قبس من سورة الاسراء الآية 100 {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا}

| |عدد القراءات : 391
قبس من سورة الاسراء الآية 100 {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا}
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

قبس من سورة الاسراء الآية 100 {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا}

القى سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) درس التفسير الأسبوعي على جمع من طلبة الحوزة العلمية الشريفة بمكتبه في النجف الاشرف مقتبساً من نور الاية الكريمة في سورة الاسراء {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} (الإسراء: 100).

وأوضح سماحتُهُ (دام ظله) ان الانسان جُبل على حب المال بحسب طبيعته الإنسانية {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (الفجر: 20) وليس في ذلك نقص ذاتي فلو كان حب كسب المال من أجل التقرب إلى الله تعالى بإنفاقه في موارد البر والإحسان كالحج والعمرة وزيارة المعصومين (عليهم السلام) ومساعدة المحتاجين ونصرة الدين ونشر المعارف الدينية وتزويج الشباب المتعففين وإنشاء المشاريع ذات النفع العام كالمستشفيات والمدارس ومحطات المياه والكهرباء وشق الطرق وغيرها، فإنه سيكون أمراً محموداً بلا إشكال وسيكون من طلب الآخرة وليس الدنيا.

ولفت سماحته الى المعنى المذموم عند الله تعالى في مسألة حب (المال) حيث تبرز المشكلة فيما لو كان هذا الحب يدفعه إلى تحصيله بأي نحو كان ولو من طرق غير مشروعة، أو أن هذا الحب يكبّله عن دفع ما يتعلق بذمته من مال حيث جعل الله تعالى فيه حقوقاً لغيره {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (الذاريات: 19) وهذه الحالة هي التي ذمّها الله تبارك وتعالى وتتحول بالانسياق المستمر لها إلى صفة متأصلة في النفس الإنسانية وتتغلب على نداء العقل والفطرة والدين وتميتها، وهذه الصفة أصبحت غالبة لدى البشر حتى عدَّها الله تعالى من الصفات اللازمة للإنسان {وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورً} (الإسراء: 100) والإقتار هو التضييق في الإنفاق والبخل بالمال والإمساك عن بذله في موارد رجحانه، وصيغة (فعول) من صيغ المبالغة التي تدل على شدة الاتصاف، وقال تعالى في آية أخرى {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} (النساء: 128) والشُّح هو ((بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة)) فهذه الصفة حاضرة لدى الإنسان ومشاهدة فيه بوضوح إلا مَن عصم الله تعالى.

كما بيَّن سماحتُهُ ان هذا الحرص على المال والخوف من الإنفاق وان كان الانسان يبرره بخوف الفقر والاحتياج في المستقبل فيدّخره للطوارئ حتى قيل في المثل (الفلس الأحمر ينفعك في اليوم الأسود) إلا أنه يخدع نفسه وتفضحه الآية الكريمة بأنه حتى لو ملك خزائن رحمة الله على سعتها وعدم نفادها (ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً)، فإنه سيمتنع عن الإنفاق، لأن البخل والشح والحرص على المال صفة راسخة في نفس الإنسان، وخزائن رحمة الله هي الجهات التي جعلها الله تعالى سبباً لاستدرار رحمته كما في الدعاء (اللهم إني أسألك موجبات رحمتك) وهي عامة تشمل العطاء المعنوي والمادي.

وعرض سماحته جملة من الأساليب التي استقرئها من الآية الكريمة والاحاديث الشريفة للمعالجات التي منَّ الله تعالى بها على عباده لإصلاح القسم المذموم في هذه الصفة (الشُح) والامساك وتوجيهها بالاتجاه الصحيح وهي :

1- الترغيب في الإنفاق من خلال بيان الآثار المباركة له في الدنيا والآخرة كمضاعفة الثواب  أضعافاً كثيرة، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 261) وأن الإنفاق سبب لغفران الذنوب ومحو السيئات، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (البقرة: 271) وسبب للتثبيت على الهدى والصراط المستقيم في الآخرة {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ} (البقرة: 265) وأن الصدقة تستنزل الرحمة الإلهية والاطمئنان والسكينة، قال تعالى:  {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (التوبة: 103) وغير ذلك.

وقد أخبرت الأحاديث الشريفة ببعض هذه النتائج المباركة كقول النبي (صلى الله عليه وآله): (أرض القيامة نار ما خلا ظلَّ المؤمن، فإن صدقته تُظِّله)([1])، وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (الصدقة تسدُّ سبعين باباً من الشرّ).

2- التحذير من سوء العاقبة سوء عاقبة المتخلفين عن الإنفاق كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ*يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} (التوبة: 35_34) فهذه الصور لعواقب فضيعة يكفي مجرد تصورها للإصابة بالذعر والهلع الشديدين.

3- الوعد بأن الله تعالى يخلف على الإنسان ما ينفقه في سبيل الله، قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} (سبأ: 39)، مضافاً إلى أنّ له أجر ما أنفق([2]) قال تعالى {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} (البقرة: 272)

4- بيان حقيقة أن هذا المال ليس مملوكاً حقيقة للإنسان وإنما هو وديعة لديه وأمانة استُخلف عليها وعمّا قريب تستردّ الوديعة ويخرج من الدنيا صفر اليدين { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ} (الأنعام: 94) ولا يبقى له إلا ما أنفق في سبيل الله وحينئذ لا يتردد عاقل في نقل أكبر مقدار ممكن مما خوّله الله تعالى إلى حسابه الثابت في الآخرة وعدم تركه وراءه بلا استثمار في ما ينفعه في حياته الباقية، قال الله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (الحديد: 7).

5- معالجة الإشكالات التي يوسوس بها الشيطان لمنع الإنسان من الإنفاق وعلى رأسها خوف الفقر ولا يلتفت إلى أن الآمر بالإنفاق هو الرزّاق الكريم وبيده خزائن السماوات والأرض، قال تعالى معاتباً ومستنكراً: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الحديد: 10) فهو الذي أعطاكم وهو الذي رزقكم فلماذا الخوف من الإنفاق؟، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 268) ويخوفكم من الفقر إذا أنفقتم قال تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 175) والتخويف هنا مطلق شامل لكل أسبابه وموارده  فقال تعالى في الجواب: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة: 28).

6- إلفات النظر إلى أنهم إن لم ينفقوا المال في طاعة الله تعالى وما يوجب رضاه فإنهم سيبتلون بإنفاق ما هو أكثر منه في معصية الله تعالى ويجمعون عليهم خسارة الدنيا والآخرة، قال تعالى: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} (الأنفال: 36).

وفي نهاية درسه التفسيري أكد سماحته ان المعنى المقصود (بالشُح) لا يقتصر على إمساك الانفاق بالمال، وإنما هو شامل لكل موارد الانفاق التي فصلناها في قبس سابق[3] .. )، وان أسوأ درجات البخل الامتناع عن الشهادة لله تعالى بالوحدانية ولمحمد (صلى الله عليه وآله) بالرسالة روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (أبخل الناس من بخل بما افترض الله عليه)([4])،كما يروى عن أحد طواغيت قريش أنه أجاب النبي (صلى الله عليه وآله) حين طلب منه أن ينطق بالشهادتين فقال: (إن حمل الجبال الرواسي على ظهري أهون عليّ من النطق بهما)([5]) وهكذا من البخل كتمان كل شهادة حق وعلى رأسها الشهادة لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالولاية، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} (البقرة: 283) ومنها البخل على أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) بالمودّة، قال تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (الشورى: 23)، وتصل ذروة البخل بالامتناع عن أداء حق النبي (صلى الله عليه وآله) وشكره على جهده وجهاده بالصلاة عليه وعلى آله عند ذكره ففي الحديث النبوي الشريف: (إن أبخل الناس من ذُكِرتُ عنده ولم يصلِّ عليَّ)([6]).

 
 
 
 
 
 
 


[1] - الكافي: 4/3، ح6.

[2] - يوجد في إحدى الدول الأوروبية بنك للوقت تسجِّل فيه حساباً للوقت الذي تنفقه في خدمة الآخرين على نحو المداراة الصحية أو الأعمال المنزلية وغير ذلك وهذا الرصيد يُستفاد منه عند الاحتياج إلى المساعدة في الشيخوخة أو المرض أو أي سبب آخر فيأتي من يخدمك مدة تستقطع من الرصيد فهذا تطبيق لما افادته الآية الكريمة من أن الله تعالى يخلف على المنفق.

[3] - خطبتا صلاة اعيد الفطر المبارك لسنة 1444 هجرية في قبس من سورة البقرة الاية 195 {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (البقرة: 195)

[4] - بحار الأنوار: 73/ 300، ح 2.

[5] - لم نجد الرواية لا في مصادر السنة ولا في مصادر الشيعة.

[6] -كنز العمال:2144.