البيان الختامي للزيارة الاربعينية عام 1445
البيان الختامي[1] للزيارة الاربعينية عام 1445
روي عن الإمام الصادق (A) قوله: (ما ضعف بدن عما قويت عليه النية) ([2]) أي إن الإنسان يمتلك طاقة وقدرة فائقة لإنجاز أعمال كبيرة إذا كان صادقاً في عزمه مخلصاً في نيته محبّاً لما يريد أن يعمله، وإذا فشل في إنجاز عمل فليس الخلل في قدراته التي أودعها الله تعالى في بدنه وإنما في خموله وكسله وضعف همته وعدم صدق نيّته.
لقد كانت الأعمال الكبيرة المتنوعة التي قام بها المؤمنون الموالون لأهل البيت (D) من مختلف دول العالم خلال الزيارة الأربعينية شاهداً واضحاً على صدق هذا الحديث، لأنهم أشربوا عشق الإمام الحسين (A) وذابوا في مودة أهل البيت (D)، فهل يستطيع غير العاشق أن يسير مشياً على الأقدام مئات الكيلومترات تحت لهيب الشمس الحارقة وقد تجاوزت الحرارة نصف درجة الغليان؟ وهل يستطيع غير الواله أن يتنازل عن أنانيته وحب ذاته فيتواضع ويقوم بأعمال يستنكف عن فعلها في غير هذه المناسبة العظيمة فتراه يغسل أرجل الزائرين ويصلح أحذيتهم، ويقف في الشمس ليكون ظلاً لزائر يريد أن يرتاح ويفترش الأرض في أمكنة غير مناسبة؟ وهل نتوقع حافزاً غير الحب والتقرب من المحبوب يدفعه نحو بذل كل ما لديه من مال في ضيافة الزائرين مجنّداً عائلته حتى الأطفال الصغار في خدمة الزوار؟ والإمام الحسين (A) جدير بكل ذلك لأنه فني في حب الله تعالى وتجرّد عما سواه وبذل كل ما عنده فيه تبارك وتعالى.
وقد أضفت المؤمنات اللواتي سرن على نهج السيدة فاطمة الزهراء (B) والطاهرة خديجة الكبرى والعقيلة زينب بنت علي (C) رونقاً من الهيبة والجلال والبهاء على هذه المسيرة المباركة بعفافهن وحجابهن، وجسَّدن الفضيلة والطهر والنجابة والكمال بسمو سلوكهن، وأظهرن جلل المصاب وفداحة الخطب بلوعتهن وصرختهن، وحضورهن الفاعل الكثيف في المجالس والمواكب والشعائر.
كما كان للمبلّغات الرساليات الدور الكبير في تحقيق الأهداف المرجوّة من القيام الحسيني وإحياء الشعائر الإلهية العظيمة، بنشر الوعي والبصيرة وتعليم الأحكام الشرعية والتحذير من مكائد الأعداء وفخوخ شياطين الجن والإنس.
وقام بنفس الدور الإخوة فضلاء الحوزة العلمية الذين غذّوا الأمة بالعقيدة السليمة والفكر الصحيح في مواكب الوعي والإصلاح والتبليغ.
فأسال الله تعالى أن يتفضل على كل مَن قصد أبا عبد الله الحسين (A) بالزيارة من شرق الأرض وغربها , وكل من شارك في هذه الزيارة بالمشي أو استضافة الزوار أو التوعية والإرشاد أو تقديم الخدمات الأمنية والطبية والنقل وسائر الأمور الضرورية لإنجاح المسيرة, بالقبول وحسن الجزاء، وأن يسرّهم يوم يلقونه بما أدخلوا من السرور على قلب رسول الله (J) وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (صلوات الله عليهم أجمعين), وأن يشملهم بدعاء الإمام الصادق (A) الذي كان يناجي به ربه وهو ساجد بعد الصلاة: (يا من خصنا بالكرامة، ووعدنا الشفاعة وحملنا الرسالة، وجعلنا ورثة الأنبياء، وختم بنا الأمم السالفة وخصنا بالوصية وأعطانا علم ما مضى وعلم ما بقي، وجعل أفئدة من الناس تهوي إلينا، اغفر لي ولإخواني وزوار قبر أبي الحسين بن علي صلوات الله عليهما الذين أنفقوا أموالهم وأشخصوا أبدانهم، رغبة في برّنا، ورجاءً لما عندك في صلتنا، وسروراً أدخلوه على نبيك محمد صلى الله عليه وآله، وإجابة منهم لأمرنا، وغيظاً أدخلوه على عدونا، أرادوا بذلك رضوانك. فكافهم عنا بالرضوان، واكلأهم بالليل والنهار، واخلف على أهاليهم وأولادهم الذين خلّفوا بأحسن الخلف، واصحبهم واكفهم شرّ كل جبار عنيد، وكل ضعيف من خلقك أو شديد، وشرّ شياطين الإنس والجن وأعطهم أفضل ما أمّلوا منك في غربتهم عن أوطانهم وما آثرونا على أبنائهم وأهاليهم وقراباتهم.
اللهم إن أعداءنا عابوا عليهم خروجهم فلم ينههم ذلك عن النهوض والشخوص إلينا خلافاً عليهم، فارحم تلك الوجوه التي غيّرتها الشمس، وارحم تلك الخدود التي تقلّب على قبر أبي عبد الله عليه السلام، وارحم تلك الأعين التي جرت دموعها رحمة لنا، وارحم تلك القلوب التي جزعت واحترقت لنا وارحم تلك الصرخة التي كانت لنا، اللهم إني أستودعك تلك الأنفس وتلك الأبدان حتى ترويهم من الحوض يوم العطش) ([3]).
ومن خلال ذلك كله وغيره مما لا يمكن إحصاؤه صدع ملايين الزوار بهويتهم التي لا يتنازلون عنها، ويقفون في وجه من تسوّل له نفسه المساس بها , فكان هذا الحضور المليوني ردّهم الحازم والفاعل على ما يسعى إليه الأعداء من تخريب فكري وأخلاقي ومسخٍ للهوية الدينية والاجتماعية والوطنية التي تجمع كل أطياف الأمة، والحمد لله الذي جعل أعداءنا من الحمقى الذين كلما ازدادوا كيداً لديننا وأخلاقنا زادونا تمسكاً بهما وثباتاً عليهما حتى يتحقق وعد الله تعالى {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
فالأعداء بخططهم هذه يجنون على أنفسهم ويحفرون قبورهم بأيديهم، فيكون حتفهم فيما أعدّوا ودبّروا، مصداقاً لقول الإمام علي (A): (تذِلّ الأمور للمقادير، حتى يكون الحتف في التدبير)([4]) أي أن الله تعالى إذا قدّر شيئاً هيّأ أسبابه حتى يكون تحقيقه بنفس التدابير التي اتخذها الشخص لمنع وقوع القدر عليه فإن المقادير بيد الله تعالى و {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] فيكتب نصره لعباده المؤمنين بنفس خطط الأعداء التي ظنّوا أنهم سيقضون بها على دين الله تعالى, ويسلخون المؤمنين من أخلاقهم ودينهم ويفقدونهم ثقتهم بأنفسهم.
خذوا مثالاً على ذلك ما فعله اللعين يزيد فإنه توهم إذلال حرم رسول الله (J) بسوقهن أسارى بين البلدان وإيقافهن في الاجتماعات العامة في عواصم السلطة الظالمة وتقريعهن بالكلمات القاسية والتشفي منهن، لكن الإمام السجاد (A) والعقيلة زينب (B) وبقية الفاطميات حولوا هذه المجالس إلى منصات إعلامية واسعة كشفت زيف السلطة الحاكمة وظلمها وخروجها عن مبادئ الإسلام، وعرّفت الناس المغفلين حقيقة البيت النبوي والمقام السامي الذي رفعهم الله تعالى إليه وانتشرت هذه الكلمات في البلدان وأقضّت مضاجع الطغاة وزلزلت عروشهم.
أيها الأحبة:
إن هذه المنح الإلهية التي منَّ الله تعالى بها علينا ببركة الإمام الحسين (A) مما ذكرته الأحاديث الشريفة التي لا يمكن استقصاؤها: لا بد من إدامتها والثبات عليها واتخاذها زاداً ينير لنا الدرب طول حياتنا بإذن الله تعالى، وأن نجعل الإمام الحسين (A) نصب أعيننا في كل حياتنا فلا نفعل إلا ما يرضي الله تعالى ويرضيه (رضا الله رضانا أهل البيت)([5]) ونتجنب كل ما يبغض الله تعالى والإمام الحسين (A) حتى ندخل اليأس إلى قلوب أعدائنا الذين يراهنون على أن تكون هذه المسيرة فورة عاطفية ينتهي تأثيرها بانتهاء الزيارة فعلينا أن لا نكون {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [النحل: 92] والحمد لله بجميع محامده كلها على جميع نعمه كلها.
[1] - القاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة ختام مراسم الزيارة الأربعينية لسنة 1445 التي تصادف 6/9/2023
[2] - من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق - ج ٤، ٤٠٠ / ٥٨٥٩.
[3] - ثواب الأعمال - الشيخ الصدوق - الصفحة ٩٥.
[4] - نهج البلاغة:ج1/ص771.
[5] - بحار الأنوار: ج ٤٤/ص٣٦٧.