خطاب المرحلة (610)(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) لتكن لنا مشاركة في تحقيق الهدف الإلهي العظيم
(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) (التوبة:32)
لتكن لنا مشاركة في تحقيق الهدف الإلهي العظيم ([1])
تشير الآية إلى المحاولات اليائسة والبائسة التي يقوم بها أعداء الإسلام من داخل المجتمع المسلم ومن خارجه (كفارّ ومنافقين ومشركين) للقضاء على الإسلام، ويسخر القرآن الكريم من تفاهتها ويصوّر محاولاتهم كمن يريد أن يطفئ نور الشمس الوهاج بنفخة هواء من فمه، فهل يستطيعون ذلك؟ والمثال يضرب لتقريب الفكرة وإلا فان نور الله تعالى الواصل إلينا من خلال القرآن والإسلام أعظم لأن (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (النور:35) .
(ويأبى الله) تعالى أي يرفض ويمتنع بشكل حتمي عن قبول أي خيار آخر غير تحقيق غرضه وقد عزم على أن يتم نوره وينزل نصره النهائي على المؤمنين وتهيمن شريعته على كل القوانين والأنظمة التي صنعها الناس وهو ما نطقت به الآية التالية (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33) وبشرت به آية أخرى أيضاً في قوله تعالى (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً) (الفتح:28) .
ولا يخفى ما في الآية من كناية عن (ظلامية) أعداء الإسلام وجهلهم وتخلفهم وهمجيتهم حيث يسعون لإطفاء النور واغراق البشرية في الظلام، وهل يسعى عاقل لإطفاء النور الذي فيه حياة البشر وصلاحهم وسعادتهم، فمن يسعى للقضاء على الإسلام يكون هذا تقييمه.
إن الآية الكريمة لما تسخر من محاولات الأعداء وتصفها بالعبثية وعدم الجدوى فهذا لا يعني أن جهود وامكانيات الاعداء تافهة أو ضعيفة في نفسها أي من الناحية المادية (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) (إبراهيم:46) لأنهم يجندون كل ما عندهم من عدد وعدة قاهرة سواء على صعيد المال أو السلاح أو الاعلام أو التقنيات الحديثة أو أدوات الاغراء والافساد والاضلال والترغيب والترهيب.
وإنما هي كذلك عندما تُواجَه بالأيمان وقوة العقيدة والقلوب الثابتة التي ربط الله تعالى عليها وبتفعيل سائر إمكانيات الأمة وطاقاتها البشرية والمادية، وحينئذ يتحقق النصر النهائي لدين الحق الذي وعدت به الآية التالية (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (التوبة:33) .
وتشير آية أخرى مشابهة إلى ان الأعداء لا يكتفون بالحرب الخشنة الظاهرة وإنما يستخدمون الحرب الناعمة أيضاً من خلال تحريف تعاليم الدين وتعطيل أحكامه وتمييعه، وتحويله إلى شكليات طقوسية كأي تقاليد شعبية خالية من المضمون ولا تحقق الغرض الذي يريده الله تبارك وتعالى، قال سبحانه (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (الصف:8-9) وإنما فسرناهما بهذا المعنى بقرينة الآية التي سبقتهما (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الصف:7) وبدلالة كلمة (أَفْوَاهِهِمْ) التي تعني ان محاولاتهم تكون بنشر الكلام الباطل مسموعاً أو مكتوباً.
وفي ذلك رواية عن أمير المؤمنين (A) من حديث طويل في الاحتجاج على أحد الزناديق في آيات متشابهة إلى أن قال عن معنى هذه الآية (انهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله على الخليقة فأعمى الله قلوبهم حتى تركوا فيه ما دلَّ على ما أحدثوه فيه وحرفوا منه)([2]) وفيها أيضاً (وجعل أهل الكتاب القّيمين به، والعالمين بظاهره وباطنه، من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين باذن ربها، أي: يظهر مثل هذا العلم لمحتمليه – أي القادرين على تحملّه- في الوقت بعد الوقت، وجعل أعداءها أهل الشجرة الملعونة الذين حاولوا إطفاء نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره)([3]) .
فهذا التفسير ليس منافياً للأول بل يعبّر كل منها عن شكل من اشكال إطفاء النور أي الصراع والمواجهة.
ومن اشكالها استهداف قادة الإسلام العظيم ــ الذين هم مظاهر النور الإلهي ــ بالتسقيط والحصار والتطويق وعزلهم عن الأمة في السجون وملاحقة أتباعهم وتنتهي بقتلهم ، روى الشيخ الصدوق في الاكمال عن الامام الصادق (A) وقد ذكر شق فرعون بطون الحوامل في طلب موسى (A) (كذلك بنو امية وبنو عباس لما ان وقفوا على أن زوال ملك الأمراء والجبابرة منهم على يد القائم (A) ناصبونا العداوة ووضعوا سيوفهم في قتل أهل بيت رسول الله (9) وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول إلى قتل القائم (A) فأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة الا أن يتم نوره ولو كره المشركون) ([4]).
وروى الحميري في قرب الاسناد بسنده عن البزنطي عن الامام الرضا (A) قال (إن الناس قد جهدوا على إطفاء نور الله، حين قبض الله تبارك وتعالى رسوله (9) ، وأبى الله إلا أن يتم نوره. وقد جهد علي بن أبي حمزة - من زعماء الانشقاق على الامام الرضا (A) واختلاس أمواله - على إطفاء نور الله حين مضى أبو الحسن الأول (A) - أي حين وفاة الامام الكاظم - فأبى الله إلا ان يتم نوره، وقد هداكم الله لأمر جهله الناس، فاحمدوا الله على ما من عليكم به)([5]) .
وتوجد التفاته لطيفة للفرق بين التعبير (يُطْفِؤُواْ) في سورة التوبة و (لِيُطْفِؤُوا) في سورة الصف، قال الراغب (والفرق بين الموضعين أن في قوله (يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ) يقصدون إطفاء نور الله، وفي قوله (لِيُطْفِؤُوا) يقصدون أمراً يتوصلون به إلى إطفاء نور الله)([6]) فالتعبير الأول يشير إلى التفسير الأول لآية التوبة وهي المواجهة المباشرة والوصول إلى ما يريدون بلا واسطة، والتعبير الثاني يشير إلى اتخاذ الوسائل والأدوات والمقدمات للوصول الى الإطفاء وهو التفسير الثاني في آية الصف فالقرآن الكريم يؤكد حقيقة خيبتهم وفشلهم في مساعيهم سواء واجهوا مباشرة أو اتخذوا لذلك مقدمات وأسباباً.
ان الأعداء لا يكلّون ولا يملّون بل يستمرون في محاولاتهم ولذا استعملت صيغة المضارع في (يريدون) فاراداتهم لهذه النتيجة مستمرة، قال تعالى (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) (البقرة:217) عملاً بأوامر شيطانهم الكبير إبليس الذي يردّد (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف:16) (وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف:17).
مما يوجب علينا لزاماً ان نستمر بالعمل لإعلاء كلمة الله تعالى ولنشر تعاليم الدين وحث الناس على العمل بالشريعة وتعريفهم بسيرة اهل البيت (^) لنحدث التوازن مع محاولات الأعداء بل نتفوق عليهم إن شاء الله تعالى.
ولنعلم ان هذا الهدف الإلهي العظيم إنما يتحقق على ايدي العاملين الرساليين المخلصين(هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)(الأنفال:62)، فلنحرص أشد الحرص على أن تكون لنا بصمة في تحقيق الهدف الذي ذكرته الآية فان المسيرة ماضية نحو التمام ولا تتوقف على وجود أحد، ومن يتخلف فإنما يحرم نفسه من هذا الفوز العظيم، وساحة العمل واسعة تتسع للجميع، ولكلٍ دوره المناسب له، فوظيفتكم – كفضلاء وطلبة علوم الدينية – الدعوة الى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة والإرشاد وتهذيب النفوس وتعليم احكام الدين ونشر سيرة اهل البيت (^) والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
إن دوام القضية الحسينية واتساعها وتحولّها إلى قضية إنسانية عالمية من أوضح تجليّات هذه الآية المباركة حيث جهد الكثير من الطواغيت عبر التاريخ الماضي والحاضر لإطفاء هذا النور الإلهي العظيم لكنهم فشلوا وذهبوا إلى مزابل التاريخ وبقيت رسالة الامام الحسين (A) تخاطب الأجيال جميعاً وتزداد قوةً وتأثيراً بفضل الله تبارك وتعالى، وهذا أوضح مثال على ان الله يتم نوره ولو كره الكافرون والمنافقون، فلا نتقاعس أولا ولا ننبهر بقوة الباطل ثانياً.
([1]) من حديث سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من المبلّغين وفضلاء الحوزة العلمية قبل انطلاقهم للتبليغ بين الملايين من زوار الامام الحسين (A) في ذكرى اربعينيته يوم الاثنين 8/صفر/1441 الموافق 7/10/2019
([2]) الاحتجاج: 1/371 ، تفسير الصافي: 3/400
([3]) الاحتجاج: 1/376 ، تفسير الصافي: 3/400
([4]) إكمال الدين وإتمام النعمة: 354 ، باب 33 ما روى عن الصادق (×) ، ح 50
([5]) نقله المجلسي في بحاره ٤٩: ٢٦٢ / ٥.
([6]) المفردات للراغب: مادة (طفأ) وقال في الهامش: راجع درة التنزيل للاسكافي: 195.