للذئب)[39] فكيف ينسجم هذا مع ما أفادت الآية الكريمة من ذم الأكثرية وابتعادهم عن الحق.
والجواب أن الجماعة التي أُمرنا بملازمتها هي التي بنت نظامها على الحق واجتمعت عليه فالارتباط بها يكون عملاً بالحق الذي هم عليه وليس لمجرد أنها أكثرية عددية فإنها لا تغني من الحق شيئاً لانسياقها وراء الأهواء والشهوات وميلها إلى الأنانية الموجبة للصراع والتنازع فيقود أتباعها إلى الضلال والفساد كما أخبرت الآية الكريمة وتشهد به التجارب لكن أكثر الناس يميلون إلى السير مع الأكثرية من دون تدبر في العواقب دفعاً للمشاكل وحبّاً للراحة حتى أنشأوا مثلاً قالوا فيه: ((حشر مع الناس عيد)) فالأكثرية بما هي أكثريه عددية لا قدسية فيها ولا تنتج حقاً إلا بمقدار موافقتها للحق، ولو أردنا أن نعتمد رأي الأكثرية فلابد من توعيتها وزيادة بصيرتها ورشدها والعمل وفق المنهج الرباني الرشيد السديد.
[1] - خطبتا صلاة العيد الفطر السعيد لسنة 1446 الموافق 31/3/2025.
[2] - المعجم في فقه لغة القرآن: 13/10 عن ابن سيده في المحكم: 2/474.
[3] - مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: 26/203 عن النهاية: 1/415.
[4] - التبيان: 6/286.
[5] - نهج البلاغة: - ج ٢ - ص ١٩٨، الخطبة: 216.
[6] - نهج البلاغة: الخطبة 87.
[7] - البحار: 38/26 باب (أنه مع الحق والحق معه).
[8] - البرهان: 7/22 عن تفسير القمي: 2/92 ورواها أيضاً في 2/289 عند آية الزخرف 78.
[9] - من نور القرآن: ج4/ ص398/ القبس 150، سورة الحجرات 110 {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}
[10] - نهج البلاغة: الخطبة 100.
[11] - الكافي: 4/ 577 ط.الإسلامية.
[12] - مصباح المجتهد: 1/ 45، مفاتيح الجنان في أعمال شهر شعبان.
[13] - بحار الأنوار: 42/44 عن تفسير فرات الكوفي، سفينة البحار: 2/21.
[14] -المحاسن: 1/ 157، بحار الأنوار: 68/97، سفينة البحار: 3/384.
[15] - بحار الأنوار: 68/117.
[16] بحار الأنوار: 41/147، سفينة البحار: 2/21، عن شرح نهج البلاغة: ج ١ / ص ٢٥.
[17] - خطاب المرحلة: 8/ 238.
[18] - في بعض المصادر (الاعداد).
[19] - تفسير من نور القرآن عند قبس هذه الآية أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} 20/شعبان/1446 الموافق 19/2/2025.
[20] - الكافي: 1/159، ح1.
[21] - الكامل لابن اثير: 2/ 439، تاريخ الطبري: 4/ 223، المسترشد في امامة علي بن ابي طالب (A): 683.
[22] - نهج البلاغة: الكتاب 31.
[23] - غرر الحكم: 9799.
[24] - المحاسن: 2/440 ح2526.
[25] - عيون اخبار الرضا للشيخ الصدوق: - ج1/ باب (28) فيما جاء عن الامام علي بن موسى عليهما السلام من الاخبار المتفرقة - ص 261 رقم الحديث 38.
([26]) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، صحيح الترمذي: 2/299 وراجع مصادره لدى العامة في فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 2/253.
[27] - الصواعق المحرقة: 1/ 163، مجموعة محققين مؤسسة الرسالة لبنان/ 1997، شرح- نهج البلاغة لابن ابي الحديد: 13/ 220.
[28]- أمالي الطوسي: 588 المجلس 25 ح6، والضبع وسط العضد من اليد.
[29] - نهج البلاغة: الخطبة 125.
[30] - بحار الانوار: 70/ 107 عن تنبيه الخاطر.
[31] - بحار الانوار: 72/232.
[32] - غمص من باب ضرب أي احتقره وعابه وتهاون بحقه كما في مجمع البحرين.
[33] - بحار الانوار: 2/ 142.
[34] - وهي حالة مستمرة حيث يكون المعيار (قال فلان) أو (هل من المعقول أن يكون قول فلان ليس حقاً) ونحو ذلك، مثلاً مثّلَ الله تعالى يقول {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء : 112] ثم يأتي شخص فيرمي مؤمناً موالياً يعمل لإعلاء كلمة الله تعالى ونشر تعاليم أهل البيت (%) وخدمة الناس ببهتان وكذب، فمن رد عليه قوله لمخالفته للقرآن فهذا منهج الحق والقرآن، ومن أخذ منه ونشر كلامه فهذا ممن أخذ من الرجال وليس من الحق، أو ترد الرواية عن ابي عبد الله (A) يقول: (من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه وهدم مروءته ليسقط من أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان فلا يقبله الشيطان) (الكافي: ج ٢ - ص ٣٥٨) فيتركها ويتبع فلاناً في تسقيط المؤمنين افتراءاً عليهم مستدلاً بقول فلان وهو يعلم مجافاته للحق.
[35] - نهج البلاغة: حكمة (٢٦٢).
[36] - رجال النجاشي: 12، رقم 7.
[37] - ميزان الحكمة: ج ٣ - ص ٢٣٦٢.
[38] - نهج البلاغة: الخطبة 147.
[39] - نهج البلاغة: الخطبة 127.