خطاب المرحلة (718){وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} تنزيه الأمة الإسلامية عن السبّ
{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}
تنزيه الأمة الإسلامية عن السبّ([1])
قال الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108)
السبّ والشتم: ذكر الآخر ونبزه بما يُنقص قدره ويشين سمعته من الأوصاف القبيحة، وسبّهم لله تعالى ذكرهم له بما لا يليق بمقامه وقد سجّل القرآن الكريم جملة من مقولاتهم الباطلة كقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} (الأنعام:91)، وقيل: أن أصل السب القطع([2]), لأنه سبب للقطيعة أو لأنه يقطع تقدم الآخر وانتشار صيته بذمّه ونسبة النقائص إليه، قال بعض المحققين: ((الأصل في هذه المادة: هو الحصر والحد بالنسبة إلى سعة شيء وانطلاقه واعتلائه، فيقال: سبَّه إذا قال فيه ما يوجب حصره ويمنع عن انطلاقه واعتلائه، والسبب هو ما يُتوصَّل به إلى شيء في مقام حصره والإحاطة به، فمعنى يسبّوا الله: أي يقولون فيه ما يوجب حصر مقامه وتحديد مرتبته وعلوّ شأنه))([3]).
قال في المفردات: ((السب: الشتم الوجيع، وسبّهُم لله ليس على أنهم يسبّونه صريحاً ولكن يخوضون في ذكره فيذكرونه بما لا يليق به ويتمادون في ذلك بالمجادلة فيزدادون في ذكره بما تنزّه تعالى عنه)).
والآية الكريمة تبيّن أدباً من آداب الإسلام الراقية لحفظ كرامة المجتمع المسلم ولتنزيهه عما يشين وهو الترفع عن سبّ الآخر والاكتفاء بدعوتهم إلى الحق بالحجة والبرهان على نحو قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} (النحل: 125), والسبّ ليس من أساليبها حتى لو كان المقابل من الكفّار والمشركين فضلاً عمّن هو أقرب، لأن ذلك يستفزّهم ويدعوهم إلى الرد بما لا يليق بالخالق العظيم ظلماً وجهلاً منهم وحماقة وتعصّباً فينسبون إليه سبحانه النقص والتشبيه والظلم والعجز وغير ذلك تعالى الله عما يصفون، ويكون المؤمن سبباً في هذا التجّاوز عليه.
فالحكم ليس مبنياً على كون المشركين وآلهتهم يستحقون السب أو لا, وإنما لترتب هذا الفعل المقيت، والله تعالى لا ينقصه هذا السبّ ولا يضرّه ولكن هذا الفعل وردة الفعل سيخلقان أجواءً متشنجة وعصبية تعيق هداية الآخرين, لأنها تقطع طريق الحوار وتدفعهم الى العناد والمكابرة، ولا يريد الله تعالى لعبادة المؤمنين أي يكونوا سبباً لزيادة آثام الآخرين، وقد استفاد العلامة الطبرسي (v) من الآية ((دلالتها على أنه لا ينبغي لأحد أن يفعل أو يقول ما يؤدي إلى معصية غيره))([4]), وقد يكون الشخص سبباً في سبِّ والديه، روي عن رسول الله (9) قوله: (من أكبر الكبائر أن يسبَّ الرجلُ والديه، قيل: وكيف يسبُّ والديه؟ قال (9): يسبُّ الرجل فيسبُّ أباه وأمه)([5]), فلا بد من ضبط الانفعالات والتصرف بحكمة ودقة نظر لتأثيرات هذا التصرف وتداعياته.
ومن خالف هذا النهي واتبع حماسه وعاطفته فقد عصى الله تعالى، روى علي بن إبراهيم في تفسيره بسنده عن الإمام الصادق (A) قال: (إنه سُئل عن قول النبي (9) أن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء، فقال: كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون الله وكان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون فنهى الله المؤمنين عن سبّ آلهتهم لكيلا يسبّ الكفّار إله المؤمنين فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون فقال: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ})([6]), والشرك المقصود هو شرك الطاعة وليس شرك العبادة.
والمراد من قوله تعالى: {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يمكن أن يكون على نحو الفاعل أو المفعول به فيشمل الداعي والمدعوِّين, أي الكفار وآلهتهم، لذا فإن النهي عن السب يتسع إلى سائر الرموز المقدسة لدى الآخر لأنه سيدفعه إلى النيل من أولياء الله الصالحين، روى العياشي في تفسيره عن عمر الطيالسي عن الإمام الصادق (A) قال: (سألته عن قول الله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال: فقال: يا عمر هل رأيت أحداً يسبّ الله؟ قال: فقلت: جعلني الله فداك فكيف؟ قال: من سبّ ولي الله فقد سبّ الله)([7]).
وقد دأب الأئمة المعصومون (D) على تربية شيعتهم على التعفّف عن السبّ، فقد ورد عن أمير المؤمنين (A) قوله لبعض أصحابه لما سمعهم يسبّون أهل الشام: (إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ، وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللَّهُمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وأَصلِحْ ذاتَ بَينِنَا وَبَينِهم وَاهْدِهِم مِنْ ضَلالِهم حَتّى يَعرِفَ الحَقَّ مَن جَهِلَه، وَيَرعَوي عَن الغيِّ والعُدوَانِ مَن لَهِجَ به)([8])، وفي نقل: كرهت لكم أن تكونوا لعّانين شتامّين([9]).
أما سبّ المؤمن فهو من الكبائر، قال النبي (9): (سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر)([10])، وروي عنه (9) قوله: (سابّ المؤمن كالمشرف على الهلكة)([11]), وإذا تسابَّ شخصان فوزرهما على البادي، روي عن الإمام الكاظم (A) قوله: (البادي منهما أظلم ووزره ووزر صاحبه عليه ما لم يعتذر إلى المظلوم)([12]), وفي رواية (ما لم يعتدِ المظلوم).
لذا كان من أعظم موبقات معاوية وجرائمه سنّه سبّ أمير المؤمنين (A) وأمر عماله على الولايات بذلك، فقد أرسل معاوية كتاباً إلى عماله قال فيه: ((ألا برئت الذمة ممن روى حديثاً في مناقب علي وأهل بيته، وقامت الخطبة في كل مكان على المنابر بلعن علي بن أبي طالب (A) والبراءة منه والوقيعة في أهل بيته واللعنة لهم بما ليس فيهم (^)))([13])، وعمل بها الأمويون سبعين عاماً عدا فترة عمر بن عبد العزيز وهي سنتان حيث أمر برفع السبّ، وما وجدوا في علي مثلبة يسبونّه بها فافتروا عليه تهماً ليحرضوا الغوغاء عليه كاتهامه بقتل عثمان زورا وبهتانا وهم يعلمون براءته، روي إن أحدهم سأل مروان بن الحكم فقال: ((بأنكم تقولون بأن علياً تهاون في قتل عثمان, قال مروان بن الحكم: معاذ الله إن علياً بريء من دم عثمان كبراءة الذئب من دم يوسف) فقال له: إذن لمَ تقولون ذلك؟ فقال مروان بن الحكم: إن أمرنا لا يستقيم إلا بذلك))([14])، وروى عمرو بن علي بن الحسين، عن أبيه علي بن الحسين (A)، قال: (قال لي مروان: ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم، قلت: فما بالكم تسبّونه على المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك)([15]).
وروى ابن المغيرة عن شعبة: (دخلت مع أبي على معاوية فكان أبي يأتيه فيتحدث معه ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية وعقله ويعجب بما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتمّاً فانتظرته ساعة وظننت أنه لأمر حدث فينا، فقلت: ما لي أراك مغتماً منذ الليلة؟ فقال: يا بني، جئتُ من عند أكفر الناس وأخبثهم! قلت: وما ذاك؟! قال: قلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت سنّاً يا أمير المؤمنين فلو أظهرت عدلاً وبسطت خيراً، فإنك قد كبرت. ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شيء تخافه، وإن ذلك مما يبقى لك ذكره وثوابه. فقال: هيهات هيهات! أي ذكر أرجو بقاءه؟! مَلَكَ أخو تيم فعدل وفعل ما فعل فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: أبو بكر! ثم ملك أخو عدي، فاجتهد وشمّر عشر سنين، فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره، إلا أن يقول قائل: عمر. وإن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمداً رسول الله! فأي عمل لي يبقى، وأي ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك! لا والله إلا دفناً دفناً)([16]).
ويظهر من رواية جليلة عن الإمام الرضا (A) أن كثيراً من روايات مثالب خصوم أهل البيت (D) هي من صنع اعدائهم ونشروها مع ما فيها من منقصه على كبرائهم لتصل الى شيعة أهل البيت (D) ويتداولونها، وتبيّن الرواية بدقة مسالك أعداء أهل البيت (D) لعزلهم وشيعتهم عن بقية الأمة وإثارة الناس عليهم من خلال دسّ ثلاثة أشكال من الروايات أحدها التي تسبّ الرموز المقدسة لدى الآخرين ليتلاقفها أتباع أهل البيت (D) بعاطفة وحماس واندفاع ويتحدثون بها فيتنفّر منهم الآخرون ويعزلونهم ويحاصرونهم ثم يكفّرونهم ويستحلّون دماءهم، وقد نهى النبي (9) عن ذلك بقوله: (لا تسبُّوا الناس فتكتسبوا العداوة بينهم)([17]).
قال إبراهيم بن أبي محمود: (قلت للرضا (A): يا ابن رسول الله إن عندنا أخباراً في فضائل أمير المؤمنين (A) وفضلكم أهل البيت وهي من رواية مخالفيكم ولا نعرف مثلها عنكم، أفندين بها؟ فقال: يا ابن أبي محمود لقد أخبرني أبي عن أبيه عن جده (^) أن رسول الله (9) قال: من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله عز وجل فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس، أي أعرف من تصغي إليه ولا تتبع إلا الحق, ثم قال الرضا (A): يا ابن أبي محمود إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على أقسام ثلاثة: أحدها الغلو، وثانيها التقصير في أمرنا، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا، وقد قال الله عز وجل: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: 108)، يا ابن أبي محمود إذا أخذ الناس يميناً وشمالاً فالزم طريقتنا فإنه من لزمنا لزمناه، ومن فارقنا فارقناه، إن أدنى ما يخرج الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة: هذه نواة، ثم يدين بذلك ويبرأ ممن خالفه، يا ابن أبي محمود احفظ ما حدثتك به فقد جمعت لك فيه خير الدنيا والآخرة)([18]).
فمشاريع الأعداء في ذلك الزمان وفي كل زمان خفّية تنطلي على غير الفطن الذي أنار الله تعالى بصيرته وهي على ثلاثة أنحاء والهدف منها خلق قاعدة شعبية عاطفية مندفعة تتقبل كل طرح يعزّز هويتها ويميزّها عن الآخرين لأنهم يرون العلاقة مع الآخر صراع وجود، وهذا الصراع يستفيد منه بعض المتصدّين تحت هذا العنوان لترسيخ زعامتهم وهيمنتهم.
وبروايات التقصير يستفزّون المغالين المندفعين ويدفعونهم بعيداً باتجاه الغلو لأن المغالين يستمدون حماستهم من مخاصمة المقصّرين، فيخرج المغالون عن حدّ الوسطية والاعتدال الذي أمر الله تعالى به {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة: 143) ويعادون الجميع حتى إخوانهم في العقيدة إذا لم يشاركوهم في تطرفهم وهي نتيجة طبيعية لمن يعتمد الثقافة الحماسية غير المبنية على الدليل المعروف في المصطلح بالشعبوية.
وهذا درس عميق في علمي السياسة والاجتماع نستفيد منه لترشيد علاقتنا في بيتنا الداخلي ومع الآخرين، وقد عمل أعداء أهل البيت (D) كل ما بوسعهم للوصول إلى تطويق مذهب أهل البيت (D) وجعل شيعتهم معزولين فلا ينتشر التشيّع رغم ما فيه من قابلية التأثير والإقناع (فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا)([19])، بل يؤدي إلى ردة فعل جاهلة حمقاء ضد شيعة أهل البيت (D) للانتقام منهم واستئصالهم.
فلا بد من الرجوع إلى القواعد التي رسمها الله تعالى ورسوله (9) وأئمة أهل البيت (D) في التعامل مع الآخرين فإنه هو الحق {فَمَاذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (يونس: 32).
([1]) ألقي هذا القبس القرآني في درس التفسير الأسبوعي على طلبة البحث الخارج يوم الأربعاء 11/ ذو القعدة/ 1444هـ- الموافق 31/ 5/ 2023م تزامناً مع ذكرى ميلاد الإمام الرضا (A).
([2]) معجم مقاييس اللغة- ابن فارس: 3/ 63، جمهرة اللغة- ابن دريد: مادة (سبب).
([3]) التحقيق في كلمات القرآن الكريم للمصطفوي: 5/ 16.
([4]) مجمع البيان: 4/ 72.
([5]) بحار الأنوار: 74/ 46/ ح6.
([6]) تفسير القمي: 1/ 213, بواسطة البرهان: 4/ 19.
([7]) تفسير العياشي: 1/ 373/ ح80, بواسطة البرهان: 2/ 20.
([8]) نهج البلاغة: الخطبة 206.
([9]) شرح نهج البلاغة: 3/ 181, بواسطة ميزان الحكمة: 4 /131.
([10]) كنز العمال: 8094/ ح8093.
([11]) كنز العمال: 8094/ ح8093.
([12]) الكافي: 2/ 360/ ح4.
([13]) بحار الأنوار: 33/ 176.
([14]) الصواعق المحرقة: 55.
([15]) شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد: 13/ 220.
([16]) شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد: 5/ 129، نقلاً عن كتاب الأخبار الموفقيات- للزبير بن بكار: 462، ط. عالم الكتب.
([17]) الكافي: 2/ 360/ ح3.
([18]) عيون أخبار الرضا: 1/ 272.
([19]) عيون أخبار الرضا (×): 1/ 275.