خطاب المرحلة (601)(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) الولاية ثـمرة الحج
(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) (الحج:29)
الولاية ثـمرة الحج ([1])
قال أهل اللغة إن التَفَث هو الدرن والأوساخ وقضاء التفث هو إزالتها من البدن في إشارة إلى حال الحجاج بسبب حركتهم الطويلة في المشاعر المقدسة والقيود التي فرضها الإحرام فاذا انتهوا من أداء مناسكهم أحلوا من احرامهم وازالوا ما علق بأبدانهم وقصّوا أظفارهم وازالوا شعورهم ونحو ذلك، ولعلهم أخذوا هذا المعنى من الروايات مع أنها قد تكون بصدد بيان بعض التطبيقات أو أي نحو آخر.
وقيل أنها ليست كلمة عربية وأن أصلها عبراني بمعنى الإمساك والقبض وحينئذ يكون المراد بالتفث القيود التي تفرض على المحرم وهي التي نسميها (تروك الاحرام) وقضاؤها هو إتمامها على وجهها وإكمالها إلى حين الخروج منها، قال تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ) (البقرة:200) أي أتممتموها وكذا في (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ) (الجمعة:10) و (وَقُضِيَ الأَمْرُ) (البقرة:210) (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ) وغير ذلك.
ويمكن قبول كلا الاتجاهين من التفسير بأن يقال ان في الآية كناية لأنها ذكرت اللازم ــ وهو إزالة الاظفار والشعر والادهان والتعطر ــ وهي تريد الملزوم وهو اكمال المناسك المطلوبة للإحلال من الاحرام وإباحة هذه الأفعال لهم، بأن يتمّوا ما ابتدأوا به من مناسك الحج ويحلوا من إحرامهم الذي التزموا به واوجبوه على أنفسهم ابتداءاً من الاحرام قبل الخروج إلى عرفة وما يتضمنه من تروك كثيرة تلبية لقوله تعالى (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة:197) فالتَفَث يراد به الفعل المصدري أي إتمام الالتزام بما يقتضيه الاحرام وإنهاؤه على النحو المطلوب أو اسم المصدر بمعنى التحلل من الاحرام وإزالة ما عَلُق بهم بسببه خلال مدة المناسك.
وقد اشارت الروايات إلى كلا المعنيين، ففي صحيحة البزنطي في قرب الاسناد والكافي قال: سألت الرضا (A) عن الآية قال: (تقليم الأظفار وطرح الوسخ عنك والخروج من الاحرام)([2]) ومثلها عدة روايات، وبين التعبير عن عقد الاحرام بترك الرفث وعن الاحلال منه بقضاء التفث انسجام جميل وبلاغة رائعة.
فاذا أدى الحاج مناسك منى يوم العاشر من ذي الحجة فرمى جمرة العقبة الكبرى وذبح وحلق فقد أحلّ من احرامه وابيحت له سائر تروك الاحرام الا الطيب والنساء ويحلّ الأول بأداء طواف الحج والثاني بطواف النساء لذا عطفت الآية على قضاء التفث (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) (الحج:29) أي ليؤدوا ما ألتزموا به من تروك الاحكام ومناسك الحج (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (الحج:29) وهما طوافا الحج والنساء.
هذا هو المعنى الظاهري الذي خُوطِب به جميع الناس، وهناك معنى باطني للخواص من أهل المعرفة، ففي صحيحة ذريح المحاربي عن أبي عبدالله (A) في هذه الآية قال (A) (التفث لقاء الامام)([3]) وفي معاني الأخبار روى عبد الله بن سنان عن ذريح المحاربي قال (قلت لأبي عبدالله (A): إن الله أمرني في كتابه فأحب أن اعمله، قال: وما ذاك؟ قلت: قول الله تعالى (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) (الحج:29) قال: (لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) لقاء الامام و (لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) تلك المناسك) قال عبدالله بن سنان فأتيت أبا عبدالله (A) فقلت جعلت فداك قول الله عزوجل (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) قال (A): أخذ الشارب وقص الأظافر، وما أشبه ذلك، قال: قلت: جُعِلت فداك فان ذَريحاً المحاربي حدثني عنك، أنك قلت (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) تلك المناسك؟ فقال (A): صدق ذريح، وصدقتَ إن للقرآن ظاهراً وباطناً، ومن يحتمل ما يحتمل ذريح)([4]) .
وهذا التفسير منطبق تماماً مع علل الحج والمنافع المطلوبة منه والتي اشارت اليه الآية السابقة (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ) (الحج:28) والمنافع المعنوية أولى من المادية وهي التي تتحقق بلقاء امام الأمة وقائد حركتها المباركة والاستفادة منه في تلك الأجواء الروحية النقية البعيدة عن عواصم السلطة والسياسة الماكرة الخبيثة لينقوا أنفسهم من الادران والأمراض المعنوية ويستعدون لحياة جديدة نقية من رواسب الماضي كما وعدت به الأحاديث الشريفة.
وفي رواية عن الامام الرضا (A) يبيّن فيها فوائد الحج والحكمة من تشريعه وجعل منها هذا اللقاء بالإمام للتفقه في الدين ونقل تعاليمه إلى الناس في اقطار الأرض، قال (A) (إنما أمروا بالحج لعلة الوفادة إلى الله عزوجل وطلب الزيادة والخروج من كل ما اقترف العبد تائباً مما مضى مستأنفاً لما يستقبل) إلى ان قال (A) (مع ما فيه من التفقه ونقل اخبار الأئمة (^) إلى كل صُقع وناحية كما قال الله عزوجل (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) (التوبة:122)..) ([5]) .
لذا يعبّر الامام الباقر (A) عن ألمه من عدم التفات أكثر الناس إلى هذه الحقيقة فقد روى في الكافي بسنده عن أبي عبيدة الحذّاء قال (سمعت أبا جعفر (A) ورأي الناس بمكة وما يعملون - قال فقال: فعال كفعال الجاهلية أما والله ما أمروا بهذا وما أمروا إلا أن يقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم فيمروا بنا فيخبرونا بولايتهم ويعرضوا علينا نصرتهم)([6]) .
فالحج لا يكتمل معناه ويتحقق الغرض منه الا عندما يقترن بإظهار ولاية أهل البيت (^) واستحضار معانيها والقيام بتكاليفنا تجاه المعصومين كالدعاء لهم ونشر مناقبهم وفضائلهم واهداء الأعمال لهم والدعوة إلى اتباعهم وغير ذلك، روي عن الامام الباقر (A) انه قال (تمام الحج لقاء الامام)([7]) .
وينبغي للحاج أن يستحضر ولايته للمعصومين (^) في جميع مناسك الحج فيتذكر بالإحرام التجرد عن كل ما يعيق طاعة الامام والتواصل معه والعمل بأوامره، وبالوقوف الامتثال بين يدي الامام وبالسعي الحركة نحو الامام وبالذبح التضحية في سبيل نصرة الامام وإنجاح مشروعه الإلهي وبالرمي رفض كل الطواغيت والسلطات التي تنصب نفسها أئمة وقادة للناس بغير حق، فالإمامة نظام ومحور الطاعات الأخرى.
روى في الكافي بعدة طرق عن أبي جعفر (A) قال (بني الإسلام على خمس: على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية ولم ينادِ بشيء كما نودي بالولاية فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه - يعني الولاية-)([8]) .
وفي صحيحة زرارة أضاف (قلت وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل لأنها مفتاحهن والوالي هو الدليل عليهن) وقال فيه (ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته) فالاسرار المعنوية للحج وسائر العبادات لا تدرك الا في ظل ولاية المعصوم (A) كما ان تحرير الانسان ونيل كرامته وحفظ استقامته لا تكون الا على يد الامام المعصوم (A) وبقيادته المباركة ومن بعده نوابّه بالحق .
إن قيمة الحج التي يكتسبها الانسان لا تتحقق كاملة بالحركة البدنية بين المشاعر المقدسة وإنما هي منوطة بمقدار معرفته للإمام وإتباعه له فقد تزيد وقد تنقص إلى حد الصفر، وعن مثل هؤلاء المفلسين يقول الامام (A) (أترى هؤلاء الذين يلبّون، والله لأصواتهم أبغض إلى الله من أصوات الحمير)([9]) .
ويعلل الامام الباقر (A) ذلك في صحيحة([10]) الفضيل حينما نظر الى الناس يطوفون حول الكعبة قال (A) (هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية إنما أمروا أن يطوفوا بها ثم ينفروا ألينا فيعلمونا ولايتهم ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم) ثم قرأ هذه الآية (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (إبراهيم:37) وفي تفسير العياشي عند هذه الآية عن الامام الباقر (A) قال (ينبغي للناس أن يحجوا هذا البيت ويعظموه لتعظيم الله إياه وأن يلقونا حيث كنّا نحن الادلاء على الله)([11]) .
وهذا الحج الشكلي الخالي من الغرض الحقيقي هو ما حصدوه من ابتعادهم عن الامام الحق، عن الفضيل عن أبي جعفر (A) قال (من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية، ولا يعذر الناس حتى يعرفوا إمامهم)([12]).
وان مكة تشرفت باحتضانها للمعصوم لذا أقسم بها مقيدة بوجوده (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) (البلد:1-2) ومن لطف الله تعالى بعباده حضور المعصوم (A) بنفسه في موسم الحج كل عام لتبقى الشعائر محتفظة بقيمتها المعنوية وليحظى الحجاج ببركات وجوده روي عن عبيد بن زرارة قال : سمعت أبا عبدالله (A) يقول: (يفقد الناس إمامهم فيشهدو الموسم فيراهم ولا يرونه) وفي كتاب اكمال الدين بسنده عن السفير الثاني محمد بن عثمان العمري قال (سمعته يقول: والله إن صاحب هذا الأمر يحضر الموسم كل سنة فيرى الناس ويعرفهم ، ويرونه ولا يعرفونه)([13]).
ولهذا يقف الامام السجاد (A) امام الطاغية يزيد ويعلنها صريحة واضحة (أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا)([14]) .
أي انا صاحب هذه المشاهد المشرفة والوريث الحقيق لها والمولود الطبيعي للقائمين عليها من لدن إبراهيم الخليل إلى النبي الأكرم محمد (9) فأنا أولى بولاية أمور الأمة وسياسة شؤون العباد والبلاد.
([1]) الخطبة الثانية لصلاة عيد الأضحى المبارك سنة 1440 هـ الموافق 12/8/2019.
([2]) الكافي: 4/503 ح 12.
([3]) من لا يحضره الفقيه: 2/290 ح 1432
([4]) معاني الأخبار: 340 ح 10
([5]) وسائل الشيعة: 11/12.
([6]) الكافي: 1/323 ح2.
([7]) وسائل الشيعة: 10/255 أبواب المزار، باب 2 ح12
([8]) الكافي: 2/18 باب دعائم الإسلام ح1،3،5
([9]) وسائل الشيعة: 9/57
([10]) الكافي: 1/322 ح 1
([11]) تفسير العياشي: 2/333 ح 39
([12]) بحار الأنوار: ج 23، ص 89
([13]) وسائل الشيعة: 11/135 أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 46 ح 8،9
([14]) بحار الأنوار: 45/138