مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً - الإسلام يحقّق الرفاه في الدنيا والسعادة في الآخرة
بسم الله الرحمن الرحيم
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} (النحل: 97)
الإسلام يحقّق الرفاه في الدنيا والسعادة في الآخرة[1]
قال الله تبارك وتعالى {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (النحل: 97).
وعدٌ من الله تعالى و {إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (آل عمران: 9) على نحو قانون عام ثابت تنشرح له النفس ويطمئن به القلب وتنشط به الجوارح خصوصاً للنساء اللواتي صودرت حقوقهن وأهينت كرامتهن وأنقصت درجاتهن.
{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا} أيَّ عمل صالح، سواء كان العمل صغيراً أو كبيراً، ظاهراً أو خفياً، واحداً أو متعدداً فإنه مشمول بالآية الكريمة، وهذا يدعونا إلى عدم التقاعس عن القيام بأي عمل مادام صالحاً ولا نقلّل من شأن شيء منه، لأننا لا نعرف قيمة العمل ولا نعلم أثره، فقد اخفى الله تعالى رضاه في طاعته، حتى يكون ذلك حافزاً للقيام بكل عمل صالح.
{مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى} بيان للتأكيد على عدم الفرق بين الذكر والأنثى في العمل وفي الجزاء، ولا في الواجبات والاستحقاقات، فالخطاب لهما واحد على حد سواء، ولكل منهما القابلية على نيل الكمالات، وقد كانت {مَنْ} في بداية الآية كافية للدلالة بإطلاقها على شمولها للذكر والأنثى على السواء، لكن جيء بهذا التفصيل لتأكيد هذه الحقيقة، حيث سجّلت سورة النحل قبل ذلك عقيدة الجاهلية في الأنثى وضيق نفوسهم بها، وسطّرت جملة من صور احتقار المرأة كاستياء من يُبشَّر بولادتها وتواريه عن الناس قال تعالى في نفس سورة النحل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ، يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ إلا سَاء مَا يَحْكُمُونَ} (النحل: 58-59).
فتساوي الآية الكريمة بين الذكر والأنثى في العمل الصالح والجزاء الحسن بشرط أن يحسنوا مقدمات الحصول على الحياة الطيبة، ومنها مراعاة الاحكام الخاصة لكل منهما مضافاً الى الاحكام المشتركة بينهما ولا يجوز للمرأة تجاوزها باسم المساواة ونحو ذلك {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (البقرة : 229) وقد تتورط المرأة بإسم العرفان والسلوك الى الله تعالى وتغريها بعض الكلمات المعسولة من قطّاع الطرق وشياطين الإنس فتقع فريسة لهم بسذاجتها وجهلها وكان عليها أن تعلم من أول الطريق أن (العفة رأس كل خير)[2] كما ورد عن الأمام علي ابن ابي طالب(عليه السلام)وهي قد أضاعت العفّه عندما ارتبطت بهؤلاء الماكرين على (الخاص) وتبادلوا الكلمات العاطفية فالحذر الحذر.
وفي الآية تطمين للمرأة بان حقها ثابت، وكرامتها محفوظة، وأن الامتهان والانتقاص الموجودين في القوانين الأرضية والدينية المُحرفة لا يمتّان إلى الدين الإلهي بصلة، وهذا غاية ما يُقال في المساواة بين الرجل والمرأة، ودعك من عقائد الجاهلية وأحاديث المتشدقين بظلم المرأة والحيف عليها والمطالبة بحقوقها، فهذا هراء يُعرف القصد منه، ولن تجد الكرامة والعدالة والمساواة إلا في ظل الإسلام، وإنما يريدون بدعواتهم هذه إفساد المجتمع، وإخراج المرأة من عفافها وحيائها لتتحول إلى سلعة تحقق المتعة لهم، ثم يرمونها على قارعة الطريق.
{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الواو حالية: فكون العمل صالحاً ظاهراً لا يكفي في الحصول على الدرجات الرفيعة، ما لم يقترن بالإيمان، وما لم يصدر بنية خالصة لله تبارك وتعالى {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة: 5)، فكم من عمل يبدو صالحاً في نفسه إلا أنه غير مقبول، ولا يترتب عليه الجزاء الطيب لأنه لم يكن خالصاً لوجه الله تعالى، كمن ينفق ماله رياءً أو يقاتل عصبية أو لغنيمة يطلبها، فإن حظه يكون تحقق الغاية التي أرادها، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: (إنما الأعمال بالنيات، إنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر اليه)[3].
فلا بد أن يكون المؤمن دقيقاً من هذه الناحية {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (القيامة: 14) وربما يظهر من بعض الروايات أن هذه النية تخفى حتى على الملك الرقيب على الإنسان، روى الشيخ الكليني في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الملك ليصعد بعمل العبد مبتهجاً به، فاذا صعد بحسناته يقول الله عز وجل: اجعلوها في سجّين، إنه ليس إياي أراد بها)[4].
ولعل تقديم العمل على الإيمان في الآية لإلفات النظر إلى أن العمل يعكس حقيقة الإيمان، ويكشف عن صدقه ولا ينفع إيمان إلا مع عمل، كما لا ينفع العلم إلا بالعمل به.
{فَلَنُحْيِيَنَّهُ} أي من يعمل صالحاً وهو مؤمن يفيض الله تعالى عليه حياة أخرى ارقى من الحياة الاعتيادية التي يشترك فيها مع جميع الناس، ولعلها المقصودة بالمرتبة الثالثة أو الرابعة من مراتب النفس الإنسانية بحسب تقسيم أمير المؤمنين (عليه السلام)[5]، وهي الحياة الإنسانية الحقيقية أما غير المؤمن فليس كذلك لأن حياته جسدية حيوانية لا تزيد عن فعاليات الحيوان فهو مثله يأكل ويشرب ويتحرك وينام وينكح، وقد يزيد على الحيوان بوجود عقل نظري يتقن به بعض العلوم لكنه يفتقد الحياة المعنوية التي يتميز بها الإنسان، واستحق بها أن يكون خليفة الله في أرضه؛ لذا ضرب القران الكريم مثلاً لحياة غير المؤمنين بالأرض الهامدة والميتة فاذا انزل الله تعالى عليها برحمته ماء الايمان والمعرفة بالله فإنها تنتعش وتزدهر قال تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} (الحج: 5).
((فالجملة بلفظها دالة على أن الله سبحانه يكرّم المؤمن الذي يعمل صالحاً بحياة جديدة غير ما يشاركه سائر الناس من الحياة العامة، وليس المراد به تغيير صفة الحياة فيه وتبديل الخبيثة من الطيبة مع بقاء أصل الحياة على ما كانت عليه، ولو كان كذلك لقيل: لنطيبّن حياته فالآية نظير قوله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} (الأنعام: 122)))[6].
((وليست هذه الحياة الجديدة المختصة بمنفصلة عن الحياة القديمة المشتركة، وإن كانت غيرها فإنما الاختلاف بالمراتب لا بالعدد فلا يتعدد بها الإنسان كما أن الروح القدسية التي يذكرها الله سبحانه للأنبياء لا توجب لهم إلا ارتفاع الدرجة دون تعدد الشخصية))[7].
{حَيَاةً طَيِّبَةً} صفة للحياة التي يختص بها المؤمنون بلطف الله تعالى وتأييده {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} (المجادلة: 22) ويتنعمون بها، وهذا الوعد مطلق فهو لا يختص بحياة الآخرة وإنما يكون ذلك في الدنيا أيضاً ولا ينافي الآيات التي دلّت على اختصاص الآخرة بصفة الحياة باعتبارها المستمرة الباقية والحقيقية كقوله تعالى {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر: 24) وقوله تعالى {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} (العنكبوت: 64) فهذا الوصف بلحاظ خلودها وعدم فنائها في الدنيا، اما الوعد بالحياة الطيبة فإنه لحاظ آخر لا مانع من أن تكون مطلقاً فيشمل الدنيا بإطلاقه، فإن من ذكرتهم الآية يتنعمون بالجنة وهم في الدنيا، كما ورد في خطبة أمير المؤمنين(عليه السلام) في وصف المتقين: (....فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ)[8]، وتوجد أدلة من القرآن الكريم والسنّة الشريفة على أن الإنسان يعيش الجنة والنار في حياته الدنيوية بنحو من الأنحاء.
بل لعلَّ هذا الوعد متعيّن في الدنيا، لأن حسن جزاء الآخرة مذكور في نهاية الآية {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ} وهو أوضح في قوله تعالى: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (غافر: 40).
ووصْفها بالطيبة مطلق ولا يختص بجهة معينة من الحياة، فهي آمنة مطمئنة سعيدة هادئة هانئة، تمتزج فيها المبادئ السامية مع العيش الرغيد، وليس من الضروري أن يتحقق ذلك بمال وفير أو جاه عريض أو سلطة قوية، وتزداد طيبة هذه الحياة بأن الله تعالى نسبها إليه مباشرة {لَنُحْيِيَنَّهُ} فالمؤمن العامل للصالحات يدّبره الله تعالى بحسن صنيعه، ويختار له الخير في جميع أموره، فالله تعالى ينصره في كل مواطن المواجهة وبكل أشكالها {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (غافر: 51) ويتولى أمره {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (فصلت: 31) ويزيل عنه الهم والحزن ويبشّره {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (يونس:62- 64). وممّا يميّز هذه الحياة الطيبة حصول نور الفرقان في قلبه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (يوسف : 108) فيميّز بين الحق والباطل فيعرض عن الباطل ويتعلق بالحق {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} (يونس: 82) . وغير ذلك من المنن الالهية العظيمة، وتتحقق بها استجابة لدعائهم {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (البقرة: 201).
وقد فُسِرت الحياة الطيبة في الروايات بمعان عديدة: منها: القنوع[9] كما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة والإمام الصادق (عليه السلام)، وكلها مصاديق لما يوجب الحياة الطيبة، أو إنها من آثارها على حياة الإنسان كقول ابن عباس: أنها السعادة[10].
وتكون النتائج أوضح لو أن المجتمع عمل بهذا القانون فإن حياته الطيبة ستتجلى في الأمن والسلام والمحبة والتكامل والرفاه والإيثار، وسيزول عنه الظلم والطغيان والاستبداد والاستكبار والاستعباد وعبادة الأهواء والطواغيت، ولذا فإن هذه الحياة الطيبة ترتبت على العمل الصالح وليس الإيمان وحده، وهذه نتائج طبيعية لأنهم سيتصلون بالله تعالى وسيفيض عليهم من صفاته الحسنى بما يناسب درجاتهم، قال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} (المائدة : 66) وقال تعالى في الأمم التي تنكّرت للإيمان والعمل الصالح فسُلِبت نعمتا الغذاء والأمن {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} (النحل: 112) وقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إلا الْكَفُورَ} (سبأ:15- 17).
{وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فإن الله تعالى وعد عباده { إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الكهف: 30) {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} (الأنعام: 84) وإذا كان عملهم الصالح متفاوتاً في الحسن بحسب إقبال قلوبهم ونشاط جوارحهم وتهيئة الظروف المناسبة، فإن الله تعالى سيعطيهم الجزاء وفق أحسن عمل قدموه، كالأستاذ الذي يمتحن طلابه عده مرات ثم يحتسب لهم اعلى درجة أحرزوها، أو كتاجر محسن يأتي إلى صاحب بضاعة مختلفة في الجودة والسعر فيأخذها كلها بسعر أفضلها، هذا بلحاظ عملهم، أما بلحاظ كرم الله تعالى وفضله فإن حسن الجزاء سيزداد بغير حساب {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} (البقرة: 261) فيكون المعنى بأحسن مما كانوا يعملون وهذا معنى ثانٍ للأحسنية، ويمكن أن يكون المعنى أنهم إذا كان في عملهم طاعة ومباح إحتسب المباح طاعة كقول النبي (صلى الله عليه وآله): ( ونومكم فيه عباده) وفي وصيته (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر أن النكاح يكون عبادة وفي بعض الأحاديث أنه إذا فاتته طاعة لمرض ونحوه كتبت له وهكذا.
وهنا معنى رابع بأن يكون الأحسن بمعنى الحسن المحض مقابل السيئ فيكون المعنى أن الله تعالى يجزيهم على أعمالهم الحسنة فقط أما السيئة فلا يحاسبهم عليها لأنه سبحانه سيغفرها لهم برحمته {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} (غافر: 40) أي لا يحاسبهم عليها أو يبدلها حسنات {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} (الفرقان: 70).
والوعد بالحياة الطيبة في الدنيا يدعونا إلى تصحيح أسلوب الخطاب الديني فإننا حين ندعو الناس إلى الالتزام بالدين والعودة إلى الله تبارك وتعالى نقدّم لهم وعوداً بالجزاء في الآخرة بأنهم سيدخلون الجنة ويتنعمون بها، وهذا لا يكفي لإقناع الناس بالدين لأنهم أبناء هذه الدنيا {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} (القيامة: 20) وهم يفكرون في تحسين أوضاعهم المعاشية ويسيرون خلف من يضمن لهم ذلك فلا بد أن تبيّن لهم أن الدين ليس فقط مشروعاً لإصلاح الآخرة بل هو مشروع لسعادة الدنيا أيضاً، وهذا منهج قراني، فإنه في أوائل البعثة الشريفة لما دعاهم إلى عبادة الله تعالى كفل لهم أهم حاجتين الغذاء والأمن، قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (قريش: 3- 4) بل إن أول إنسان خلقة الله تبارك وتعالى وهو النبي آدم (عليه السلام) أبو البشر تعهد الله تعالى له بذلك قال عز وجل: {إِنَّ لَكَ إلا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} (طه: 118- 119)، وقد رغّب الله تعالى المؤمنين في الجهاد بثواب الآخرة وغنيمة الدنيا، قال تعالى: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} (الفتح: 20).
ومن يتتبّع أحاديث النبي واله (صلوات الله عليهم أجمعين) يجد هذه الرؤية واضحة، مثلاً في قضية الزواج تجد الأحاديث الأخروية كقول النبي (صلى الله عليه واله وسلم): (من أحب أن يتبع سنتي فإن من سنتي التزويج)[11] وقول الإمام الصادق (عليه السلام): (ركعتان يصليهما المتزوج أفضل من سبعين ركعة يصليها أعزب)[12]، وتجد أيضاً حديث الإمام الباقر (عليه السلام) عن جده رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) قال: (اتخذوا الأهل فإنه أرزق لكم)[13] وقال الإمام الصادق (عليه السلام) لمن شكا له الحاجة: (الرزق مع النساء والعيال)[14].
أو قضية طلب العلم فقد وردت فيه أحاديث كقول النبي (صلى الله عليه واله): (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)[15] وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (الشاخص في طلب العلم كالمجاهد في سبيل الله)[16] كما ورد فيه مثل قول النبي (صلى الله عليه واله): (من تفقه في دين الله كفاه الله همه ورزقه من حيث لا يحتسب)[17].
ولا بد من الانتباه هنا إلى أن الأغراض الدنيوية يجب أن تكون في طول نية القربة إلى الله تعالى وتحت سقفها كما يقال، وليس في عرضها على نحو التشريك فضلاً عن كونها هي الغاية، فإنه خلاف الإيمان والإخلاص الذي اشترطته الآية الكريمة وغيرها، خُذ مثلاً حديث الإمام الصادق (عليه السلام) عن طلب العلم: (من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة)[18].
وهكذا تجد عبادات كثيرة جُعِلَ جزاؤها دنيوياً معجلاً كتحصيل الذرية أو التوسعة في الرزق أو تفريج الهموم والغموم أو السعادة الزوجية أو راحة البال وغير ذلك، وهو لا ينافي الإخلاص وقصد القربة وتصحيح ذلك أنها من باب الداعي إلى الداعي أي أن الداعي إلى الصلاة تكون القربة إلى الله تعالى وأن الداعي إلى هذا الداعي هي هذه الحاجات والمطالب المعجَّلة.
ومن يقرأ الأهداف التي أعلنها الإمام الحسين (عليه السلام) لخروجه يجد فيها إقامة السنة وإماتة البدعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ويجد إلى جنبها إقامة العدالة الاجتماعية وتوفير الأمن وحرية التعبير عن الرأي وسائر حقوق الناس وتوزيع الثروات على الشعب بالعدل والعمل بالقانون وإبطال إمامة الجور ونحو ذلك من الأغراض التي تلبي الاحتياجات العاجلة للناس.
[1] - قبس قرآني القاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على طلبة البحث ضمن دروسه التفسيرية كل اربعاء يوم 22/شعبان/1444 الموافق 15/3/2023.
[2] -ميزان الحكمة: ج ٣-ص٢٠٠٦
[3] - بحار الانوار: 67/ 213 عن غوالي اللئالي.
[4] - الكافي: 2/ 223 ح7.
[5] - روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): قوله لكميل بن زياد النخعي (يا كميل، وأي الأنفس تريد أن أعرفك؟ قلت: يا مولاي هل هي إلا نفس واحدة؟ قال: يا كميل إنما هي أربعة: النامية النباتية، والحسية الحيوانية، والناطقة القدسية، والكلية الإلهية) (بحار الأنوار: 58/ 85).
[6] _ الميزان في تفسير القران: 12/ 341.
[7] _الميزان في تفسير القران:12/ 343.
[8] - نهج البلاغة: خطبة 193.
[9] - نور الثقلين: 3/ 83، بحار الأنوار: 68/ 345.
[10] - الدر المنثور: 5/ 164.
[11] - وسائل الشيعة: 20/ 17 ط. مؤسسة أهل البيت عليهم السلام.
[12] - وسائل الشعة: 20/ 18.
[13] -وسائل الشيعة: 20/ 19.
[14] - وسائل الشيعة: 20/ 44، ح 4، 5.
[15] - تنبيه الخواطر: 2/ 176 ميزان الحكمة: 6/ 156.
[16] - ميزان الحكمة: 6/ 157.
[17] - كنز العمال: ح 28855، ميزان الحكمة: 6/ 157.
[18] - الكافي: 1/ 46، ح2، ميزان الحكمة: 6/ 164.