خطاب المرحلة (606)(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ماذا يعني عقد المؤاخاة يوم الغدير
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) (الحجرات:10)
ماذا يعني عقد المؤاخاة يوم الغدير ([1])
تضمّن يوم الغدير كبقية الأيام الشريفة سنناً ومستحبات كالصوم والغسل والصلوات والادعية والاذكار طلباً لرضوان الله تعالى وطمعاً في مضاعفة الأجر وتحصيل العفو والمغفرة.
لكن عيد الغدير تميّز بعمل انفرد به عن بقية المناسبات وهو إجراء المؤاخاة بين المؤمنين وتعهّد بعضهم لبعض ان لا يدخل الجنة الا وهو معه فيقول احدهما للآخر (آخيتك في الله وصافيتك في الله وصافحتك في الله) إلى آخر المؤاخاة، وهذه الفعالية المباركة تعني ــ فيما تعني ــ ان علامة اكتمال وصدق الولاية للنبي وآله (صلى الله عليهم أجمعين) هي مودة المؤمنين ومؤاخاتهم وان يضمر لهم كل خير، حتى لمن اساء إليه وظلمه بغيبة أو انتقاص أو فحش من القول أو إهانة أو تقصير في سائر حقوقه، لذا تضمن عقد المؤاخاة ان يقول للآخر (اسقطت عنك كل حقوق الاخوة) وهي عامة مطلقة تشمل كل الحقوق المادية والمعنوية.
فاذا سرنا بهذا المنهج والتزمنا بهذا السلوك السامي وتغاضينا عن الأخطاء والكلمة الجارحة والتصرف الجاهل فسوف ننشئ أمة متماسكة متحدة قوية فاعلة، ونسدّ أبواب النزاع والتخاصم والخلاف الذي نخر بالأمة وأهدر طاقاتها واعاق تقدمها وازدهارها سواء على مستوى العائلة حيث تتصاعد ارقام حالات الطلاق وما يعنيه من تهديم الاسرة وضياع الأطفال وتفشي الضغينة والاحقاد وتضييع الأموال والاوقات على مراجعة المحاكم.
أو على مستوى العشائر حيث ازدادت الصراعات والمعارك بينها بمختلف أنواع الأسلحة ونقلت الاخبار حصول معارك برمائية بين بعض العشائر في جنوب العراق أو على أي مستوى آخر من الصراعات.
إن هذه الصراعات والخلافات والمهاترات وتغذيتها بالأحقاد والضغائن التي تصدّ عن ذكر الله تعالى وتعيق عمل المعروف تحقق رغبة الشيطان وامنيته (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) (المائدة:91).
ومن يتتبع سيرة النبي (9) وقيادته الربانية المباركة يجد ان اول ما قام به من عمل بعد هجرته الى المدينة هو إيقاع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وبين الأنصار أنفسهم من أوس وخزرج وبناء المسجد ليكون محلاً لاجتماع الأمة ولم شملها وإظهار عزّتها ووحدتها.
وسار الأئمة المعصومون (^) على هذا النهج فوجّهوا اتباعهم إلى التحلي بأقصى صفات الأخوّة والمودّة بين المؤمنين، روى عبدالله بن المبارك قال (قال لنا أبو جعفر محمد بن علي : يدخل أحدكم يده في كم صاحبه (أي جيبه) فيأخذ ما يريد؟ فقال: قلنا: لا، قال: لستم بإخوان كما تزعمون)([2]) .
وعن الحجاج بن أرطاة قال له الامام الباقر (×) (يا حجاج كيف تواسيكم ــ أي مواساة بعضكم لبعض -: قلت: صالح يا أبا جعفر، قال: يدخل أحدكم يده في كيس أخيه فيأخذ حاجته اذا احتاج اليه؟ قلت: أما هذه فلا، فقال (×): أما لو فعلتم لما احتجتم)([3]) .
وهذا يعني ان من شروط تمام الولاية وكمالها الارتقاء بالعلاقة مع الآخرين إلى هذا المستوى.
ولأهمية هذه الصفة المباركة يطلبها الامام السجاد (×) في ادعيته ، ومن ذلك قوله (×) (اللَّهُمَّ وَأَيُّمَا عَبْد نالَ مِنِّي مَا حَظَرْتَ عَلَيْهِ - كالغيبة والكلمة الجارحة مما حُرِّم- ، وَانْتَهَكَ مِنِّي مَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ ، فَمَضَى بِظُلاَمَتِي مَيِّتاً ، أَوْ حَصَلْتَ لِيْ قِبَلَهُ حَيّاً ، فَاغْفِرْ لَهُ مَا أَلَمَّ بِهِ مِنِّي ، وَاعْفُ لَهُ عَمَّا أَدْبَرَ بِهِ عَنِّي ، وَلاَ تَقِفْـهُ عَلَى مَا ارْتَكَبَ فِيَّ ، وَلاَ تَكْشِفْهُ عَمَّا اكْتَسَبَ بِيْ ، وَاجْعَلْ مَا سَمَحْتُ بِـهِ مِنَ الْعَفْـوِ عَنْهُمْ ، وَتَبَـرَّعْتُ بِـهِ مِنَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ ، أَزْكَى صَدَقَاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ ، وَأَعْلَى صِلاَتِ الْمُتَقَرِّبِينَ ، وَعَوِّضْنِي مِنْ عَفْوِي عَنْهُمْ عَفْوَكَ ، وَمِنْ دُعَائِي لَهُمْ رَحْمَتَكَ ، حَتَّى يَسْعَدَ كُلُّ وَاحِد مِنَّا بِفَضْلِكَ ، وَيَنْجُوَ كُلٌّ مِنَّا بِمَنِّكَ)([4]).
فالإمام السجاد (×) يعتبر هذا العفو عن الآخرين من أفضل الصدقات وأكثرها بركة وانها سبب لنيل عفو الله تعالى ورضوانه ورحمته، وبذلك يسعد جميع الأطراف.
وقد صدرت عن المعصومين (^) مئات الأحاديث في حقوق الأخوّة وآداب العلاقة مع الآخرين جمعها الأصحاب في كتب بعنوان (آداب العشرة)([5]) وتعرضت لأدق التفاصيل واعطت قيمة كبيرة للإصلاح بين المؤمنين وحل خلافاتهم ومشاكلهم حتى جعلته أفضل من الصلاة والصوم، وقد روى الشيخ الكليني في الكافي عن الامام موسى بن جعفر (^) وصية أمير المؤمنين (×) لولده الحسن (×)، وجاء فيها (سمعت رسول الله (9) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام ، وإن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين، ولا وقوة إلاّ بالله العلي العظيم)([6]) .
إن البركة والخير والتقدم والازدهار لا يتحقق الا في ظل الايمان بولاية أهل البيت (^) والعمل بتعاليمهم المباركة ووحدة الأمة، وهذا ما خطّته السيدة فاطمة الزهراء ($) من أول يوم بعد وفاة رسول الله (9) لترسم للأمة المسار النقي الأصيل الذي يحفظ عزّتها وكرامتها فقالت (÷) (وطاعتنا : نظاماً للملة ، وامامتنا : اماناً للفرقة )([7]).
([1]) من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع رابطة خطباء محافظة الحلة يوم السبت 22/ذوالحجة/1440 الموافق 24/8/2019.
([2]) حلية الاولياء: 3/187، البداية والنهاية: 9/341
([3]) كشف الغمة: 2/333، بحار الأنوار: 75/185 ح 12
([4]) الصحيفة السجادية الكاملة: ١٩٠
([5]) راجع مثلاً كتاب وسائل الشيعة / الجزء الثامن من طبعة الإسلامية
([6]) فروع الكافي: 7/51 -52، بحار الأنوار: 42/248 ح 51 .
([7]) الاحتجاج: 1 ص 134