خطاب المرحلة (709){يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} أسباب انهيار الحضارات والدول
{يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (الحشر:2)
أسباب انهيار الحضارات والدول([1])
سورة الحشر جليلة القدر ووردت بعض الروايات في فضلها والثواب العظيم في تلاوتها، كالمروي عن رسول الله (J): (من قرأ سورة الحشر لم يبق جنة ولا نار ولا عرش ولا كرسي ولا الحجب والسماوات السبع ولا الأرضون السبع والهواء والريح والطير والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه واستغفروا له، وإن مات في يومه أو في ليلته مات شهيداً)([2])، وقوله (J): (مَن قرأ هذه السورة كان من حزب الله المفلحين، ولم يبق جنة ولا نار ولا عرش ولا كرسي.. الحديث)([3]).
وهي تحكي تفاصيل غزوة بني النَضير وهم إحدى قبائل اليهود الثلاث الذين سكنوا حول المدينة ترقباً للنبي الموعود الذي تكون دولته في أرض يثرب فأرادوها لهم. وقد وقعت في ربيع الأول من السنة الرابعة للهجرة أي بعد معركة أُحُد بستة أشهر، وكان النبي (J) قد عقد معاهدة سلام وحسن جوار مع اليهود عند نزوله المدينة، وكفل لهم حقوقهم لكن بني النَضير نقضوا العهد وتحالف وفدٌ منهم برئاسة زعيمهم كعب بن الأشرف مع قريش لمناصرتهم عند هجومهم على المدينة، فأخبر الله تعالى نبيّه بهذا الحلف، ثم إنهم تآمروا على قتل النبي (J) حين قصدهم مع جمع من أصحابه طالباً المساعدة في دفع دية قتيلين من بني عامر وهم حلفاء بني النَضير كان أحد المسلمين قد قتلهما اشتباهاً، فصعد أحدهم إلى سطح دار كان النبي (J) يستند إلى جدارها ومعه حجر كبير ليقتل به رسول الله (J)، فأعلمه الله تعالى بعزم القوم فعاد النبي (J) إلى المدينة فوراً وأرسل وفداً إليهم يأمرهم بالجلاء عن المدينة فلم يكترثوا وأجابوه بالتحدي والحرب، فأمر أصحابه بالاستعداد لتأديب بني النضير الذين ظنوا أن لا أحد يقدر على غلبتهم وإخراجهم من أرضهم لقوتهم المادية والعددية فاغتروا بها وغفلوا عن قدرة الله تعالى على فعل ما يريد سبحانه بجنود لا يرونهم وهذا هو تفكير القوى المادية وهو قائم إلى اليوم، فتحصّنوا بقلاعهم {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} (الحشر: 2), فلم يتوقع أحد منهم ولا من المسلمين هزيمتهم بهذه السهولة، لكنَّ الله تعالى شاء ذلك وفعل وأجرى إرادته بأيديهم جلّت قدرته، وأغراهم انهزام المسلمين في معركة أحد فظنوا أنهم قادرون على المواجهة، وخدعهم منافقو المدينة بأننا سننصركم ونقاتل معكم إن حاربتم النبي(J) لكنهم خذلوهم ولم يفوا لهم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْـصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْـصَرُونَ} (الحشر: 11-12)، وقاموا بعدة محاولات لإحداث خرق في جيش المسلمين لكنهم لم يفلحوا وأفشل أمير المؤمنين (A) وعشرة من الأصحاب هذه المحاولات البائسة وقتلَ (A) رأسَ الجماعة المهاجمة([4])، وأستمر الحصار حتى دخلهم اليأس مضافاً إلى وهنهم بقتل رئيسهم كعب بن الأشرف([5]) قبل ذلك حيث اغتاله أحدُ المسلمين بأمر رسول الله (J) لأنه كان يحرّض قريشاً على الثأر لقتلى بدر ويتعرض للنساء المسلمات ويتغزل بهن ويؤذيهن, وقد تملّكهم الرعب فوافقوا على ما عرضه رسول الله (J) عليهم من الجلاء عن أرضهم وديارهم وممتلكاتهم وتركها للمسلمين مقابل سلامتهم ولهم ما حملت الإبل عدا السلاح (فكان الرجل منهم يهدم بيته عن نجاف([6]) بابه، فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به)([7]).
أقول: وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ} لأخذ ما يمكن حمله ولتشكّل الأنقاض عائقاً أمام تقدم المسلمين كما تفعل الجيوش المنسحبة عادةً، ولكي لا تقع صالحةً سليمةً بأيدي المسلمين فيستفيدوا منها، {وأَيْدِي المُؤْمِنينَ} فكان المسلمون - من الخارج- يهدمون ما يعيق حركتهم من الحصون وهم يخربونها من الداخل.
فذهب بعضهم إلى خيبر وآخرون إلى الشام وقيل إلى الحيرة([8]) أيضاً. وهو الجلاء والحشر الذي ذكرته السورة وسميت به {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْـرِ} (الحشر:2).
ولأن النخيل كانت تشكل مانعاً طبيعياً يمنع تقدم المسلمين والاشتباك المباشر مع العدو ويعطي أملاً للعدو بالأمن والسلامة مما يطيل أمد الحرب، فقد أمر النبي (J) بقطع بعض النخيل التي لا يقتاتون منها وحرقها، وأستغل اليهود هذا الفعل لإثارة الشبهة والشك في فعل النبي (J) وقيادته المباركة، فنزهه الله تعالى عن سوء الفعل، وقال سبحانه مشيراً إلى هذه الحركة العسكرية بقوله سبحانه: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (الحشر: 5), فهذا الفعل بأمر الله تعالى ولم يكن فساداً في الأرض ولا انتقاماً ولا عبثاً.
ثم أمرت الآية الكريمة بأخذ العبرة والموعظة من هذه الحوادث {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} حتى لا يكررّوا الخطأ، لكن بني النضير لم يعتبروا بالقبيلة اليهودية التي سبقتهم إلى التمرد ونقض العهد، وهم بنو قينقاع قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (الحشر: 15), حيث غزاهم النبي (J) بعد معركة بدر وأوقع بهم.
إن عنوان البيت في الآية الكريمة يمكن توسعته إلى المأوى المعنوي والاعتباري الذي يلجأ إليه الأفراد ويجتمعون فيه ويستمدون منه هويتهم، ويجدون فيه ما يحتاجون من أسباب الأمن والاستقرار والرفاه والسعادة، كالدولة والأمة والحضارة، وحينئذٍ يكون معنى تخريبهم لبيوتهم هو عدم المحافظة على أوضاعهم الاقتصادية القوية واستقرارهم الأمني ونفوذهم الاجتماعي بتوجههم إلى الغدر ونقض العهد مع رسول الله (J) والتآمر على قتله.
وبناءً على هذا التوسع في المعنى نستطيع القول: إن هذا الجزء من الآية الكريمة يؤسس نظرية اجتماعية سياسية في فهم سرّ انهيار الحضارات والدول والمجتمعات بأنها ترجع إلى عاملين:
1- خارجي: وهم الأعداء المتربصون الذين ينتظرون الفرصة المؤاتية للانقضاض عليهم وإحكام السيطرة عليهم.
2- داخلي: لفقدانهم الروح المعنوية وتعويلهم على القوى المادية من سلاح ومال وكثرة عددية, وهي وحدها لا تصنع النصر.
وهذا العامل الداخلي هو الأقوى في التأثير، وقد لا يحتاج العدو الخارجي إلى أكثر من إحداث هذه الهزيمة الداخلية. وهذا ما حصل لبني النضير فقد هُزِموا من داخلهم من دون قتال وسلّموا أراضيهم وأموالهم وممتلكاتهم مقابل النجاة بأنفسهم وهي نتيجة طبيعية لمن لا يمتلك مبادئ سامية يقاتل من أجلها.
وهذه النظرية جديرةٌ بالتأمل والاعتبار كما أمرت به الآية الكريمة، والاستفادة منها في صراع الحضارات، وقد ذكرت السورة جملة من هذه العوامل الداخلية التي تنخر كيان الأمة وتمزّقها وتضعفها وحذرّت منها وعلى رأسها:
1- فقدان التقوى والوازع الديني {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (الحشر: 18-19).
2- عدم طاعة القيادة الحقة {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الحشر: 7).
3- الاستئثار بالمال والتمايز الطبقي وغياب العدالة الاجتماعية {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (الحشر: 7).
4- الخلافات الداخلية بسبب التعصب والعنصرية والتحزب مما يؤدي الى صراعات تمزق الأمة لذا شدَّد على التماسك الاجتماعي {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9).
ومن أمثلة التأريخية التي توضح هذه النظرية: هزيمة المسلمين في الأندلس بعد أن حكموها أكثر من ثمانمائة عام ولم تقدر الأمم الأوروبية على هزيمتهم، لكن ملوكهم لما انهمكوا في ملذاتهم ولهوهم وشهواتهم ولم يقيموا العدالة الاجتماعية وبدّدوا ثروات البلاد، وصمّوا اذانهم عن سماع الحق، وغفلوا عن أمور الشعب والدولة وأصبحت أمورها تدار من قبل الخدم والجواري وبعضهن من الجاسوسات الأوربيات وانشغل الأمراء بصراعاتهم الداخلية التي مزقتهم إلى دويلات وإمارات واستعان بعضهم بالممالك الأوربية على إخوانهم المسلمين، وبفقدانهم لكل القيم المعنوية ومقومات الصمود تمكنت جيوش الأعداء من هزيمتهم فاستسلموا وسلموا البلاد لهم ولحقهم خزي الدنيا وعذاب الآخرة بتضييعهم هذا الجزء المهم من بلاد المسلمين.
ومن التطبيقات المعاصرة لهذه النظرية الإتحاد السوفييتي الذي كان يمتلك قدرات هائلة مكّنته من الوقوف مقابل حلف شمال الأطلسي طيلة عقود الحرب الباردة، لكن عوامل الضعف نخرت كيانه من الداخل خصوصاً بعد احتلاله أفغانستان عام (1979م) ودخوله في حرب مفتوحة مع الشعب الأفغاني المسلم، فانهار من الداخل بدون قتال وانحلّ الإتحاد عام (1991م) وتشظّى إلى دول عديدة تشهد بعضها صراعات فيما بينها.
والحضارة الغربية سائرة اليوم بهذا الاتجاه خصوصاً بعد اتخاذ أكثر حكوماتهم قراراً بإباحة زواج المثليين وتغيير الجنس وهو عامل تخريب قوي لمقومات الأمة وهي الأسرة، كما أن التخلّي عن المبادئ الإنسانية السامية والتجرد من المعنويات ومن الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، والخواء الفكري والأيديولوجي الذي يعيشونه، وإشاعة ثقافة اللهو والمجون والعبث واللهاث وراء الشهوات وهوس التفاهات يسلب منهم القدرة على استمرار الحضارة، ويجعلهم مجتمعات كسولة مخدَّرة غير منتجة، لذا تجدهم يستعينون بالمهاجرين من البلاد الأخرى لتسيير حياتهم، وهذه كلها أمور تنسف أساس الحضارة، وسيأتي اليوم الذي يزيح هؤلاء المهاجرون سكان تلك البلاد ويحلّون محلّهم {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} (الأحزاب:27).
فعلينا أن نستيقظ ونحذّر من تسرّب هذه العناصر المدمّرة إلى مجتمعاتنا الإسلامية، بل علينا أن ننقل إليهم ما عندنا من منهج ربّاني يصلح البشرية ويسعدها لننقذهم مما هم فيه من الضياع.
([1]) محاضرة ألقاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على طلبة البحث الخارج ضمن سلسلة محاضراته في تفسير (من نور القرآن) يوم الأربعاء 23/رجب/1444هـ- الموافق 15/2/2023م.
([2]) وسائل الشيعة: 6/257/ أبواب قراءة القرآن ولو في غير الصلاة/ باب51/ح31، ثواب الأعمال: 118.
([3]) البرهان في تفسير القرآن، للسيد هاشم البحراني: 5/331، تفسير سورة الحشر.
([4]) راجع السيرة الحلبية: ٢/٥٦٢.
([5]) راجع تفاصيل الحادثة في سيرة ابن هشام: 3/109.
([6]) النجاف: عتبة الباب العليا.
([7]) سيرة ابن هشام: 3/109.
([8]) مجمع البيان: 9/229.