{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} - تيه الامة بسبب عصيانها القيادة الرّبانية
بسم الله الرحمن الرحيم
{فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 26]
تيه الامة بسبب عصيانها القيادة الرّبانية[1]
تتحدث الآية الكريمة عن التيه الذي قضى الله تعالى به على بني إسرائيل أربعين سنة بسبب عصيانهم لأوامر نبيهم (A) بالدخول إلى الأرض المقدسة قال الله تبارك وتعالى {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]. وفيها عدة دروس منها:
1- كشف حقيقة بني إسرائيل وتديّنهم المزَّيف وتآمرهم على الدعوات الإلهية.
2- تحذير الأمة من الوقوع في أخطاء الأمم السابقة، وتحمل نتائجها الكارثية.
3- إطلاع قادة المسلمين على التجارب السابقة والاستفادة منها في تحديد المواقف الحاسمة.
4- تسلية أئمة الإسلام بسرد هذه المصائب والبلاءات، ليروا أن ما يتعرضون له ليس بدعاً من البلاء فقد تعرض له القادة الربانيون من قبل.
ولبيان أجواء القضية وملخص الواقعة نقول: إن بني إسرائيل لما نجّاهم الله تعالى من فرعون وجنوده وعبروا سالمين إلى الجهة الأخرى وغرق فرعون وجنوده، وإذا بهم يطالبون النبي موسى (A) بأصنام ليعبدوها {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف : 138] ثم وقعوا في فتنة عبادة العجل الذي صنعه السامري وعالجها موسى (A) وتاب الله تعالى على قومه، ثم أغدق عليهم النعم وآتاهم ما سألوه بعدما شكوا الجوع والعطش والحر ففجّر موسى (A) من الأرض عيون ماء و أنزل الله تعالى لهم من السماء حلوى ولحم طير وظللهم بالغمام ليقيهم حر الشمس، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 160].
ثم ذكّرهم الله بالنعم الكثيرة التي أنعمها عليهم {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20] من بعثة موسى (A) إليهم وإنزال التوراة ونجاتهم من بطش فرعون وغيرها، وكذا بما اختصهم من النبوة والملك أي ما جمع لهم من الهداية إلى التوحيد، و جعلهم ملوكاً وهو إن كان خطاباً للجميع فهو يعني استقلالهم بعد التخلص من استعباد الفراعنة حتى ملكوا أمورهم وصارت لهم الزعامة الدينية التي تتضمن القيادة الاجتماعية (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا) (النساء/54) و إن صح قصد البعض من خطاب الجميع فإن من بني إسرائيل من آلت اليه السلطة ايضاً مثل يوسف وسليمان (صلوات الله عليهم اجمعين).
وروى في الدر المنثور في تفسير جعلهم ملوكا عن ابي سعيد الخدري عن رسول الله (صلى الله عليه واله): كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكاً).
أقول: هذا المعنى داخل فيما ذكرناه لأن من ملك هذه استقل بنفسه، وأُشكل عليه بان هذه النعمة لا تختص ببني إسرائيل فما وجه الامتنان عليهم؟ وأجاب بعضهم بان بني إسرائيل اول من اتخذ الخدم، وهو مخالف للوقائع التاريخية، ويمكن الإجابة بان وجه الامتنان بلحاظ حالتهم السابقة حيث كانوا عبيداً مستخدمين أذلاء عند الفراعنة، ويؤيد ذلك ما روي عن النبي (J) انه قال: (من أصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها)[2].
وقد ذكّرهم تعالى بهذه النعم التي ذكرناها آنفاً وهي متضمنه معجزات وآيات باهرات لم تتحقق لأي من الأمم السابقة ليحثَّهم على طاعة أوامر الله تعالى ونبيهم العظيم ويحبّبها إليهم، مضافاً الى ابتداء خطابه بـ (يا قوم) ليذكّرهم بانه منهم وانه يريد الخير لهم، وهذا درس يستفيد منه الوعاظ والمبلغون بإثارة الارتباط الروحي بالله تعالى قبل أن يدعوهم إلى الطاعة.
وبعد هذا كله أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي ارض الميعاد التي وعدوا بإقامة دولة الحق فيها ويكونون فيها ملوكاً ويبعث فيهم الأنبياء، ليثبتوهم على طريق الهدى والاستقامة، والمقصود بها القدس وما حولها وهو ما ورد في بعض الروايات[3] بقرينه قوله تعالى {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] وقوله تعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137]. إذ ان البركة تعني الخير الكثير، واعظم مصاديقه إقامة الدين فيها وتخليصها من رجس الكفر والشرك التي توجهوا إليها بعد خروجهم من مصر {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21]، وتتضمن دعوتُه عليه السلام وعدا صادقاً (كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ) بانها ستكون لهم ليحفزّهم ويطمئنهم، و يدلُّ التحذير في نهاية الآية على أنه (A) كان يتوقع منهم العصيان والتمرد والنكوص على الاعقاب والخمول وإدارة ظهورهم لنبيهم الكريم (A), فهم هم الذين رافقوه من مصر وجرّعوه الغصص والآلام ووقعوا في الفتن العظمى التي أشرنا إلى بعضها.
وقد صدق ظنه (A) عليهم إذ كان جوابهم بعد كل تلك النعم والمكانة والتفضيل أن أعلنوا تمردهم على أمر نبيهم (A) معتذرين بوجود قوم اولي ضخامة بدنية وشدة وبأس، وهم طغاة ([4]) يجبرون الناس على طاعتهم، واشترطوا لتنفيذ الأمر خروج أولئك من الأرض المقدسة وهم يعلمون إن الجبارين لا يخرجون ولا يتخلون عن سلطتهم من تلقاء أنفسهم {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة: 22].
ولم يطع الأمر إلا قلة قليلة {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
فهما من الذين يخافون الله تعالى، والخوف من الله تعالى هو المحرك الرئيسي لكل عمل صالح وقد يكون عندهما خوف من الجبارين المتسلطين في الأرض المقدسة إلا إن خوفهما من الله تعالى كان أعظم وهو الغالب عليهما، فأذهب الله تعالى عنهم ذلك الخوف، إذ أنعم الله تعالى عليهما بالإخلاص له فجعلهم من أوليائه {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] فهم داخلون في قوله تعالى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].
وذكرت الروايات أن أحدهما يوشع بن نون وصي موسى (A) وآخر وهما من أبناء عمومته[5] وكانا من نقباء بني إسرائيل الأثني عشر، وقالا إن الغلبة ستتحقق لكم بمجرد اقتحامكم لأول مدينة من مدن الجبابرة وهي أريحا على ما قيل[6] تصديقاً لقول امير المؤمنين (وما غزي قوم في عقر دراهم الا ذلّوا)[7]، وقطعا بالوعد لأنهما تلقياه من موسى (A)، ولأن الله تعالى كافٍ من يتوكل عليه، فأمرا قومهما بالتوكل على الله تعالى {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].
وفي الآية درس عظيم وهو انه إذا عرض عليك أمر فيه رضا الله تعالى وكان محفوفاً بصعوبات فلا تتهيّبه ولا تتردد وأقدم عليه وحينئذ سييّسره الله تعالى ويجعله هيناً وهو قول امير المؤمنين (إذا هبت امراً فقع فيه)[8] فان التردد والخوف يؤدي الى الفشل وضياع فرص التوفيق، قال عليه السلام (قرنت الهيبة بالخيبة)[9]، لذا حثت الأحاديث الشريفة على الإسراع الى عمل الخير لان التواني يؤدي الى ضعف العزيمة وترك العمل، قال الامام الباقر (من همَّ بشيء من الخير فليعجله فان كل شيء فيه تأخير فان للشيطان فيه نظرة)[10]
ورغم هذه الفرصة العظيمة للنصر التي لا تتطلب أزيد من عقد العزم وإخلاص النية، والإقدام على العمل من دون تقاعس، ومباغتة الخصم، وحينها يُنزِل الله تعالى عليهم نصره وتأييده وسكينته، إلا أنهم أصرّوا على التمرد والعناد، وإدخال اليأس من استجابتهم على قلب موسى (A) حتى يتوقف عن دعوتهم إلى الطاعة {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] و (لن) تفيد التأييد مع المجيء بلفظ (أبداً) للتأكيد.
قولهم (وربّك) فكأن الله تعالى هو رب موسى دونهم فالقضية لا تعنيهم، وانهم لا يريدون رّباً يكلّفهم بمواجهة الأعداء وتحمّل المصاعب، فهم يريدون أن تتحقق النتائج من دون عمل يقدّمونه وإنما يكفيهم الله ورسوله وهم قاعدون، وقد تملكتهم صفة الجبن والاستسلام والضعف نتيجة لطول استعبادهم من فرعون، وهذه نظرية اجتماعية ينبغي الالتفات اليها، لذا استنهضهم موسى (A) وعمل على إعادة الثقة لأنفسهم بتذكيرهم بنعم الله تعالى الكثيرة والعظيمة وما تحقق لهم من أسباب القوة.
وحينئذ شعر النبي موسى (A) بالإحباط والياس المؤلم القاسي من صلاح هذه الجماعة رغم كثرة ما أغدق الله تعالى عليهم من النعم وأراهم من المعجزات وأظهر (A) استسلامه لله تعالى وايمانه الراسخ بصدق وعده، وناداه بصفة الربوبية لان الله تعالى ربّاه ورعاه وصنعه من أول أمره {قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 25] فإنه ليس له سلطة عليهم ولا يستطيع إجبارهم وإكراههم على الطاعة والهداية والصلاح، وان كان يوجد صالحون في قومه كالرجلين الا انه لا يملك منهم مثلما يملك من اخيه هارون النبي فإنه طيّع له ومسلِّم لأمره ولديهما من التأييد الإلهي ما ليس لغيرهما، فان ملك النفس والتسلط عليها بتمام السلطنة لا تكون الا للمخلصين من عباد الله تعالى الذين استخلصهم الله تعالى لنفسه (لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر 39-40) ويمكن ان يكون معناها اني لا املك الا نفسي واخي كذلك لا يملك الا نفسه , ومؤداهما واحد فان من تمام ملك هارون نفسه تسليمه لأخيه موسى (عليه السلام ).
ومن أدبه (A) مع ربّه فإنه أوكل أمر تحقيق الوعد الإلهي بالتمكين في الأرض ووراثتها إلى الله تعالى، ولم يطلب من ربه عقوبة معينة على قومه ولا اتخذ قراراً محدداً , كيف وقد كرّس حياته لصلاحهم وانقاذهم , وإنما أوكل أمر الفصل بينه وبين قومه العاصين المتمردين إلى ربِّه، فانه اشفق عليه واولى بتدبير شؤونهم، وإنما وصفهم بالفاسقين واستحقاقهم المباينة مع عباد الله الصالحين لتكرّر عصيانهم مرات عديدة، فأنهم بعد أن رأوا معجزة فلق البحر وإغراق فرعون وجيشه {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف : 138] حتى عبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري، وبلغت بهم الوقاحة حداً عظيماً {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55] وفي كل مرة يتوب الله تعالى عليهم ويفيض عليهم نعماً خاصة لكم {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 56] ويعودون هم إلى عصيانهم وتمرّدهم .
وهنا شاءت الإرادة الإلهية نوعاً من التربية والإصلاح لبني إسرائيل فيه مشقة ضرورية لهم فهو رحمة وان كان ظاهرة العذاب، وذلك بأن يقعوا في التيه والحيرة التي اختاروها لأنفسهم أربعين سنة, ومن المعلوم تأثير عدد الأربعين في موجبات التكامل، وقد استحقوا هذه القسوة بتمردهم على قيادتهم الربانية المعصومة يتيهون في الأرض ليس لهم حياة مستقرة ولا مستقبل مضمون، ولا يستطيعون دخول الأرض المقدسة ولا الرجوع إلى بلدهم الأصلي مصر، وكان معهم موسى وهارون (C) والوصي يوشع ألا انهم لم يُمنَعوا من دخول الأرض المقدسة فكانوا يزورونها، وتوفي موسى (A) خلال هذه الفترة ([11]) وأخوه قبله , ونشأت أجيال جديدة من بني إسرائيل من رحم المعاناة والايمان، تحلَّوا بالعزة والثبات والشجاعة فقدَّر الله تعالى لهم الخروج من التيه بقيادة الوصي يوشع بعد انتهاء مدة التيه[12] ودخلوا الأرض المقدسة مع طالوت ببركة فئة قليلة {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ} [البقرة : 250-251] وتحقق قوله تعالى {الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] لكن ليس للمخاطبين المباشرون لعصيانهم، إذ إن الوقت غير معين فيها ولا الأشخاص لأن الخطاب موجه إلى الأمة جميعاً، فصدق الوعد الإلهي في أبناء المخاطبين.
وقد وعدهم الله تعالى بوراثة الأرض والتمكين فيها إذا صبروا على الطاعة والاستقامة {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137].
يسرد القرآن الكريم هذه القصة على المسلمين في أوائل تشكيل الدولة الإسلامية بعد الهجرة والظاهر إن نزولها قبل معركة بدر بقرينة ذكر المقداد لها في كلمته الآتية ليعلّمهم أن أساس الإيمان الطاعة، و ليحذرهم مغبّة عصيان القائد الرباني العظيم ويحذرهم من الثمن الباهظ الذي يدفعونه، لكنهم لم يستوعبوا هذا الدرس ولا غيره مما حكاه القرآن الكريم وأعادوا نفس أخطاء بني إسرائيل، وقد أخبرهم النبي (J) باقتصاصهم آثار بني إسرائيل، فقد روى الامام الباقر (A) عنه (J) قوله:(والذي نفسي بيده لتركبُنّ سنن من كان قبلكم , حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى لا تخطئون طريقهم ولا تخطئكم سنة بني إسرائيل )) ([13]).
فوقعت الأمة في حيرة وتيه بسبب انقلابها على أعقابها بعد رحيل رسول الله (J) {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144].
حيث نكثت بيعة الغدير وخلّفت عترته وراء ظهورهم، وازاحوهم عن مقامهم السامي الذي رفعهم الله تعالى، فأضاعوا القرآن بتضييعهم للعترة لأنهما صنوان لا يفترقان بنص حديث الثقلين المشهور.
وقد عبّر أمير المؤمنين (A) عن هذا الضياع والتيه الذي وقعت فيه الأمة بقوله (A):(أيها الناس لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل. لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقو من قوي عليكم. لكنكم تهتم متاه بني إسرائيل. ولعمري ليضعفن لكم التيه من بعدي أضعافا بما خلفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد) ([14]) وهكذا ضاعت الأمة في تيه طويل لا زالت تتخبّط فيه.
روى العياشي في تفسيره عن الامام الباقر (عليه السلام) قال: (ان رسول الله (صلى الله عليه واله) لما قبض لم يكن على امر الله الا علي والحسن والحسين وسلمان والمقداد وأبو ذر فمكثوا حتى قام علي (عليه السلام) فقاتل من خالفه)[15].
أقول: هؤلاء أكمل من ثبت على الامر ولا ينفي وجود الصلحاء الاخرين كعمار وذي الشهادتين وابن التيهان وابي أيوب ونظرائهم.
وقد ثبت على الحق في المفاصل الحاسمة عبر التاريخ ثلة من الأفذاذ، كالمقداد الذي خاطب رسول الله (J) بعد أن تخاذل فلان وفلان عن مواجهة قريش، حينما أفلتت قافلتهم ووجد المسلمون أنفسهم في قبال جيش أكثر عدداً وأقوى تسليحاً فقال:(لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} والذي بعثك بالحق لو ضربت أكبّادها إلى برك الغماد لاتبعناك) ([16]) فسُرَّ رسول الله (J) وأشرق وجهه ثم تبعه الأنصار بمثل هذه الكلمات.
إن إنقاذ الناس من التيه والحيرة المؤديين إلى الضلال والانحراف الذي أوقعت الأمة نفسها فيه لمخالفتها لوصية رسول الله (J) في أمير المؤمنين (A) وأهل بيته (صلوات الله عليهم أجمعين)، كان هو الدافع لقيام الإمام الحسين (A) بحركته المباركة، فقد ورد في زيارة الامام الحسين (عليه السلام) يوم الأربعين (وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة) وهكذا على طول الزمان يكلّفنا عصيان العاصين وتمرد الفاسقين وخبث الماكرين من طلاب الدنيا هذه التكاليف الباهظة، ولا تنتبه الأمة من غفلتها إلا بعد فوات الأوان، ولا يوَّفق إلا قلة ممن أكرمهم الله تعالى بالوعي والبصيرة فيتخذون الموقف اللائق بهم كأصحاب الإمام الحسين(A).
فالنداء الذي أطلقه الامام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء (هل من ناصر ينصرنا) ليس مختصاً بالقوم الموجودين على ارض المعركة بل هو موجَّه الى كل الأجيال حتى قيام يوم الساعة يدعوهم (عليه السلام) لنصرته على تحقيق الأهداف التي خرج من اجلها، فالحرب مستمرة وان تنوعت أساليب المواجهة وادواتها.
نسأل الله تعالى الثبات على الحق وأن نكون على بصيرة من أمرنا.
[1] - قبس قرآني ألقي على طلبة البحث الخارج يوم الأربعاء 11/ربيع الأول/1445 الموافق 27/9/2023.
[2]- الأمالي - الشيخ الطوسي - الصفحة ٤٢٨، مجمع البيان: 3/181.
[3] - في (بحار الانوار:13/178) ((فانطلقوا يؤمّون الأرض المقدسة وهي فلسطين، وإنما قدسّها لأن يعقوب () ولد بها، وكانت مسكن أبيه إسحاق ويوسف عليهما السلام)).
[4] - في (تفسير النور:2/252) عن موسوعة فريد وجدي ((الجبارون هم قوم العمالقة من الساميين عاشوا في شمال شبه الجزيرة العربية بالقرب من صحراء سيناء، هاجموا مصر واستولوا عليها لفترات طويلة، ودام حكمهم هناك ما يقرب من خمسة قرون)).
[5]- تفسير العياشي: 1/303 /68 , البرهان :3/211
[6]- الدر المنثور :3/48 ط. دار الفكر.
[7] - نهج السعادة: ٢ / 527، ميزان الحكمة: ج ١ /ص ٥٦٢.
[8] - ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج ١ - الصفحة ٨٣٢.
[9] - شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ج ١٨ - الصفحة ١٣١.
[10] - وسائل الشيعة:1/113، أبواب مقدمة العبادات، باب 27 حديث 10.
[11] - سفينة البحار:1/483.
[12] - الدر المنثور:3/52.
[13] - تفسير العياشي: 1/303/68, البرهان: 3/211, بحار الأنوار: ج ٢٨ /ص ٨.
[14] - نهج البلاغة: ج ٢ ص٧٩، نور الثقلين: 1/609.
[15] - تفسير العياشي:1/303/68.
[16] - الدر المنثور:3/271.