الحج وصدق الفرار الى الله تعالى
بسمه تعالى
الحج وصدق الفرار الى الله تعالى ([1])
قال الله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50] وهو أمر بالفرار إلى الله تعالى وقد شرحنا ذلك في قبس سابق ([2])ضمن عدة نقاط ويمكن مراجعتها، مثلاً إن الآية ذكرت الفرار إلى الله تعالى ولم تذكر ممن الفرار؟ وأجبنا إن الفرار منه سبحانه أيضاً وليس في ذلك أي تناقض فنحن نفرّ من عدله إلى كرمه وتفّضله، ومن غضبه الى رحمته، وقد تضمنت الأدعية الشريفة هذه المعاني، كما في مناجاة الراغبين للإمام السجاد (عليه السلام): (وَها أَنَا....... فَارٌّ مِنْ سَخَطِكَ إلى رِضاكَ، هارِبٌ مِنْكَ إلَيْكَ).
وقد دلّت الروايات الشريفة أن الحج هو من أعظم طرق الفرار إلى الله تبارك وتعالى، فقد روى الشيخ الكليني في الكافي والشيخ الصدوق في معاني الأخبار بالإسناد عن الإمام الباقر (عليه السلام) في تفسير الفرار الى الله قال: (حجّوا الى الله عز وجل)، وروى الشيخ الصدوق في الفقيه بسنده عن زيد الشهيد عن أبيه السجاد (عليه السلام) قال: (يعني حجّوا إلى بيت الله، يا بنيَّ إن الكعبة بيت الله، فمن حجّ بيت الله فقد قصد إلى الله) ويضيف الإمام (عليه السلام) توسعة لذلك لمن لم يتيسر له الحج فقال (عليه السلام): (والمساجد بيوت الله فمن سعى إليها فقد سعى الى الله وقصد إليه)()[3].
أن الحياة في ضيافة الرحمن وفي تلك الأراضي المقدسة من نعم الجنة التي عجلها الله تعالى لعبادة المؤمنين في الدنيا قبل الآخرة ليريهم نعم الجنة وجداناً ويشوّقهم إليها.
فمدة السفر إلى الديار المقدسة أيام خالصة لله تبارك وتعالى شرفها الله تعالى وأكرمها بارتباطها به تبارك وتعالى، وقد أكدّ دعاء العشرة الأولى من ذي الحجة هذا المعنى (اللهُمَّ هذِهِ الأيامُ الَّتي فَضَّلتَها عَلى الأيامِ وَشَرَّفتَها وَقَد بَلَّغتَنيها بِمَنِّكَ وَرَحمَتِكَ) و المتوقع من الحاج الذي تجرد عن وطنه وأهله وأحبائه وماله ومنصبه وموقعه الاجتماعي أن يفرِّغ نفسه فيها لله تعالى، ويبدأ الاستعداد لهذه السفرة الإلهية قبلها بمدة فيبحث عن القافلة التي فيها مرشد ديني فاضل وورع وعامل، ومتعهد مخلص أمين، وأن يبرئ ذمته من حقوق الله تعالى و الناس المادية والمعنوية، ويسترضي خصومه، و ان يتفقه في مسائل الحج حتى يكون عارفاً بها من أولّها ولا يفوته شيء منها، فتجد من يحرِم من المطار ولا يلتفت الى أن التظليل بسقف الطائرة مخالفة شرعية، وأن يصحب معه ما يعينه على طاعة الله مما سنذكر إن شاء الله تعالى، ومما يستحب قبل السفر توفير الشعر من أول ذي القعدة وهكذا.
والفرار إلى الله تعالى له مراتب يحصل الحاج في بعض مراتبه العالية على نور يسددِّه في حياته كلها، فكيف نحقق أفضل مراتب الفرار في هذا الموسم العبادي؟
1- الورع عن محارم الله كالغيبة والاختلاط غير المشروع بين الرجال والنساء والممازحة باعتبار طول الرفقة في السفر وتجنب مجالس البطالين والأحاديث الفارغة واللغو التي لا تخلو غالباً من المحرمات كالغيبة والغمز واللمز فالحجاج في ضيافة الرحمن وليسوا في مقهى أو على أرصفة الطرقات، وأن تلتزم النساء بمقتضيات الحياء والعفة ويتجنبنّ ما ينافيهما فإنهما رأس كل خير، قال تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
2- عدم إضاعة الوقت فيما لا نفع فيه كالتسكع في الأسواق والتفرّج على أنواع البضائع فيها ويكفيه شراء ما يتحف أهله ومحبيه من هدايا تبركاً من الديار المقدسة، واستثمار الوقت بما ينفع حاله كذكر الله تعالى فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه واله) في فضل التسبيحة الرباعية قوله: (من قال: سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة ومن قال: الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة ومن قال: لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة فقال رجل من قريش: يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير، قال: نعم، ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نيراناً فتحرقوها، وذلك أن الله عز وجل يقول: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم. "().
[4]
أقول: هذه النيران هي المعاصي كالغيبة وظلم الآخرين وايذائهم وغير ذلك.
3- زيارة البيت الحرام يومياً والصلاة والدعاء فيه والإكثار من الطواف حول الكعبة وهو أفضل من إكثار الصلاة للحجاج الآفاقيين، وإن مجرد النظر إليها عبادة وان ينوب في هذه العبادات وغيرها عن المعصومين (عليهم السلام) ثم عن جميع المؤمنين ليتضاعف أجره بعددهم.
4- الالتفات الى الأسرار المعنوية ()[5] لشعائر الحج ومعانيها الحقيقية والأغراض المقصودة منها لتكتمل الاستفادة منها فان جوائز الحجاج على مراتب، أدناها لمن اقتصر على الشكليات قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] وتوجد كتب مؤلفة في هذا المجال.
5- الالتزام بالصلاة في أوقات فضيلتها فمن المعيب أن ينام الحاج عن صلاة الصبح أو يؤخر صلاته عن وقت الفضيلة لانشغاله بأمور الدنيا.
6- الحرص على حضور صلاة الجماعة التي يقيمها المرشدون، فإن فيها ثواباً لا يحصى وبركات لا تعدّ.
7- المواظبة على الاستماع الى المحاضرات الدينية وحضور مجالس الوعظ والإرشاد وتعليم الأحكام الشرعية عموماً وما يتعلق بالحج خصوصاً.
8- الإكثار من تلاوة القرآن الكريم فقد نزل على النبي (صلى الله عليه واله) في هذه الأرض المباركة، وأن يعيش أجواء الآيات الكريمة وظروف نزولها وورد استحباب إكمال ختمة قرآن في مكة.
9- أداء الصلوات المستحبة كالنوافل اليومية خصوصاً صلاة الليل فقد قال الله تعالى في جزاء من يؤديها {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]، وصلاة جعفر الطيار في المشاهد المشرفة خصوصاً في ضحى يوم الجمعة، وصلاة ركعتين يوم الجمعة بين الظهر والعصر بالحمد والتوحيد سبعاً مع دعائها القصير، وصلاة أربع ركعات بالحمد والتوحيد ثلاثاً والمعوذتين كل أحد من ذي القعدة وبعدها الاستغفار والدعاء وصلاة ركعتين بالحمد وآية {وَوَاعَدْنَا مُوسَى} [الأعراف : 142] في العشر الأوائل من ذي الحجة، وصلاة أول الشهر حيث سيهلّ عليهم شهر الحجة وهم في الديار المقدسة وغير ذلك مما جرت عليه سيرة الصالحين.
10- وما دام الحاج ينوي الإقامة في مكة فإنه يستطيع الصوم من هذه الناحية، فلا يفوته صوم الأيام المستحبة كيوم دحو الأرض وأول خميس من الشهر وآخر خميس والأربعاء في الوسط وصوم الخميس والجمعة والسبت من الأشهر الحرم ومنها ذو القعدة وذو الحجة، كما يستحب صيام الأيام التسعة الأولى من شهر ذي الحجة.
11- الإكثار من الأدعية المنصوصة في الأوقات المخصوصة وغيرها، أو ما يُنشئه الحاج نفسه مما يعبّر عن عمق صلته بالله تعالى وشدة فقره واحتياجه إلى فضله وإحسانه تبارك وتعالى.
12- مطالعة كتب المناسك للتفقه في أحكام الحج وأدائها بأحسن كيفية والسؤال عن الأحكام التي لا يعرفها.
13- أن يحسن معاشرة الآخرين وصحبتهم ويكون لطيفاً وودوداً ساعياً في خدمتهم قدر الإمكان ويؤثرهم على نفسه إن حصل تزاحم في أمر ما كالطعام أو المكان ولا يؤذيهم، وقد عقد صاحب الوسائل كتاباً مفصلاً لروايات أهل البيت (عليهم السلام) في آداب العشرة قبل الدخول في مسائل كتاب الحج.
14- وتوجد مستحبات خاصة بمناسك الحج كاستحباب الإحرام من المسجد الحرام للخروج الى الحج وإن كان الإحرام من المنزل مجزياً وغير ذلك مما ذكرته كتب المناسك، وقد يصعب أداء بعضها بسبب تنظيم حركة القوافل وحفظ الحجاج من الضياع كالمبيت ليلة عرفه في منى وكذا الليلة الثالثة عشرة لمن لم تجب عليه فلا بد من الاتفاق بين المتعهد والمرشد الديني.
15- إظهار وحدة الشعب واستثمار هذه الفرصة حيث يجتمع الحجاج من كافة الطوائف والقوميات والمناطق وتذويب جميع الخلافات والتذكير بالقواسم المشتركة التي أرادها الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه واله) {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].
16- الاهتمام بقضايا المسلمين جميعا في شرق الأرض وغربها والتعاطف معهم والمساعدة في حل مشاكلهم ولو بكلمة مواساة او نصيحة أو بنقل مشاكلهم الى المعنيين، وتبادل الرؤى النافعة مع جميع المسلمين قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28].
[1] - كلمة ألقاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على حشد كثير من مرشدي الحجاج في نهاية مؤتمرهم السنوي قبل توجّههم الى الديار المقدسة يوم الجمعة 6/ذو القعدة/1444 الموافق 26/5/2023.
[2] - تفسير (من نور القرآن):5/14-21.
[3] - راجع مصادر هذه الروايات في تفسير البرهان:9/134.
[4] - بحار الأنوار ٩٠، ص١٦٨.
[5] - أتذكر انني في حج سنة 1431 كنت ألقي كلمة أخلاقية عن الآداب المعنوية للحج في إحدى القوافل تأثروا بها ومما ذكرت من أسرار الحج هو ابتداء الحج بعد الاحرام بالخروج الى عرفة وهي خارج الحرم وفيه رسالة أنكم لا تستحقون بأعمالكم إلا الخروج من حرم الله تعالى الآمن المبارك لكنهم بعد أن يصدقوا في الاستغفار والدعاء في عرفة وإكثار الذكر في مزدلفة يؤذن لهم بدخول الحرم في منى فيرجمون شياطين الجن والإنس وينحرون الأهواء والمطامع وشهوات النفس الأمارة بالسوء ويحلقون رؤوسهم اعلاناً للنصرة التامة لدين الله تعالى ثم يعودون الى البيت الحرام راضيين مرضيين.