خطاب المرحلة (658)(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) الفتن تصقل شخصية المؤمن وتفجّر طـاقاته
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت:2)
الفتن تصقل شخصية المؤمن وتفجّر طـاقاته ([1])
تكشف الآية عن احدى السنن الإلهية الجارية في عباده، وهي سنة الابتلاء بالفتن لتمييز الصادق الثابت على الحق من المنافق والكاذب والضعيف الذي يعدل عن الحق الى الباطل بمجرد مروره بصعوبات ومضايقات تكلّفه التضحية بشيء من ماله أو جهده أو منزلته الاجتماعية.
وكأن غرض سورة العنكبوت بيان تفاصيل هذه السنة الإلهية وضغوط الفتن التي يتعرض لها المؤمنون، وتستعرض باختصار نماذج من جهود ومعاناة الأنبياء الكرام، نوح وإبراهيم ولوط وشعيب (صلوات الله عليهم أجمعين) في مواجهة الصعوبات والفتن من أقوامهم عاد وثمود وقارون وفرعون وهامان، ثم يبيّن هوان هؤلاء الطواغيت الذين فتنوا الناس عن دين التوحيد وأنهم أخذوا بذنوبهم بألوان متعددة من العذاب (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ) (العنكبوت:40) ويصف جبروتهم بأنه أوهن من بيت العنكبوت، وبعد أن يذكر بعض اشكال الفتن واسبابها فإنه وفي نهاية السورة يطمئن المؤمنين بأن ما يصيبهم في مواجهة الفتن سبب لتكاملهم ورفعة درجاتهم فليصبروا وليثبتوا (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
و (حَسِبَ) بمعنى (ظنّ) فالآية تستنكر بصيغة الاستفهام ظَنَّ بعض الناس بأن مجرد التلفظ بالشهادتين يجعله في مصاف المؤمنين المستحقين للفوز برضوان الله تعالى، وهذا ظن خاطئ إذ لابد من اقتران الأقوال بالأفعال، والثبات على طريق الاستقامة فكراً وسلوكاً، وعدم الابتعاد عنه اتباعاً لشهوة أو انسياقاً وراء غضب أو طاعة لزعامة منحرفة.
وقيل في معنى الآية ان بعض الناس يظنون أنهم بمجرد قولهم آمنّا لابد أن يحظوا بالامتيازات وترفع عنهم التكاليف وتكون لهم كرامة تعفيهم من المسؤولية قال تعالى (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (الحجرات:17)، وهذا الظن موجود عند بعض الناس الذين يعتقدون بأن لهم شأنية خاصة تميزهم عن باقي الناس لابد من مراعاتها فاذا طبّقت عليهم قواعد العدالة الاجتماعية فتِنوا وزلّت أقدامهم وانحرفوا كالذي حصل لبعض العناوين الكبيرة من الصحابة عندما تولّى أمير المؤمنين (A) الخلافة وأرجع الجميع الى ميزان العدالة الاجتماعية فقاتلوه على هذه الامتيازات، والمعنى الأول على أي حال هو الأكثر انسجاماً مع سياق الآيات.
وفي معنى الفتنة قال الراغب ((أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من ردائته، واستعمل في ادخال الانسان النار، قال تعالى (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) (الذاريات:13))).
وقال بعض المحققين([2]) ان الفَتْن يعني إحداث الانقلاب والاضطراب والاختلال، وهو معنى قريب، وقد عبَّر أمير المؤمنين (A) عن هذا المعنى الدقيق للفتنة بقوله (وَ اَلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ[3] حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَ أَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَ لَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا)[4]، وهي تعابير صريحة في معنى الاختلال والاضطراب كالغليان، وحينئذٍ يكون اطلاق لفظ الفتن على الادخال في النار ــ كما عن الأكثر ــ باعتباره أحد موجبات حصول هذه الحالة، كما يطلق أحياناً على النتائج والمآلات كقوله تعالى (ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ) (الذاريات:14) أي عذابكم باعتباره نتيجة فتنة الضلال، وكقوله تعالى (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)(التوبة:49) أي العذاب باعتبار الفتنة السبب الموجب له.
وبهذه المناسبات واللحاظات يستعمل لفظ الفتنة في الامتحان والابتلاء والاختبار رغم انها ليست متطابقة في معانيها الدقية وإنما أطلقت باعتبارها أسباباً أو مظاهراً للفتنة أو نتائج لها فالفتنة ابتلاء وامتحان، والابتلاء والامتحان سبب للفتنة وهكذا، فلذا يطلق بعضها على بعض.
وللفتنة مصاديق يتحقق بها معناها كالأموال والأولاد (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (الأنفال:28) (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ) (التغابن:15) والزوجة قد تكون فتنة (إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) (التغابن:14) وفي وصف النبي الكريم عيسى (A) (ولم تكن عنده زوجة تفتنه)([5]) كما ان للفتنة اسباباً ومناشئ نفسية واجتماعية مثل الكفر والجهل والحماقة والتطرّف والشهوات والتعصب والغضب والعجلة والاختلاف والفرقة والتحزب، فإنها كلِّها فتن تسبب اضطراباً واختلالاً في جريان الأمور وتحولاً نحو الخير أو الشر (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء:35)، فلابد أن يتثبت الإنسان من موقفه وموطئ قدمه، وإلا زلّ وهوى.
وتفيد الآية بأن الناس غيرُ متروكين لأنه لابد من تعرضهم للفتن، ومرورهم باختبارات وابتلاءات لتظهر معادنهم ولتميز حقائقهم (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (الأنفال:37) فان ادعاء العناوين الكبيرة كالمؤمن والمجاهد والمتقي والمصلح أمر سهل الا ان الإثبات والثبات أمر صعب لقوة التحديات التي تواجهه، وهو يحمل رسالة التوحيد وخلافة الله تعالى في الأرض، ويتحمل مسؤولية إصلاح الواقع الفاسد وهداية الناس الى الحق ونبذ ما سوى الله تعالى من الآلهة التي تطاع من دون الله ابتداءاً من النفس الأمّارة بالسوء إلى الأمور الأخرى التي يتعلق بها الناس ويطيعونها ونحو ذلك من لوازم تحمل الأمانة الإلهية، فهي سباحة ضد التيار الجارف كما يقولون خصوصاً مع عناد ومقاومة الملأ وهم أهل النفوذ والمصالح المتحكمون في المجتمع، فيحتاج الى صبر وجهد وشجاعة حتى يصل الى بر الأمان.
وهو ما يفشل فيه الكثير من الناس فأنهم يسقطون في أدنى امتحان قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11) وقال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) (العنكبوت:10).
لذا كان من الحكمة الإلهية مرور الإنسان بهذه الفتن لتصقل شخصيته المعنوية ويتكامل إيمانه ويثبت ويستقر فان الطاقات تتفجّر عند الشدائد وتنضج القابليات وتصقل المواهب ويدرك المؤمن عظمة الرسالة التي تحملها فلا يفرّط فيها مهما كان الثمن لأنه دفع ثمناً غالياً في سبيلها فالتعرض للفتن يراد به مصلحته، روي عن الامام الصادق (A) قوله (ليس شيء فيه قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه إلا وفيه من الله عزوجل ابتلاء وقضاء)([6])، روى في الكافي بسنده عن معمر بن خلاد قال: (سمعت أبا الحسن (A) يقول (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) ثم قال لي: ما الفتنة؟ قلت: جعلت فداك الفتنة في الدين، فقال: يفتنون كما يفتن الذهب، ثم قال يخلصون كما يخلص الذهب)([7])، وروى الكليني عن أمير المؤمنين (A) قوله في خطبة له: (ولكن الله عزوجل يختبر عبيده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبر من قلوبهم، وإسكاناً للتذلل في نفوسهم، وليجعل ذلك أبواباً فتحاً إلى فضله، وأسباباً ذللاً إلى عفوه وفتنته)) [8]( ثم قرأ الآية.
وقد تكون الفتنة شديدة والامتحان صعباً فاذا وجد الشخص نفسه ضعيفاً عاجزاً عن مواجهة الفتنة وتحمّل تكاليفها، ولم يستطيع المحافظة على إيمانه والتزامه بالدين في هذه البقعة لشدة البلاء فيها فليهاجر الى غيرها حيث يستطيع أن يحافظ على دينه ولو متستراً قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) (النساء:97)، ولا يجوز له أن يضعف أو يستسلم ويترك دينه ويتنازل عن عقيدته الحقّة فان الدين أهم شيء في حياة الانسان قال تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ)([9]) (البقرة:191) وقال تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة:217)، روى في الدر المنثور في قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) (العنكبوت:10) قال ((ناس من المنافقين بمكة كانوا يؤمنون فاذا أوذوا وأصابهم بلاء من المشركين رجعوا الى الكفر والشرك مخافة من يؤذيهم وجعلوا أذى الناس في الدنيا كعذاب الله))([10]).
وتؤكد الآية التالية بأن هذه السنة الإلهية غير مختصة بهذه الأمة بل هي شاملة لجميع البشر المكلفين المشمولين بقانون الثواب والعقاب (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) وما دامت الأمم الأخرى كلها قد تعرضت للفتن ابتلاءاً واختباراً فما الذي يعفي هذه الأمة منها؟، وقد تعرَّض المؤمنون في تلك الأمم لأشكال من فتن الشهوات والمغريات والترف والرخاء (وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا) (الروم:9)، كما تعرضوا لألوان قاسية من العذاب، قال في جوامع الجامع: في الحديث قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرق فرقتين ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه)([11]) ومنه ما يحكيه القرآن الكريم في سورة البروج عن المؤمنين الذين حفرت لهم خنادق واشعلت فيها النيران وألقوا فيها أو يتخلوا عن عقيدة التوحيد قال تعالى (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (البروج:4-8).
وتشتد الفتنة حينما يطول البلاء بالمؤمنين وتكثر الصعوبات عليهم ولا يرون في الأفق فرجاً قريباً حتى تذهب ببعضهم الظنون الى عدم صدق وعد الله تعالى بالنصر والفرج قال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيب) (البقرة:214)، وقال تعالى (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف:110).
وفي التذكير بذلك تثبيت لقلوب المؤمنين وتقوية لعزمهم، وتشجيع لهم بأنه مهما اشتدت معاناتهم أو الضغوط عليهم وأحاط بهم الفساد والضلال والانحلال لابد أن يثبتوا على الايمان ولا يتأثروا بالبيئة الملوثة التي تحيط بهم، وسيأتيهم الفرج بحسب ما تقتضيه الحكمة الإلهية لا بما نشتهيه نحن.
وبنفس الوقت عليهم أن لا ينبهروا بما يتنعم به الكفار والمنحرفون والعاصون من سلطة ومال وشعبية واسعة وهالة إعلامية وأمجاد مصطنعة، ويرون أنفسهم لا يعبأ بهم أحد فيعترضوا على ما هم فيه ويتمنوا أن يكونوا مثل أولئك المترفين ويغفلون عن حقيقة ان في هذا ابتلاءاً وفتنةً لهم (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (طه:131) وعلى المؤمنين ان لا يستعجلوا زوال الفتنة وفناء صاحبها، روى في علل الشرائع بسنده عن الامام الصادق (A) (قال رسول الله (9) إياكم وجدال كل مفتون فإن كل مفتون ملقن حجته إلى انقضاء مدته فاذا انقضت مدته أحرقته فتنته بالنار)([12]).
وقد تكون فتنة الشخص بأن تتواتر عليه النعم ويعيش في رخاء فتتحرك شهواته وتميل نفسه الى الدعة والراحة والاستكانة والتخلي عن التزاماته الدينية كمن يترك أداء حقوقه الشرعية اذا توسعت أمواله ويترك الصلاة لأنها تتعارض مع ذروة حركة السوق وهكذا يتخلى عنها واحدة واحدة، وقد تزيد عليه هذه النعم رغم عصيانه وانحرافه فيظن انه على خير وانه مستحق للنعم (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين) (آل عمران:178) لذا ورد التحذير من فتنة الرخاء أكثر من الضراء ففي الحديث النبوي الشريف (لأنا لفتنة السّراء أخوف عليكم من فتنة الضراء، إنكم ابتليتم بفتنة الضراء فصبرتم، وإن الدنيا حلوة خضرة)([13]).
وقد تبيَّن ان أنواع الفتن عديدة فبعضها ما ذكرناه من تعرض المؤمن للأذى والقسوة والأساليب الوحشية ولا يجد ما يساعده على انقاذ نفسه، وهي ليست الأشد رغم عنفها، بل أشد منها ما تقدم من فتنة الرخاء ورؤية العاصين لله تعالى متنعمين.
والفتن قد تكون شخصية تتعلق بالنفس والمال والولد كالذي رواه في المجمع (ان معنى يفتنون يبتلون في أنفسهم وأموالهم) وهو المروي عن أبي عبدالله (A).
وقد تكون عامة وهي التي تشمل قاعدة واسعة من الناس كما لو كانت عقائدية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو فكرية يوقع بعض الناس بعضهم فيها، قال تعالى (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) (الفرقان:20).
فعلى الإنسان المؤمن ــ في أي موقع كان ــ أن يراقب أقواله وأفعاله وسلوكه ويكون حذراً متيقظاً حتى يكون سبباً لإصلاح الآخرين وهدايتهم واستقامتهم وليس العكس كمن يكون ظاهره التدين والصلاح فيقوم بأفعال منكرة يأباها الشرع المقدس كسرقة المال العام فيُخدع به غيره ويظنون أن ما يفعله صحيح وجائز، فكان الصالحون يسألون الله تعالى أن لا يكونوا سبباً لفتنة الآخرين، قال تعالى حكاية عنهم (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الممتحنة:5).
وكان الأئمة (%) دقيقين في بيان كل ما يكون سبباً للفتنة ويحذرّون منه وينبّهون عليه، روي أن أمير المؤمنين (A) كان يمشي راكباً وكان أحد أصحابه يمشي معه راجلاً فقال (A) (ارجع فان مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن)([14]) ويصل التحذير الى مستوى مدحك لشخص بكلمات تجعله يفقد الاتزان والحكمة وينخدع بها فتكون انت القائل سبب افتتانه قال (A) (ربَّ مفتون بحسن القول فيه)([15]).
وقد وصف الله تعالى أي شخص يقف عائقاً في طريق إقامة دين الله تعالى وتطبيق أحكامه وتشريعاته، أو يعطّل سننه، فضلاً عمن يكون داعياً الى الضلال والانحراف ومروجاً له بأنه فتنة، قال تعالى في اتخاذ أولياء غير المؤمنين (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) (الأنفال:73).
أو كالذين يضعون شروطاً للتزويج ليست شرعية ولا عقلائية كعدم تزويج العلوية من غير العلويين وإن كانوا أكفاء ونحو ذلك من الشروط والموانع، ففي الحديث الشريف عن علي (A) عن النبي (9) قال (اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوّه، قلت: يا رسول الله، وإن كان دنَّياً في نسبه؟ قال: اذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوّه، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)([16]) والتجربة والواقع يشهدان بذلك.
وتوعّد بالعقاب الشديد من يكون سبباً لفتنة الآخرين قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج:10) وقال تعالى محذراً (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النور:63).
وإن صانعي الفتن ومثيريها فئات عديدة تبدأ من داخل الأسرة كالضغط الذي يتعرض له من أرحامه وذويه ــ خصوصاً الوالدين ــ باسم الشفقة والحب والالحاح عليه بأن لا يكون سبباً لإيذائهم فيدعونه الى التخلي عن إيمانه ولوازمه في القول والعمل، وقد عاش الشباب المؤمن هذه الحالة بقوة ابان الثمانينات من القرن الماضي حيث بلغ بطش النظام الصدامي البائد ذروته، وتحكي الآية الثامنة من السورة أن الفتنة قد يكون مصدرها الوالدين من خلال التأثير السيئ المؤدي الى الرجوع عن الايمان (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا) (العنكبوت:8). وقد يكون الوالدان سبباً للفتنة بسوء تربيتهما، مثلاً يطرق شخص باب الدار فيقول الأب لولده قل له ان والدي غير موجود فيتعلم ابنه الكذب وهكذا.
وتتحدث الآية الثانية عشرة عن مكر أهل الضلال والانحراف وخداعهم حتى يفتنوا المؤمنين ويعيدوهم الى صفوفهم (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (العنكبوت:12)، وهذا الأسلوب يتبعه البعض حتى اليوم فيقول أحدهم للآخر أفطر شهر رمضان وذنبك برقبتي أو يقول له خذ المال ــ وهو محرم ــ أو تقول المرأة لزميلتها ألقي الحجاب وبرقبتي وهكذا.
ويستمر أصحاب الفتن والضلالات والفساد والانحراف في الضغط على المؤمنين بوسائل الاغراء أو التهديد حتى يكسبوهم الى صفوفهم ويحرفوهم عن طريق الاستقامة، قال تعالى (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا) (الإسراء:73).
وأخطر الفتن ما تأتي بسبب اتباع الزعامات الباطلة المنحرفة، قال أمير المؤمنين (A) (الا فالحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم... فأنهم قواعد أساس العصبية ودعائم اركان الفتنة)([17]).
ويحلّل أمير المؤمنين (A) أسباب الوقوع في الفتن والفشل في اجتيازها، قال (A) (وَ إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ مِنْ أَهْوَاءٍ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٍ تُبْتَدَعُ يُخَالَفُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ يَتَوَلَّى فِيهَا رِجَالٌ رِجَالًا أَلَا إِنَّ الْحَقَّ لَوْ خَلَصَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافٌ وَ لَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ لَمْ يَخْفَ عَلَى ذِي حِجًى لَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَيُجَلَّلَانِ مَعاً فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَ نَجَا الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى)([18]).
وهذا ما حصل في الفتنة العظمى بعد وفاة رسول الله (9) حيث كان الانقلاب الذي أخبر به القرآن الكريم باباً لكل الشرور والآثام، روي عن الامام الحسين (A) عن أبيه أمير المؤمنين (A) انه قال (لما نزلت (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) قال: قلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة؟ قال: يا علي انك مبتلى بك، وانك مخاصم فأعِدَّ للخصومة)([19]).
ولابد ان نلتفت الى ان الفتن تزداد والبلاء يشتد كلما اتسعت مسؤولية الفرد والمجتمع وارتقى في تكامله، ففي الحديث النبوي الشريف (أشد الناس بلاءاً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء)([20]) لكي يتناسب العمل مع الجزاء ولكي يتحقق الاستعداد لتحمّل المسؤوليات الكبيرة، قال أمير المؤمنين (A) (كلما كانت البلوى والاختبار أعظم كانت المثوبة والجزاء أجزل)([21]).
لذا فعلينا توقّع المزيد منها كلما اقتربنا من عصر الظهور المبارك روي عن الامام الرضا (A) قوله (لا يكون ما تمدوّن إليه اعناقكم حتى تميزوا وتمحصّوا ولا يبقى منكم الا القليل)([22]) ثم قرا الآية الكريمة.
وهذا ما ينبّه اليه الامام (A) في أدعية زمان الغيبة ومنها دعاء الافتتاح حيث يعلمنا الاستغاثة بالله تعالى من فتن هذا الزمن، قال (A) (اللّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنا صَلَواتُكَ عَلَيْهِ وَآلِهِ، وَغَيْبَةَ وَلِيِّنا، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنا، وَقِلَّةَ عَدَدِنا، وَشِدَّةَ الْفِتَنِ بِنا، وَتَظاهُرَ الزَّمانِ عَلَيْنا)([23]).
وسيكون العراقيون أشد الناس ابتلاءً وامتحاناً بألوان الفتن الشديدة الشخصية والعامة، لأن الامام الموعود (A) سيقيم دولته في ربوعهم ويتخذ من بلدهم عاصمة لهم ينطلق منها لإقامة دولته العالمية المباركة([24]).
لذا علينا ان نتمسك بالمنجيات من الفتن وهم العلماء العاملون المخلصون فأنهم ورثة أهل البيت (%) حقاً، عن أمير المؤمنين (A) قال (أيها الناس: شقّوا أمواج الفتن بسُفن النجاة)([25])، مع الالتزام بالتقوى والتفقه في الدين قال رسول الله (9) (ستكون فتن يصبح الرجل فيه مؤمناً ويمسي كافراً، الا من أحياه الله تعالى بالعلم)([26]) وقال أمير المؤمنين (A) (اعلموا انه من يتقِ الله يجعل له مخرجاً من الفتن، ونوراً من الظلم)([27]).
نسأل الله تعالى ان يثبّتنا على الهدى والاستقامة ويجنّبنا مضلّات الفتن وان يختار لنا الخير في أمورنا كلها إنه ولي النعم.
([1]) خطبتا صلاة عيد الفطر السعيد للعام 1442 الموافق 14/5/2021 التي أقامها سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه بعدد محدود بسبب وباء كورونا أعاذنا الله تعالى جميعاً منه.
([2]) التحقيق في كلمات القرآن للمصطفوي: 9/ 23
([3]) أي تكونون كالأشياء المتعددة التي توضع في القدر ثم تُضرب باليد لتختلط
([4]) نهج البلاغة: الخطبة 16
([5]) بحار النوار: ج 14/ ص 238
([6]) التوحيد: 354 ح 3
([7]) أصول الكافي: 1/370 ، نور الثقلين: 4/148
([8]) الكافي: 4/200، ح2، تفسير البرهان: 7/232 ح 1
([9]) راجع القبس الذي يفسّر الآية في الجزء الأول.
([10]) الدر المنثور: ج6 / ص 453
([11]) من نور الثقلين: 4/472 ح 14
([12]) علل الشرائع: 599 باب 385 ح 51 قال في بحار الأنوار: 2/131 أي يلقنه الشيطان حجته
([13]) ميزان الحكمة: 7/26 عن الترغيب والترهيب: 4/184 ح 74
([14]) نهج البلاغة ، الحكمة 322
([15]) نهج البلاغة ، الحكمة 462
([16]) وسائل الشيعة : 20 / 78 ح 6
([17]) نهج البلاغة: الخطبة /192
([18]) الكافي: 8/58 ح 21
([19]) تفسير البرهان: 7/232 ح 4
([20]) الترمذي 3289 وصححه الألباني 1/142
([21]) نور الثقلين: 4/470 ح 13
([22]) نور الثقلين: 4/470 ح 12
([23]) مفاتيح الجنان: أدعية ليالي شهر رمضان
([24]) راجع بيان أسباب ما يمر به العراقيون من بلاء شديد في موسوعة خطاب المرحلة: 5/6-17.
([25]) نهج البلاغة: الخطبة / 5
([26]) كنز العمال: ح 30883
([27]) نهج البلاغة: الخطبة/183