خطاب المرحلة (659)(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) من البلاء ما نستطـيع دفعه

| |عدد القراءات : 96
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا) (يونس:98)

من البلاء ما نستطـيع دفعه ([1])

قال الله تبارك وتعالى (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) (يونس:98).

(لَوْلا) أداة حث وتحضيض، فالآية الكريمة تحث أهل الدنيا جميعاً بأن يرجعوا الى الله تعالى وأن يعودوا إلى طريق الاستقامة لينفعهم ذلك في كشف البلاء ورفع العذاب النازل عليهم أو دفعه قبل حلوله بهم، لكن هذا الحث مشوب بالتأسف والحسرة لعدم استجابة الأمم لهذه الدعوة المخلصة إلى أن ينزل بهم البلاء وتحلّ الكارثة ويرونها بأعينهم حيث لا ينفعهم الرجوع، كما أنبأت الآيتان المتقدمتان (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس:96-97) ومثل هذا الايمان باللسان الذي يحصل عند نزول العذاب لا ينفع في رفعه لأنه لا يكون عن صدق وإخلاص نية كالذي حصل لفرعون، قال تعالى (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس:90) فهذا ليس إيماناً صادقاً بالله تعالى لأنه ليس ايماناً اختيارياً منتجاً رغم الإنذارات والعلامات المتكررة وإنما تظاهروا به خوفاً من العذاب والبأس بعد حلوله.

وهذه من السُّنن الإلهية الثابتة التي لا تختص بقوم يونس قال تبارك وتعالى (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ) (غافر:84-85) وقال تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) (الأنعام:158) وتجري هذه السُّنة في كل عاصٍ مسوِّف للتوبة يخدع نفسه بالأمل من دون أن يصدقه بالعمل، ولا يحذر فوات فرصة التوبة بحلول الأجل.

وترغّبهم الآية الكريمة بأن يكونوا كقوم يونس وتقول لهم هلّا كنتم كقوم يونس الذين استثنتهم فأنهم آمنوا قبل حسم الأمر بنزول العذاب وبمجرد أن رأوا علاماته ونذره وتيقّنهم من صدق ما وعدهم به نبيهم يونس (صلوات الله عليه) فنفعهم إيمانهم وكشف عنهم العذاب، وقد وصفتهم الآية بصدق الايمان (لَمَّا آمَنُوا).

روى القمي في تفسيره بسنده عن الامام الصادق (A) قال (ما ردّ الله العذاب إلا عن قوم يونس، وكان يونس يدعوهم إلى الاسلام فيأبون ذلك، فَهَمَّ أن يدعو عليهم وكان فيهم رجلان: عابد وعالم، وكان اسم أحدهما مليخَا، والآخر اسمه روبيل، فكان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم، وكان العالم ينهاه ويقول: لا تَدْعُ عليهم فإن الله يستجيب لك، ولا يُحِبُّ هلاك عباده، فَقَبِلَ قول العابد ولم يقبل من العالم فدعا عليهم، فأوحى الله إليه: يأتيهم العذاب في سنة كذا وكذا، في شهر كذا وكذا، في يوم كذا وكذا، فلما قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد، وبقي العالم فيها، فلما كان في ذلك اليوم نزل العذاب، فقال العالم لهم: يا قوم افزعوا إلى الله فلعله يرحمكم ويرد العذاب عنكم، فقالوا: كيف نصنع؟ قال: اجتمعوا واخرجوا إلى المفازة وفرقوا بين النساء و الاولاد، وبين الابل وأولادها، وبين البقر وأولادها، وبين الغنم وأولادها، ثم ابكوا وادعوا، فذهبوا وفعلوا ذلك وضجوا وبكوا فرحمهم الله وصرف عنهم العذاب)([2]) والموقف يبيّن الدور العظيم للعالم الواعي الذي يقود أمته ببصيرة نحو الأمان.

ومما ورد في هذه الرواية مما يبيّن سعة رحمة الله تعالى وشفقته على عباده حتى الكفار منهم، أنه لما ألقى الحوت النبي يونس (A) على الشاطئ مريضاً ضعيف البدن: وأنبت الله عليه شجرة من يقطين ليتغذى منها([3]) ويستظل بها (فلما أن قوي واشتد بعث الله دودة فأكلت أسفل القرع فذبلت القرعة ثم يبست، فشق ذلك على يونس فظل حزيناً فأوحى الله إليه: مالك حزيناً يا يونس؟ قال: يا رب هذه الشجرة التي تنفعني سلطت عليها دودة فيبست، قال: يا يونس أحزنت لشجرة لم تزرعها ولم تسقها ولم تَعْنَ بها إن يبست حين استغنيت عنها، ولم تحزن لأهل نينوى أكثر من مائة ألف؟ أردتَ أن ينزل عليهم العذاب؟ إن أهل نينوى قد آمنوا واتقوا فارجع إليهم)([4]).

فالآية الكريمة تقدِّم علاجاً شافياً لكثير من مشاكلنا ومعاناتنا التي تؤلمنا وندعو الله تعالى أن يخلّصنا منها ولا نعلم أن طرف الحل بأيدينا. وإن من البلاء الذي يقع على الانسان يستطيع دفعه بنفسه، وذلك لأن جملة من هذه الصعوبات التي يمرّ بها الإنسان هي من صنعه وكسب يديه، فلو أراد التخلص منها فليتجنب الأسباب التي أدّت إليها وهي الأفعال السيئة، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) والباء هنا سببية أي بسبب ما كسبوا، وإن ما حصل لهم هو نتيجة لبعض ما جنت أيديهم، وإلا فإن استحقاقهم أكثر لكن الله تعالى يعفو بكرمه وحلمه عن كثير، قال تعالى (أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ) (الشورى:34) أي يهلكهن –وهي السفن في البحر- بأهلهن بإرسال الرياح العاتية عليها بما كسبوا من الذنوب، ولكن الله تعالى يعفو عن الكثير وقال تعالى (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى:30).

والخلاصة أن كثيراً من البلاء يستطيع الإنسان دفعه قبل حصوله، وليس فقط رفعه بعد حصوله من خلال اجتناب مسبّباته، ولكن الإنسان لا يلتفت إلى هذه الحقيقة، أو لا يلتفت إلى ما تكسبه يداه من أعمال، وإذا التفت فإن الكثيرين يستصغرون ما يصدر منهم من أقوال وأفعال ولا يقدّرون عواقبها، فيتساهلون فيما يصدر منهم بينما حذَّر المعصومون (%) من الاستهانة بالذنوب بكل مراتبها (لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر لمن عصيت)([5])، ولو على مستوى كلمة غير مسؤولة قد تقال هنا وهناك تسبّب سفك الدماء وهتك الأعراض وإهلاك الحرث والنسل، ولكي نقرب فكرة أن خطأً بسيطاً قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، بما يحصل أحيانا من أن غفلة صغيرة من سائق السيارة أو التفاته تؤدي إلى حادث مفجع. كما يتساهل السياسيون والمتنفّذون في التجاوز على المال العام، الذي هو ملك عموم الناس الذين هم أيتام آل محمد (’) المقطوعون عن إمامهم فمن أكل أموالهم كان مشمولاً بالآية الشريفة (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء:10)،

ولذلك تجد في الكثير من الأدعية أن الأئمة المعصومين (^) يعلموننا الاستغفار مما نعلم ومما لا نعلم من الذنوب، وما ظهر منها وما بطن.

ولكي نقرأ هذه السُنّة الإلهية بشكل دقيق لابد من ملاحظة ما يلي:

1- إن بعض البلاء يجريه الله تعالى على عباده الذين اصطفاهم ليرفع درجاتهم ولينالوا المقام المحمود عند الله تعالى قال تعالى (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) وفي أخبار مقتل الإمام الحسين (×) إن جده رسول الله (’) قال له: (إن لك في الجنة درجات لا تنالها إلا بالشهادة)([6]) فمثل هذا البلاء ليس سببه ما ذكرنا من أفعال سيئة والعياذ بالله تعالى.

2- إن الله تبارك وتعالى حينما يترك بعض الناس يمرّون ببلاء معين ولا يتدخل لرفعه وإن ألّح صاحبه بالدعاء والطلب فليس ذلك انتقاماً منهم سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً وإنما يريد لهم الخير وما يصلح حالهم فقد يكون الفقر أصلح لحال شخص من الغنى لأن الغنى يبطره ويبعده عن الله تعالى ويوقعه في المعاصي، ويحرم آخر من الذرية لأنه لو رزق منها لكانت شريرة وبالاً عليه بسبب الظروف المحيطة بهم وهكذا.

3- بعض الذنوب اجتماعية عامة لا تقتصر في آثارها على مرتكبيها فقط بل تشمل كل الناس حتى الصالحين قال تعالى(وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) ومثل هذه الابتلاءات يدفع ضريبتها ناسٌ لم يكونوا السبب فيها، وعلى رأسها ما يحصل من آثار سلبية بسبب ترك فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذكرتها الأحاديث الشريفة كتسلط الأشرار فأن صلحاء الأمة قبل فُسّاقها يشملهم هذا البلاء.

ومن أمثلة البلاءات العامة التي لا تقتصر آثارها على فاعليها من حياتنا المعاصرة سوء اختيار الناخبين عند الادلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع فإن النتيجة تحكّم الفاسدين والظلمة والمنحرفين الذين لا يرقبون في الأمة إلاًّ ولا ذمة فتحصل كوارث اقتصادية واجتماعية واخلاقية وفكرية وبيئية بسبب حماقات وسياسات ظالمة لبعض المتصدين لكن شرها عمّ الجميع ولم يقتصر على الناس الذين يستحقون ذلك لأنهم هم من انتخب أولئك الحمقى الأنانيين وأجلسوهم في مواقع المسؤولية.



([1]) كلمة القاها المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 22/شوال/1442 الموافق 4/6/2021

([2]) بحار الأنوار: 14/381 ح 2 عن تفسير القمي 2/49

([3]) أثبتت الدراسات والتجارب العلمية فوائد القرع في تقوية جهاز المناعة وصحة القلب والشرايين وتزويد الجسم بالفيتامينات والمعادن الأساسية.

([4]) بحار الأنوار: 14/383

([5]) بحار الأنوار: ج 77 / ص 79

([6]) بحار الأنوار: ج 44 / ص 313