خطاب المرحلة (638)(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)

| |عدد القراءات : 90
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ([1]) (الفاتحة: 1)

أعظم آية في كتاب الله تعالى بحسب ما يأتي عن الامام الصادق (A)، وتفتتح بها أعظم سور القرآن وأفضلهن وقد جمعت فيها كل علوم ومعارف القرآن الكريم كما في الرواية الآتية عن أمير المؤمنين (A)، وتمثل كل آية منها قاعدة كلية ومبدءاً اساسياً من المبادئ التي يستند اليها الإسلام، وروي في ذلك عن ابن عباس قوله (إن لكل شيء اساساً، واساس القرآن الفاتحة واساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم)([2])

وقد روي في فضلها أحاديث كثيرة منها ما رواه ابن عباس عن النبي (9) أنه قال (اذا قال المعلم للصبي: قل بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كتب الله براءة للصبي وبراءة لأبويه وبراءة للمعلم) وعن ابن مسعود قال (من أراد أن يُنجيه الله من الزبانية التسعة عشر فليقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فإنها تسعة عشر حرفاً، ليجعل الله كل حرف منها جنة من واحد منهم)([3]) .

ولا يبعد أن تكون البسملة وسورة الفاتحة التي تبتدئ بها أول الآيات القرآنية نزولاً كما انها الأولى تدويناً في المصحف الشريف ولنا على ذلك عدة شواهد:

1- الإشارة إليها في أول سورة العلق التي يقول المشهور انها اول الآيات نزولاً وفيها أمر بأن يبدأ قراءته باسم الله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (العلق:1) فالبسملة المشار إليها أسبق نزولاً وأنها كانت معروفة لدى رسول الله (9) قبل آية العلق.

2- ان النبي (9) كان يتعبد ويصلي قبل البعثة ويقرأ القرآن من حين نزوله عليه بل ان نفس سورة العلق فيها إشارة الى صلاته (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى) (العلق:9-10) ومن البعيد أنه كان يفعل ذلك من دون ان يفتتح عمله بالبسملة، وورد في الحديث المشهور (لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب) ([4]) .

3- عدة روايات تدل على ذلك، كالذي رواه في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (A) قال (سألت النبي (9) عن ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء، فأوّل ما نزل عليه بمكة فاتحة الكتاب، ثم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)([5]) .

وفي تفسير القمي في قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (العلق:1) قال (قال: اقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وفي أسباب النزول للواحدي النيسابوري عن ابن عباس أنه قال (أول ما نزل به جبرئيل على النبي (9) قال: يا محمد استعذ ثم قل: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).

وما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر (أن الرسول (9) قال (كان جبرئيل اذا جاء بالوحي أول ما يلقي عليَّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)([6]).

وروى الشيخ الكليني بسنده عن الإمام الباقر (A) قال (أول كل كتاب نزل من السماء (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ([7]) وروى البرقي في المحاسن بسنده عن الامام الصادق (A) قال (ما نزل كتاب من السماء الا أوّله (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))([8])، ومال الى هذا القول جملة من المفسرين، بل نسب الزمخشري إلى أكثرهم القول بأن سورة الفاتحة أول السور نزولاً([9]).

وفي مقابلها روايات([10]) كثيرة دلت على ان سورة العلق أول السور نزولاً، ويمكن الجمع بأن البسملة أو سورة الحمد اوحيت الى رسول الله (9) أولاً على نحو الحديث القدسي كجزء من تأديب الله تعالى لنبيه (9) بأن يفتتح كل أعماله بالبسملة ويبني حياته عليها ولا مانع من ان يكون ذلك قبل البعثة أصلاً، ففي دلائل النبوة للبيهقي (إن رسول الله (9) قال لخديجة: إنيّ اذا خلوت وحدي سمعت نداءاً.. يا محمد قل (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) حتى بلغ (وَلاَ الضَّالِّينَ)([11]) والظاهر أن هذا قبل البعثة أبان عزلته في غار حراء.

ثم نزلت سورة الحمد ثانياً بعد ذلك لتكون جزأً من القرآن النازل وليقرأها المسلمون في صلاتهم التي تأخر تشريعها عن بدء البعثة النبوية، ونزول سورة الفاتحة مرتين أحد معاني وصف سورة الحمد بالسبع المثاني.

 قال تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87) وتدل هذه الآية على عظمة السورة بحيث افردها الله تعالى بالذكر في مقابل القرآن العظيم كله وفي هذا المعنى روى الامام الحسن العسكري (A) عن آبائه عن أمير المؤمنين (^) قال (سمعت رسول الله (9) يقول (ان الله تعالى قال لي : يا محمد (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87) فافرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب وجعلها بإزاء القرآن العظيم وان فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش) وفيها (الا فمن قرأها معتقداً لموالاة محمد وآله الطيبين منقاداً لأمرهما، مؤمناً بظاهرهما وباطنهما، أعطاه الله تعالى بكل حرف منها حسنة، كل واحدة منها أفضل له من الدنيا وما فيها من أصناف أموالها وخيراتها، ومن استمع إلى قارئ يقرأها كان له قدر ما للقارئ، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرض لكم، فأنه غنيمة لا يذهبنّ أوانه، فيبقى في قلوبكم الحسرة)([12]) .

وروى الشيخ الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم قال (سألت أبا عبدالله ــ أي الصادق (A) ــ عن السبع المثاني والقرآن العظيم أهي الفاتحة؟ قال: نعم، قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال: نعم، وهي أفضلهن)([13]).

ومن أسمائها (أم الكتاب) والأم لغة هي الأصل والجامع فكأن السورة أصل القرآن وجامعةٌ لمقاصده ومحتوية على معارفه الإلهية.

ولسورة الفاتحة آثار وبركات عظيمة بحسب ما ورد في الروايات([14]) ومنها ما في تفسير العياشي ( قال : قال رسول الله (9) لجابر بن عبدالله: يا جابر الا اعلمك أفضل سورة أنزلها الله في كتابه! قال: فقال جابر: بلى بأبي أنت وأمي يا رسول الله علمّنيها، فعلمه (الحمدلله) أم الكتاب، قال: ثم قال له: يا جابر: الا أخبرك عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأمي، فأخبرني، قال: هي شفاء من كل داء الا السأم ــ يعني الموت ــ)([15]) وروي عن رسول الله (9)قوله ( في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء)([16]) أي انها سبب لذلك والنتائج بيد الله تعالى كالأدوية.

وروي عن الامام الصادق (A) قوله (كان النبي (9) اذا كسل أو اصابته عين أو صداع بسط يده فقرأ فاتحة الكتاب والمعوذتين ثم يمسح يده على وجهه، فيذهب ما كان يجده)([17]) وعن الامام الصادق (A) قال (من نالته علة فليقرأ في جيبه الحمد لله سبع مرات فان ذهبت والا فليقرأ سبعين مرة وأنا ضامن له العافية)([18]) وقريب منه في كتاب طب الأئمة الا أنه أضاف اليه الاذان والإقامة([19]).

ويصل عظيم تأثيرها إلى مستوى ما جاء في الرواية الصحيحة في الكافي عن الامام الصادق (A) قال (لو قرئت الحمد على ميت سبعين مرة فرُدَّت فيه الروح ما كان ذلك بعجب)([20]) .

والبسملة عندنا نحن الامامية جزء من كل السور القرآنية الا سورة التوبة لعلة ذكرتها الروايات([21]) فلا يصح افتتاح أي سورة الا بها وجزئيتها من كل سورة تعني ان للبسملة في كل سورة معنى غير ما في السورة الأخرى وان اشتركت لفظاً، وهي آية من سورة الفاتحة وبها بلغ عدد آياتها سبعاً.

 وقد تكرّر الأمر بأن يبتدئ بالبسملة كقوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) وقوله تعالى (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) (المزمل:8) وقوله تعالى (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى:15).

فمن الغريب تعدد أقوال العامة في البسملة فنفى بعضهم ان تكون آية من أية سورة وقال غيرهم بأقوال أخرى حتى انهم اسقطوها من سورة الفاتحة وتركوا قرائتها في الصلاة.

رغم انهم رووا في صحاحهم عن جمع من الصحابة ما يدل على انها آية من سورة الحمد وان النبي (9) كان يقرأها ويجهر بها وروى الثعلبي في تفسيره عن أبي هريرة ان النبي (9) زجر رجلاً قرأ الفاتحة بدون البسملة([22]).

وعندنا استحباب الجهر([23]) بالبسملة في جميع الصلوات وأنه من علامات المؤمن([24]) وأخرج الطبراني والدار قطني والبيهقي([25]) في شعب الايمان عن عدد من الصحابة ان النبي (9) كان يجهر بالبسملة في صلواته.

وآية البسملة فيها تأديب بأن نفتتح كل كلامنا وأفعالنا باسم الله تعالى لأنه عزوجل (هُوَ الأَوَّلُ) (الحديد:3) ليكون العمل مباركاً ولا يكون كذلك ولا تكون التسمية صادقة الا اذا توفر عنصران بأنٍ يكون الأمر حقاً ويكون مخلصاً لله تعالى فالتسمية تدعوا الى هذين الأمرين، وكان أول أمر نزل على رسول الله (9) هو ان يبدأ رسالته وتبليغه عن الله تعالى بالبسملة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (العلق:1) .

 وهو أدب سار عليه الأنبياء الكرام (صلوات الله عليهم أجمعين) ومثاله قول النبي نوح (A) (وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) (هود:41) وبدأ النبي سليمان رسالته بها (إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (النمل:30).

وقد جرت سيرة العقلاء على افتتاح كلامهم ومشاريعهم باسم عظيم في نظرهم أو اقترانه بمبدأ يخلّد الفعل والحدث، وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذا الشأن قال تعالى (فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) (البقرة:200) والله تعالى هو مانح الخلود ومجمع صفات الكمال فأولى أن ترتبط كل الأمور به تبارك وتعالى.

واسم الله عظيم البركة قال تعالى (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) (الرحمن:78)، ومن الدلائل على عظمة البسملة ما رواه الشيخ الطوسي بسنده عن الامام الصادق (A) والشيخ الصدوق بسنده عن الامام الرضا (A) وفي عدة روايات عنهم (^) قالوا ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أقرب الى اسم الله الأعظم من ناظر العين الى بياضها)([26]) وفي ثواب الأعمال بسنده عن الامام الصادق (A) (اسم الله الأعظم مقطع في أم الكتاب)([27]).

ورد في تفسير العسكري (A) عن آبائه عن علي (A) قال (إن رسول الله (9) حدثني عن الله عزوجل أنه قال: كل أمر ذي بال لا يذكر بسم الله فيه فهو أبتر)([28]) وعن أمير المؤمنين (A) قال (إن العبد اذا أراد أن يقرأ أو يعمل عملاً فيقول (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فأنه يبارك فيه)([29]) وروى البرقي في المحاسن بسنده عن الامام الصادق (A) (اذا توضأ أحدكم ولم يسمِّ كان للشيطان في وضوئه شرك، وإن أكل أو شرب أو لبس وكل شيء صنعه ينبغي له أن يسمي عليه، فإن لم يفعل كان للشيطان فيه شرك)([30])

وعن الامام الصادق (A) قال (لا تدع (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وإن كان بعده شعر)([31]) وعنه (A) (ولربما ترك بعض شيعتنا في افتتاح أمره (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فيمتحنه الله عزوجل بمكروه لينبهه على شكر الله تبارك وتعالى عليه ويمحق عنه وصمة تقصيره عند تركه بسم الله)([32]) ولما كانت الصلاة عمود الدين والقرآن ثقل الله الأكبر فهما أولى بهذا الافتتاح فكيف اسقطوا البسملة منها؟.

تفسير الآية:

(بِسْمِ) أي بإسم وحذفت الألف للوصل وهي ليست أصلية ومتعلق الباء محذوف يقدّر من سياق الكلام فعندما يسمى على أي فعل يكون تقديره ذلك الفعل وتقديره هنا (ابتدى) وورد هذا المعنى في الرواية عن الامام الرضا (A) عن آبائه (^) عن أمير المؤمنين (A) قال (قال رسول الله (9) قال الله عزوجل: قسّمت فاتحة الكتاب بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، اذا قال العبد: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قال الله جل جلاله: بدأ عبدي باسمي وحقَّ علي أن أتمم له أموره وابارك له في أحواله)([33]) إلى آخر الحديث .

ويمكن ان تكون الباء للاستعانة بحسب قصد الفاعل، ويكون التقدير (استعين)، ويدل عليه ما رواه الشيخ الصدوق في كتاب التوحيد بسنده عن أمير المؤمنين (A) قال (فقولوا عند افتتاح كل أمر صغير وعظيم: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أي استعين على هذا الأمر بالله الذي لا تحق العبادة لغيره)([34])

والاسم ما يعرف به ذات الشيء ويدل على المسمى وأصله سِمْوُ بدلالة قولهم في الجمع أسماء مثل قِنوْ اقناء وحِنوْ احناء وتصغيره سُمَيّ واصله من السمو وهو الذي به رفع ذكر المسمى فيعرف به([35]) من السمو والرفعة لأن المسمى يعلو بالاسم ويرتفع ويخرج من الخفاء إلى الظهور فيحضر في ذهن السامع.

 وقيل أنه من الوسم والسمة أي العلامة، قال في مجمع البيان: والأول أصح، وقال السيد الخوئي (قده) (وهو خطأ لأن جمع اسم أسماء، وتصغيره سمي، وعند النسبة اليه يقال: سموي واسمي، وعند التعدية يقال: سميت واسميت، ولو كان مأخوذاً من السمة لقيل في جمعه أوسام، وفي تصغيره وسيم، وفي النسبة إليه وسمي، وعند التعدية وسمّت وأوسمت) ([36]) .

أقول: لوحظ في الجمع والتصغير والنسبة نفس لفظ (اسم) مستقلاً من دون لحاظ اشتقاقه كالذي يقال في اللقب فلا تكون شاهداً على أحد المعنيين، فالأول أقرب لكن الثاني ممكن وليس خطأ كما قال السيد الخوئي (+) ووردت فيه رواية عن الامام الرضا (A) قال (معنى قول القائل بسم الله أي أسِمُ نفسي بسمة من سمات الله عزوجل وهي العبادة، قال: فقلت له: ما السمة، قال العلامة)([37]).

(ويصح رجوع أحد المعنيين إلى الآخر في جامع قريب: وهو البروز والظهور، لأن الرفعة نحو علامة، والعلامة نحو رفعة لذيها، وهما يستلزمان البروز والظهور)([38]) .

(الله) لفظ الجلالة اسم علم للذات المقدسة فيستجمع كل الأسماء الحسنى التي هي صفات.

(الرَّحْمَنِ) من صيغ المبالغة لكن ليس من جهة الموصوف وهو الله تعالى (لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) (النحل:60) وإنما من جهة اللفظ، في نفسه أو بلحاظ عطائه تبارك وتعالى كقوله تعالى (وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) (البقرة:212) وهي صفة مشتقة من الرحمة وهي ضد الغلظة والقسوة والشدّة، قال تعالى (أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (الفتح:29).

 وقد عُرِّفت برقة القلب والشفقة والعطف والتأثر ونحو ذلك وهي بالدقة من لوازمها عند البشر ومقدماتها التي تؤدي إلى انبعاثها وهي بهذا المعنى لا يوصف بها الله سبحانه، وإنما تعرف رحمته بآثارها على خلقه بالأنعام والتفضل وسد الاحتياج، قال الامام الصادق (A) (وإن رحمة الله ثوابه لخلقه) (فهو رحيم لا رحمة رقّة)([39]) وفي نهج البلاغة (رحيم لا يوصف بالرقّة)([40]).

وهي صفة فعل أي تتحقق بظهور آثارها ولم ترد متعلقة بشيء وهذا يدل على إطلاق الرحمة وإنها غير مختصة بشيء بل تسع كل شيء، قال تعالى (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (يس:52) وقال تعالى (مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ) (الملك:3) .

(الرَّحِيمِ) صفة مشبهة تدل على الثبات والدوام وملازمتها للذات كالغريزة والسجية، وايرادها بعد وصف الرحمن للإشارة إلى أنّ صفة الرحمة راسخة في الذات لأن وصف الرحمن لا يدل عليها - بحسب اهل اللغة- وان دل على سعة الرحمة، فجمع الوصفين للدلالة على اجتماع الصفتين.

ولعل الابتداء بهذين الوصفين المشتقين من الرحمة دون اسمائه الحسنى لأنها أصل كل خير ولطف وعناية بالمخلوقين، وان أفعال الله تعالى وعلاقته بعباده مبنية على أساس الرحمة، حتى في عذابه وابتلائه فأنه رحمة بالعباد ليؤهلهم إلى درجات أفضل (يا من سبقت رحمته غضبه)([41]) والرحمة علة انزال الكتب وبعث الرسل، قال تعالى (هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:203) وقال تعالى (وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (يونس:57) وقال تعالى (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (النحل:89) وقال تعالى (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء:82) وقال تعالى (وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ) (النمل:77) وقال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).

والرحمن اسم خاص بالله تعالى، والرحيم عام فقد وصف النبي (9) به (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة:128) ووصف به المؤمنون (رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (الفتح:29).

 ووردت روايات في الفرق بينهما ووجه الاتيان بهما بأن الرحمن اريد به سعة رحمته الفعلية لكل المخلوقات وكل البشر محسنهم ومسيئهم، وان الرحيم للدلالة على رحمته الخاصة بالمؤمنين او في الآخرة وروى في مجمع البيان عن النبي (9) قوله (ان عيسى بن مريم قال: الرحمن رحمن الدنيا، والرحيم رحيم الآخرة)([42])، وفي رواية عن الامام الصادق (A) (والله إله كل شيء، الرحمن بجميع خلقه، والرحيم بالمؤمنين خاصة)([43]) ووجه عموم الرحمن بجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم هو إنشاؤه إياهم وإخراج الجميع من العدم الى الوجود وخلقهم احياء قادرين، ورزقه إياهم، ووجه خصوص الرحيم بالمؤمنين هو ما فعله بهم في الدنيا من التوفيق وفي الآخرة من الجنة والاكرام وغفران الذنوب والآثام، وإلى هذا المعنى يؤول ما روي عن الصادق (A) انه قال (الرحمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة)([44])، فالرحمن اسم خاص بالله تعالى لكنه يسع الجميع في عطائه وبركاته، والرحيم اسم عام يطلق على الله تعالى وغيره، الا انه خاص يتعلق بالمؤمنين وقيل في معناه ان الرحمة الرحمانية هي التي تمنح لجميع المخلوقات على حد سواء كإفاضة الوجود، اما الرحمة الرحيمية فهي التي تمنح للموجودات خصوصياتها، ( وتلك الخصوصيات غير المتناهية المجعولة منه تبارك وتعالى مورد الرحمة الرحيمية، فكما ان في الانسان نوعاً خاصاً منه وهو المؤمن مورد رحمته الرحيمية، وكذلك يكون في المَلَك والفَلَك والجماد والنبات ايضاً.

وقد ذكرا في مفتتح القرآن العظيم للإعلام بان القرآن من ابرز مظاهر رحمتيه تعالى، اما الرحمانية فلفرض وحيه وانزاله، واما الرحيمية فلانه تبارك وتعالى تجلى لعباده فاظهر فيه المعارف الربوبية، وخلاصة الكتب السماوية، وزبدة حقائق التكوين والتشريع وربط به قلوب اوليائه)([45]) لكن ما ورد في الدعاء إنه تعالى (رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها)([46]) قد ينافي بعض الفروق المتقدمة، كما ان قوله تعالى (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة : 128) لا تدل على الاختصاص بهم لان الجملة ليس لها مفهوم ينفي الرحمة عن غير المؤمنين.

ان البسملة خلاصة سورة الفاتحة التي هي أم القرآن وأصله ومجمع معارفه وعلومه التي هي المبدأ والمعاد ومسيرة التكامل إلى الله تعالى، فالبسملة عنوان الدين كله والرمز الذي يحفظ المنهج الإلهي لذا أكّد المعصومون (^) على ترديدها واستحضار معانيها في كل آنات الانسان وأفعاله فاذا أكل سمى واذا شرب سمّى واذا خرج سمى واذا رجع سمى واذا ذهب لقضاء حاجة سمى وهكذا في كل شيء لأنها علامة العبودية والطاعة لله تبارك وتعالى والإخلاص له وتعين المؤمن وتثبّته وتزيد من عزيمته على فعل الخير.

وقد ادرك شياطين الجن وفسقة الإنس عظمة هذه الآية فكانت ثقيلة عليهم، ففي الرواية المعتبرة عن الامام الصادق (A) قال (إن ابليس رنَّ رنيناً ــ أي بكى بصياح ــ لما بعث الله نبيه على حين فترة من الرسل وحين نزلت أم الكتاب)([47]) وروى علي بن إبراهيم بسنده عن الامام الصادق (A) قال (قال أبو عبدالله (A) : (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أحق ما جهر به وهي الآية التي قال الله عزوجل (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) (الإسراء:46))([48]).

ويظهر من الروايات أن الأمويين هم الذين أسّسوا لإزالة البسملة فقدّ (أخرج الشافعي في الأم والدارقطني والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية أنه قدم المدينة فصلى بهم ولم يقرأ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فناداه المهاجرون والأنصار حين سلّم يا معاوية أسرقت صلاتك؟ أين (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فلما صلى بعد ذلك قرأها لأم القرآن وللسورة التي بعدها. وأخرج البيهقي عن الزهري: ان أول من أسرَّ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) عمرو بن سعيد بن العاص بالمدينة)([49]) .

وقد عبَّر الأئمة المعصومون (^) عن غضبهم لهذا الانحراف وأسفهم لتضييع الأمة هذه الكرامة في روايات عديدة كقول الامام الباقر (×): (سرقوا أكرم آية في كتاب الله: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))([50]), وروي عن علي (×), لما بلغه ان اناساً ينزعون (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ), أنه قال: (هي آية من كتاب الله أنساهم إياها الشيطان)([51]), وعن الامام الصادق (×) قال: (مالهم قاتلهم الله عمدوا الى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة اذا اظهروها وهي(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))([52]).

هذا هو محور الاختلاف بين المنهجين واساس الصراع بين الفريقين فنحن نريد أن نثبّت اسم الله تعالى في كل الوجود ويكون كل شي لله تبارك وتعالى (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (الأنفال: 39) وهم يريدون محوه وان يأخذ الناس حريتهم في اتباع الشهوات وما تزيّنه الشياطين والفسقة لهم (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا) (النساء:27).

 



([1]) كلمة لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) ألقيت يوم الجمعة 1/محرّم الحرام/1442 الموافق 21/8/2020

([2]) مجمع البيان: 1/17 وحكيت عن ابن كثير في تفسيره: 1/9

([3]) مجمع البيان: 1/19 ، البرهان:1/82 ح 28 عن جامع الأخبار.

([4]) عوالي اللئالي: 1/196، وسائل الشيعة : 6/37 ، صحيح البخاري: 1/192

([5]) معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري: 1/105

([6]) الدر المنثور : 1/7

([7]) وسائل الشيعة : 6/59 أبواب القراءة / باب 11 ح8

(3) وسائل الشيعة : 6/59 أبواب القراءة / باب 11 ح12.

([9]) الكشاف:4/775

([10]) معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري : 1/102

([11]) معرفة القرآن في ضوء الكتاب والسنة للريشهري عن دلائل النبوة: 2/158، تفسير القرطبي:1/115

([12]) عيون أخبار الرضا (عليه الإسلام) : 1/360 ح 60، أمالي الصدوق : 148 ح 2 ، بحار الأنوار:92/227

([13]) وسائل الشيعة: 6/57 أبواب القراءة ، باب: 11 ح 2

([14]) تجد جملة منها في تفسيري البرهان ونور الثقلين

([15]) عن تفسير العياشي: 1/20 ح 9 ، بحار الأنوار: 92/237 ح 33 ، مسند ابن حنبل: 6/187 ح 17608

([16]) سنن الدارمي: 2/902 ح 3247، شعب الايمان: 2/450 ح 2370 ، كنز العمال: 1/557 ح 2500

([17]) مكارم الاخلاق: 2/203 ح 2523

([18]) الامالي للطوسي: 284 ح 553 بحار النوار: 92/231 ح 13 الدعوات: 189 ح 525

([19]) طبّ الأئمة(×)- ابن سابور الزيات: 52

([20]) الكافي: 2/ 623 ح 16 / الدعوات: 88 ح 522 ، مكارم الاخلاق: 2/183 ح 2482

([21]) روى ابن عباس قال : (سألت علي بن ابي طالب (A) لِمَ لم تكتب في براءة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ؟ قال: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف ليس فيها أمان) المستدرك:2/330) ويرى قسم ان عدم البسملة لأنها استمرار لسورة الأنفال وإن كانت سورة مستقلة، وهنا التفاتة لاهل المعرفة بأن سورة التوبة التي نزلت في البراءة من المشركين وان لم تبدأ الا ان الله تعالى لرحمته بعباده لم يشأ حرمانهم من لطفه العام فبدأها بالباء التي جمعت فيها علوم البسملة التي جمعت فيها علوم الفاتحة التي اودع فيها علوم القران كما في الحديث الذي سنشرحه في الملحق ان شاء الله تعالى

([22]) تفسير الثعلبي: 1/104

([23]) دلت عليه عدة روايات في وسائل الشيعة : 6/57 أبواب القراءة، باب 11

([24]) روى الشيخ الطوسي في (مصباح المجتهد:787) عن الامام الحسن العسكري (×) قال (علامات المؤمن خمس: صلاة الاحدى والخمسين وزيارة الأربعين والتختم في اليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)

([25]) أنظر: تفسير الثعلبي: 1/104.- المستدرك على الصحيحين- الحاكم: 1/٧٣6.- الدر المنثور- السيوطي: 1/7

([26]) التهذيب: 2/289 ح 1159 ، ثواب الأعمال: 104

([27]) ثواب الأعمال :104، البرهان:1/80

([28]) وسائل الشيعة: 7/170 ، كتاب الصلاة ، أبواب الذكر، باب 17

([29]) بحار الأنوار:89/242، تفسير الامام العسكري (×): 25

([30]) وسائل الشيعة: 6/57 أبواب القراءة : الباب 11، 12،21.

([31]) نور الثقلين:1/6.

(3) نور الثقلين:1/8.

([33]) عيون أخبار الرضا: 2/269، نور الثقلين : 1/9 ح 9.

([34]) وسائل الشيعة: 5/328 أحكام المساكن، باب 19

([35]) المفردات للراغب: 428 مادة (سمو) ، مجمع البيان: 1/19

([36]) البيان في تفسير القرآن: 449

([37]) نور الثقلين:1/12، ح 41 عن كتاب عيون أخبار الرضا (×)

([38]) مواهب الرحمن:1/10

([39]) نور الثقلين: 1/14

([40]) نهج البلاغة: 2/100

([41]) مفاتيح الجنان، دعاء الجوشن الكبير، الفقرة:20 ، بحار الأنور: 91/239، 386

([42]) تفسير مجمع البيان- الطبرسي: 1/54

([43]) توحيد الصدوق: 1/230، معاني الأخبار:1/3 ، الكافي:1/114

([44]) نور الثقلين: 1/15 ح 54

([45]) مواهب الرحمن: 1/20

([46]) نُقل عن الامام الحسين (A) في دعاء عرفة (أصول الكافي: 2/557 ح 6، وسائل الشيعة: 8/41 ح / 10057 وفي الصحيفة السجادية: (171) دعاؤه × في استكشاف الهموم، نور الثقلين: 1/15 ح 55 ، مستدرك الحاكم: 1/155

([47]) تفسير القمي: 1/29

(2) تفسير القمي: 1/29

([49]) الفرقان في تفسير القرآن:1/80

([50]) تفسير العياشي- العياشي: 1/19/ح4.

([51]) تفسير العياشي- العياشي: 1/21/ح12.

([52]) تفسير العياشي- العياشي: 1/21/ح16.