خطاب المرحلة (680){اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}
{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا}([1]) (نوح:10-11)
قال الله تبارك وتعالى وهو يحكي الرسالة التي كان يؤديها النبي العظيم نوح (A) إلى قومه {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (نوح:10-12).
تبيّن الآية الكريمة احدى السنن الإلهية الجارية في البشر وهي الارتباط الوثيق والفاعل بين صلاح البشر وصلاح الأوضاع الكونية العامة المؤثرة في حياة الإنسان، أي أنهم كلما تابوا ورجعوا إلى ربهم وأقاموا الدين في حياتهم، واقلعوا عن ذنوبهم ومعاصيهم وأصلحوا نفوسهم وغيّروا واقعهم الفاسد، فان الله تبارك وتعالى يغدق عليهم بالخيرات وينعم عليهم بحياة طيبة هنيئة، ويزيل عنهم النكد والضيق والمنغصات، فالإيمان والعمل الصالح يجلبان للفرد والمجتمع الحياة الهنيئة والعيش الرغيد، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل: 97), وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} (الجن: 16).
وأشار الى هذه الحقيقة أمير المؤمنين (A) في خطبة الاستسقاء بقوله: (وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الِاسْتِغْفَارَ سَبَباً لِدُرُورِ الرِّزْقِ وَرَحْمَةِ الْخَلْقِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ - ثم قرأ الآية المباركة وقال (A)- فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَءاً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ وَاسْتَقَالَ خَطِيئَتَهُ وَبَادَرَ مَنِيَّتَهُ)([2]).
ويعدهم الله تعالى ويتعهد لهم بالاستجابة اذا طلبوا المغفرة فأنه تعالى موصوف بالمغفرة ومن شأنه ذلك {إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} فان {كَانَ} هنا شأنية والمغفرة صفة ثابتة له، روي عن رسول الله (J) قوله: (أكثروا من الاستغفار فان الله عزوجل لم يعلمكم الاستغفار الا وهو يريد ان يغفر لكم)([3])، وتتسع مغفرته لكل الذنوب {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} (الزمر: 53), ولكن اذا طلبها العبد من ربه فقد ورد عن النبي (J) قوله: (إن الله تعالى يغفر للمذنبين الا من لا يريد أن يُغفَر له! قالوا يا رسول الله من الذي يريد أن لا يُغفَر له؟ قال: من لا يستغفر)([4]).
وتذكر هذه الآيات والتي سبقتها نماذج من هذه النعم التي يجلبها الاستغفار فمنها إطالة الأعمار وتأخير الآجال، حيث تقدم عليها قوله تعالى: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (نوح: 3-4).
ثم ذكرت بعض النعم التي يفهمها المخاطبون وتناسب حياتهم كونهم أهل زراعة وأنعام فقال تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} ويراد بالسماء المطر([5])، أو يراد بها السماء المعروفة وأنها لكثرة ما فيها من مطر كأنها تسقط عليها فيطلق الله تعالى ما فيها غزيراً يدّر بمائه المبارك على الأرض والإنسان بما يحمل معه من خيرات، والدُرور والدر: تتابع السيلان.
PوَيُمْدِدْكُمْO أي يواصل إمدادكم بما يقوّيكم ويمكنكمّ من سدِّ احتياجاتكم الحياتية الهانئة، وأوضح مصاديق الإمداد: الأموال والبنون فان الثروة المالية والبشرية قوام إعمار الحياة بخلاف من يدعون إلى تحديد النسل وتقليل الإنجاب وهي دعوة تتفق مع مشروع الماسونية لإهلاك البشرية Pوَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍO وهي بساتين النخيل والأعناب التي تحتاج الى سقيPوَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًاO تجتمع فيها هذه المياه النازلة لتحمي الناس ومزروعاتهم وممتلكاتهم من الغرق، ولتنقل الماء الى الأراضي الأخرى التي لم يسقط عليها المطر ولتستصلح به الأراضي للزراعة التي هي قوام حياة البشر والحيوانات، ولتكون بيئة لحياة الحيوانات المفيدة للبشر كالأسماك، ولتكون وسطاً ناقلاً لأشخاصهم وبضائعهم فالنقل النهري والبحري يشكل عصب الحياة، وعلى الأنهار تقام المدن والحضارات وبها تعمر الحياة، مضافاً الى كونها محلاً للنزهة والترفيه، وسبباً للحفاظ على التوازن البيئي وتلطيف الجو، وغيرها من الفوائد.
وقوله تعالى PيَجْعَلْO لا يعني على نحو المعجزة بحيث تنزل عليهم جنات كاملة من السماء وإنما يهيء لهم أسباب النجاح وظروفه وعلى الإنسان استثمارها لتحقيق النتائج المطلوبة بإذن الله تعالى وفضله وكرمه.
وفي الآية إشارة إلى أنهم أصيبوا بقحط وجفاف وانقطاع الأرزاق وفقدان الولد بسبب طغيانهم وكفرهم وهو مروي في مجمع البيان([6]) فعلّمهم النبي نوح (A) طريق التخلص من تلك المحن والكوارث وإصلاح أوضاعهم المعيشية.
ولابد من الالتفات الى الآثار المعنوية لهذه النعم فانزال الماء كناية عن تطهير القلوب والنفوس من الادران والكدورات والأوهام الباطلة وإعمارها بالإيمان والعمل الصالح (تعطروا بالاستغفار لا تفضحكم روائح الذنوب)([7]).
وقد تكرّر بيان هذه السنة الإلهية في القرآن الكريم، وان تقوى الأفراد وإقامة النظام الاجتماعي العادل كفيلان بجلب الخير والسعادة للناس، كما في قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} (هود: 52), وقوله تعالى: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} (هود: 2-3).
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} (الأعراف: 96), وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} (المائدة: 66).
والأحاديث الشريفة الدالة على ذلك كثيرة، فقد روي عن رسول الله (J) قوله: (من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همّ فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً)([8]), وعنه (J) قال: (من كثرت همومه فعليه بالاستغفار)([9]), وفي الخصال عن علي (A) في حديث الأربعمائة (أكثروا الاستغفار تجلبوا الرزق)([10]).
وهذه السنة جارية في الاتجاه المقابل أيضاً، فان الناس اذا ابتعدوا عن الله تبارك وتعالى واعرضوا عن العمل بشريعته فان البلاء ينزل عليهم ويحرمون من الخيرات والحياة الكريمة، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم: 41), وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (الشورى: 30).
وروي في تطبيق الآية عن أمير المؤمنين (A) قوله: (توقّوا الذنوب، فما من بليّةٍ ولا نقص رزق الا بذنب، حتى الخدش والكبوة والمصيبة)([11]), وكشف الإمام الصادق (A) عن حقيقة عجيبة يجب التوقف عندها ودراستها حيثما قال (A): (من يموت بالذنوب أكثر ممن يموت بالآجال)([12]), وقال الإمام الرضا (A): (كلما أحدث العباد من الذنوب مالم يكونوا يعملون أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون)([13]).
وقد شرحنا في خطاب سابق([14]) وجهاً لذلك للرد على من يسخر من هذه الملازمة ويفسِّر الأحداث تفسيراً مادياً وضربنا مثالاً تخلّف بعض الدول كالولايات المتحدة عن التوقيع على معاهدة كيوتو للمحافظة على البيئة وهو عصيان وتمرد على هذا القانون الإنساني وأدى ذلك الى حصول ظاهرة الاحتباس الحراري وارتفاع درجة الحرارة مما أدى إلى الحرائق الواسعة وتلوث البيئة والتصحر والفيضانات وغيرها من الكوارث المدمّرة فهذا مثال لتقريب فكرة ان المعصية تنتج المصائب.
والآية الكريمة في الوقت الذي تثير فيه المحفزات لدى الناس للرجوع الى الله تعالى والالتزام بالمنهج الرباني فإنها ترد على عقيدة المشركين الذين يسلّمون بأن الله تعالى هو الخالق {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (لقمان: 25)، الا أنهم يعتقدون أنَّ تدبير الكون وتسيير أموره بيد الهة أخرى فإله للخصب وآخر للانتصار في الحرب وآخر لتحصيل الولد وآخر للصحة وهكذا فتقرّر الآية الكريمة ان مدبر الأمور كافة والمهيمن على الخلق أجمعين هو الله تبارك وتعالى وحده لا شريك له فهو تبارك وتعالى الذي ينزل المطر من السماء ويجعل للناس جنات وأنهار أو ويمددهم بأموالٍ وبنين.
وينبغي إيضاح بعض التفاصيل المتعلقة بهذه الآية الكريمة من خلال نقاط:
1- ان الأنبياء حينما كانوا يؤدون رسالتهم في دعوة الناس الى الله تعالى وتطبيق شريعته، لم يكونوا يكتفون بوعد الناس بالجنة ان آمنوا والوعيد بالنار إن كفروا، أي انهم لم يقتصروا على الجزاء في الآخرة بل تعهّدوا لهم بجلب المصالح الدنيوية أيضاً من رفع مستوى الرفاه الاقتصادي وتحسين الأمن والخدمات، لأن الناس بطبيعتهم يريدون أثراً ايجابياً ملموساً في العاجل {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} (القيامة: 20), حتى يثبت الإيمان في قلوبهم ويثقوا بأن ما اختاروه من النظام هو الصحيح، وهذا المعنى يستفاد من قوله تعالى: Pفَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍO (قريش: 3-4), فمطالبتهم بالعبادة واتباع الدين بعد ان ضمن لهم أهم عنصرين لاستقرار حياة الإنسان الغذاء والأمن، وهذه النتائج العاجلة ساهمت في تثبيت قلوب كثير من المؤمنين بالإسلام وبالنبي (J) فهم لمسوا بركات الدين الجديد في حياتهم، حيث توحدّوا وتآلفت قلوبهم بعد أن مزقتهم الحروب الدامية وأهلكتهم، وتكوّنت منهم أمة موحدّة قوية، ووجدوا الرفاه الاقتصادي حينما بسطوا نفوذهم على تمام الجزيرة العربية وفتحوا بلاد الفرس والروم وأصبحوا أسياد الدنيا وصارت لهم دولة مهابة.
فعلى العاملين الرساليين والساعين لإقناع الناس بمشروع الإسلام أن يعوا هذا الدرس فلا يكتفوا بالمواعظ والشعارات والادعاءات، وتأجيل الثواب والعقاب إلى يوم القيامة، بل عليهم أن يقدّموا حلولاً عملية لمشاكل الناس ويقودوا مبادرات لتحسين أوضاعهم حتى يلمس الناس بركات المشروع الإسلامي وما يجلب لهم من مصالح خصوصاً اذا مكّن الله تعالى لهم في الأرض وجعل لهم نفوذاً وسلطة، بل عليهم أن يَسعَوْا لهذا التمكين حتى يستطيعوا أن يقدموا تلك الخدمات للناس فان هذا واجب على من يستطيع منهم {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} (النساء: 75)، ومقدمة الواجب واجبة كما قالوا، وهذا باب ينفتح منه ألف باب يفهمها أهلها من النخب والكفاءات.
2- ان الاستغفار له حقيقة تتضمنها كلماته وليس مجرد تحريك اللسان بها، وهذه الحقيقة عبارة عن برنامج متكامل من المواقف والأفعال، وقد شرح أمير المؤمنين (A) هذه الحقيقة عندما سمع قائلاً بحضرته: (استغفر الله) فقال (A): (ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، أَتَدْرِي مَا الْإِسْتِغْفَارُ؟ الْإِسْتِغْفَارَ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ، وَهُوَ اسْمٌ وَاقِعٌ عَلَى سِتَّةِ مَعَانٍ: أَوَّلُهَا: النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى. وَالثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الْعَوْدِ إِلَيْهِ أَبَداً، وَالثَّالِثُ: أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ حُقُوقَهُمْ حَتَّى تَلْقَى اللهَ أَمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ، وَالرَّابِعُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَيْكَ ضَيَّعْتَهَا فَتُؤَدِّيَ حَقَّهَا، وَالْخَامِسُ: أَنْ تَعْمِدَ إِلَى اللَّحْمِ الَّذِي نَبَتَ عَلَى السُّحْتِ فَتُذِيبَهُ بِالْأَحْزَانِ، حَتَّى يَلْصِقَ الْجِلْدُ بِالْعَظْمِ، وَيَنْشَأَ بَيْنَهُمَا لَحْمٌ جَدِيدٌ، وَالسَّادِسُ: أَنْ تُذِيقَ الْجِسْمَ أَلَمَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتَهُ حَلاَوَةَ الْمَعْصِيَةِ، فَعِنْدَ ذلِكَ تَقُولُ: (أَسْتَغْفِرُاللهَ) )([15]).
لذلك روي ان علياً (A) علّم شخصاً الاستغفار لتوسعة الرزق ففعل ولم يحصل تغيير في حياته، فقال (A): (لعلك لا تُحسن ان تستغفر، قال: علمني، قال (A): أخلص نيّتك وأطع ربَّك)([16]).
3- الاستغفار المقصود بالآية له معنى أسمى وأرقى وأوسع من المعنى الخاص للاستغفار الذي هو الندم على ذنب ارتكبه وطلب العفو والصفح عما صدر منه من الذنوب التي وقع فيها وصدرت منه فعلاً, لأنه هنا يعني مطلق العودة الى الله تعالى والإيمان به والالتزام بشريعته ولو بقرينة الآيات المشابهة المتقدمة عليها في نفس السورة التي صرّحت بذلك {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} (نوح: 3-4)، فهي دعوة إلى سبب المغفرة بلسان طلبها وبيان لموجبها وحث عليه: وهو الإيمان وطاعة الله ورسوله (J) والعمل الصالح قال تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران: 31), وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (الأنفال: 29), وقال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} (النساء: 31), فالآية الكريمة تدعو الى طلب العصمة والوقاية من الوقوع في الذنب أصلاً بالاشتغال بالطاعة وبالالتفات إلى الآثار السيئة للذنوب وعاقبتها القاسية، قال أمير المؤمنين (A): (عجبت لأقوام يحتمون الطعام مخافة الأذى كيف لا يحتمون الذنوب مخافة النار)([17]), وبالالتفات أيضاً إلى الأثر المبارك لاجتناب الذنب ونشوة النصر على النفس والشيطان، روي عن رسول الله (J) قوله: (من أعرض عن محرم أبدله الله به عبادة تسرُّه)([18]), وعنه (J) قال: (غضوا أبصاركم ترون العجائب)([19]), وعنه (J) قال: (ما من مسلم ينظر امرأة أول نظرة ثم يغضوا بصره الا أحدث الله تعالى له عبادة يجد حلاوتها في قلبه)([20]), وفي حديث آخر عن الامام الصادق (A): ( من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى السماء أو غمض بصره لم يرتد اليه بصره حتى يزوّجه الله من الحور العين)([21]), فالآية الكريمة تدعو الناس إلى طلب المعونة من الله تعالى على أن يسدَّد العبد ويعينه على طاعته وتجنب معصيته, أي الاستغفار بالدفع لا بالرفع, روي عن الإمام الكاظم (A) قوله: (إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب؟ وترك الدنيا من الفضل، وترك الذنوب من الفرض)([22]), وفي الدعاء (اللهم ارزقنا توفيق الطاعة وبعد المعصية)([23]), وفي أدعية أيام شهر رمضان (اللهم قرّبني فيه إلى مرضاتك وجنبني فيه من سخطك ونقماتك)([24])، وورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين (A): (اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات)([25]), ووجه الأولوية أن ارتكاب الذنب له أثر يبقى وإن غفر الذنب وسقطت عقوبته، فالمطلوب عدم الوقوع في الذنب أصلاً عن رسول الله (J) قال: (من قارف ذنباً فارقه عقل لا يرجع إليه أبداً)([26]), وان كان المأمول من كرم الله تعالى أن يزيل كل الآثار بل يبدّل السيئات الى حسنات {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الفرقان: 70).
4- قد يقال بأننا نرى أمماً فاسقة معرضة عن الله تعالى وهي تتنعم بالرفاهية والعيش الرغيد وهذا خلاف السنة المذكورة، وجوابه بوجوه:
أ/ ربما كان نعيمهم هذا جزاءً لالتزامهم ببعض القيم الإنسانية التي يحبّها الله تعالى كما ينقل عنهم - وهذه من ميراث الأنبياء والعلماء الصاحين الذين أسّسوا - فما يتنعمون به ليس خارجاً عن هذه السنة الإلهية بل دليل عليها.
ب/ إنهم مرّوا بكوارث كثيرة كالحربين العالميتين اللتين أزهقتا أرواح حوالي مئة مليون من البشر والحروب الداخلية الطاحنة التي استمرت قروناً، وانتشار الأوبئة الفتاكة، فالنظر إلى نعيمهم الحالي فيه قصور واقتصار على حلقة يسيرة من زمن طويل.
ج/ ان في هذا استدراجاً لهم واغراءً {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} (القلم: 44), لاستحقاق المزيد من العذاب {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} (آل عمران: 178).
5- وقد يصاغ الاشكال في الجانب الآخر فيقال بأننا نرى أشخاصاً مؤمنين ملتزمين بالشريعة قد ضيق عليهم في المعيشة وابتلوا بمصائب متنوعة، وجوابه: أن ظاهر الآية الكريمة أنها تقرّر هذه السنة بلحاظ مجموع الأفراد أي الأمم والمجتمعات وأنها كلما صلحت وتحلّت بالفضائل وأقامت نظاماً صالحاً عادلاً أغدقت عليها النعم لأنها ستكون نتيجة طبيعية لهذا الصلاح ولا يتحقق هذا النظام الا بتطبيق الشريعة الإلهية والواقع يشهد بذلك فالنتيجة حتمية.
لكن هذا لا يعني عدم جريانها في حق الأفراد أيضاً لكن على نحو الاقتضاء لا العلّية كما في المصطلح أي أنها تقبل الاستثناء ويمكن أن تتخلّف النتيجة، اذا وجد مانع فيه مصلحة للفرد نجهلها، ولولا هذا المانع لأوجب الاستغفار هذه النتيجة جزماً، اذ قد يكون الأصلح للعبد أن يمرَّ بهذا الضيق لتكامله ورفعة درجاته أو لتحصيل شيء أفضل مما كان يطلبه فيضحي بالقليل من أجل الكثير كما في الآية الشريفة {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 216), وفي دعاء الافتتاح (ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور)([27]).
ومما يدلّ على جريانها للأفراد تعليم الأئمة (D) مضمونها لمن طلب الولد أو السعة في الرزق، فقد روى الشيخ الصدوق في الفقيه عن الامام السجاد (A) أنه قال لبعض أصحابه: (قل في طلب الولد: {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} (الأنبياء: 89) واجعل لي من لدنك ولياً يرثني في حياتي ويستغفر لي بعد موتي واجعله لي خلقاً سوياً، ولا تجعل للشيطان فيه نصيباً، اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك إنك أنت الغفور الرحيم "سبعين مرة"، فإنه من أكثر من هذا القول رزقه الله تعالى ما تمنى من مال وولد ومن خير الدنيا والآخرة، فإنه يقول:{اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا})([28]).
وفي الكافي بسنده قال: (شكا الأبرش الكلبي إلى أبي جعفر (A) انه لا يولد له فقال له: علمني شيئا قال: استغفر الله في كل يوم أو في كل ليلة مائة مرة فإن الله يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} إلى قوله: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ})([29]).
وفيه أيضاً بسنده عن سعيد بن يسار قال: (قلت لابي عبدالله (A): لا يولد لي، فقال (A): استغفر رَّبك في السحر مائة مرة، فان نسيته فاقضه)([30]).
([1]) خطبتا صلاة عيد الفطر السعيد عام 1443هـ- الموافق 3/5/2022م.
([2]) نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده: 2/290/ الخطبة141.
([3]) ميزان الحكمة: 6/431, عن تنبيه الخواطر: 1/5، الدر المنثور: 8/ 290 بسنده عن سلمان.
([4]) ميزان الحكمة: 6/431, عن مستدرك الوسائل: 12/122/ح13685.
([5]) روي في الموطأ والصحيحين عن زيد بن خالد الجهني أنه قال: (صلّى بنا رسول الله (J) صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل) وقال معاوية بن مالك بن جعفر:
اذا نزل السماء بارض قومٍ رعيناه وإن كانوا غضابا.
أنظر: التحرير والتنوير- ابن عاشور: 29/١٩٨,- موطأ مالك: 2/٢٦٨/ح٦٥٣,- صحيح البخاري: ٢/٣٨٨/ رقم٨٤٦,- صحيح مسلم: ١/٨٣/ رقم٧١.
([6]) مجمع البيان: 10/457، بحار الأنوار: 93/278/ح7.
([7]) البحار: 93/ 278/ح7.
([8]) ميزان الحكمة: 6/435 عن الدعوات: 86/29
([9]) الكافي: 8/93/ح65.
([10]) الخصال - الشيخ الصدوق: 2/615.
([11]) بحار الأنوار: 73/350/ح47.
([12]) ميزان الحكمة: 6/435, عن الدعوات: 86/29, مثلاً ينظر في جهاز الموبايل وهو يقود السيارة أو يخالف الإشارات المرورية فيرتكب حادثاً مفجعاً بسبب هذا الخطأ، أو يلقي تهماً من غير دليل فتحصل فتنة واقتتال يزهق أرواح الناس وهكذا.
([13]) الكافي: 2/275/ح29.
([14]) خطاب المرحلة: 1/394.
([15]) نهج البلاغة: 4/97.
([16]) ميزان الحكمة: 6/435, عن كنز العمال: 3966.
([17]) تحف العقول: 204.
([18]) بحار الأنوار: 77/121/ح20.
([19]) بحار الأنوار: 104/41/ح52.
([20]) ميزان الحكمة: 9/46, عن كنز العمال: 13059.
([21]) ميزان الحكمة: 9/46, عن مكارم الأخلاق: 1/505/ح1747.
([22]) بحار الأنوار: 78/301/ح1.
([23]) مفاتيح الجنان: 163.
([24]) مفاتيح الجنان: 298.
([25]) غرر الحكم: رقم 1522.
([26]) ميزان الحكمة: 3/370, عن المحجة البيضاء: 8/160.
([27]) مفاتيح الجنان: 233.
([28]) من لا يحضره الفقيه - الشيخ الصدوق: 3/474.
([29]) الكافي: ٦/٨/ح٤، نور الثقلين: 5/256/ح10، البرهان: 10/40/ ح1.
([30]) الكافي: 6/9/ح6، البرهان: 10/40/ح3.