السيدة الزهراء (ع) تنبّه الى المعية الإلهية ... الثمرات والمراتب
السيدة الزهراء (ع) تنبّه الى المعية الإلهية ... الثمرات والمراتب ([1])
قال الله تبارك وتعالى (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الحديد:4)
تنبّه الآية الكريمة إلى حقيقة قرآنية عظيمة تزيد الانسان كمالاً ومعرفة بربّه كلما ازداد ايماناً بها واستحضرها في وجدانه فعلاً.
تلك الحقيقة هي ان الله تعالى معكم في جميع مراحل تكوّنكم في الدنيا والآخرة وفي كل مكان تكونون فيه ومهما اعتقدتم انكم في خلوة وانفراد فانه معكم، وهو تعالى معكم في كل زمان وفي كل حالة من حالاتكم ومطلّع عليكم ومحيط بكم (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) (سبأ:3) فالمعيّة الإلهية متحققة من جميع الجهات، وان لفظ (اين ما) الوارد في الآية لا يحدّدها بالمعية المكانية، ولعل ذكرها باعتبار ان المعية المكانية هي الاوضح في الاذهان للتعبير عن الاقتران وكذا الغيبة المكانية أوضح في التعبير عن الافتراق.
ولذا جاءت الفقرة التالية لها (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) كالنتيجة لهذه الحقيقة لان لازم حضوره معكم وعدم احتجابكم عنه وإحاطة علمه بكم أن يكون بصيراً بأعمالكم عالماً بنيّاتكم وأغراضكم أي يعلم ظاهر الاعمال وباطنها.
وقد تكرر هذا المعنى في آيات كريمة أخرى كقوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (المجادلة:7) وقال تعالى (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) (النساء:108).
وقد استلهم النبي (|) هذه الحقيقة وقدّم توجيهاً تربوياً في وصيته لأبي ذر (رضوان الله تعالى عليه) بقوله (أعبد الله كأنك تراه فان كنت لا تراه فأنه يراك)([2]) والعبادة تسري في كل شؤون الحياة.
إن الايمان بهذه الحقيقة له عدة آثار في حياة الانسان:
1- سيشعر انه ليس وحيداً في مواجهة الصعوبات والمحن والبلاءات وانما يكون معه رب رؤوف رحيم يشفق عليه ويرعاه ويدفع عنه ويحميه ويستجيب لدعائه وطلباته و اذا تأخرت الإجابة فلمصلحته لانَّ ربه يختار له الخير ويكافئه على الاحسان ويعفو عن الإساءة وينصره عند الضعف والانقطاع (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:62) (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء:78-82) فهي معيّة الايجاد والهداية ومعيّة الاطعام والسقي ومعيّة الشفاء من المرض ومعيّة البعث والنشور. وبذلك يتحول عجز الانسان وضعفه إلى قوة واقتدار ويتبدل خوفه وقلقه بفضل الله تعالى إلى أمن وطمأنينة قال تعالى (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) (محمد:35) وقال تعالى (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا) (التوبة:40).
روى الشيخ الصدوق عن إمامنا الْعَسْكَرِيِّ (×) (أَنَّهُ سُئِلَ إمامنا الصَّادِقُ عَنِ اللَّهِ؟ فَقَالَ لِلسَّائِلِ:" يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، هَلْ رَكِبْتَ سَفِينَةً قَطُّ "؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: " فَهَلْ كُسِرَ بِكَ حَيْثُ لَا سَفِينَةَ تُنْجِيكَ، وَلَا سِبَاحَةَ تُغْنِيكَ "؟ -أي حالة انقطاع أسباب النجاة- قَالَ: بَلَى. قَالَ: " فَهَلْ تَعَلَّقَ قَلْبُكَ هُنَاكَ أَنَّ شَيْئاً مِنَ الْأَشْيَاءِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُخَلِّصَكَ مِنْ وَرْطَتِكَ "؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ الصَّادِقُ: " فَذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ اللَّهُ الْقَادِرُ عَلَى الْإِنْجَاءِ حِينَ لَا مُنْجِيَ، وَعَلَى الْإِغَاثَةِ حِينَ لَا مُغِيثَ ")([3]) لاحظوا عظمة النعمة بحضور الله تعالى معنا، وأي وحشة وعجز وضعف يحسّ به المنكر للخالق.
وتزداد معية التوفيق والتأييد كلما ازداد العبد قرباً من ربّه (وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي) (المائدة:12) أي ان بعض مراتب المعيّة العالية مشروطة بالإيمان والعمل الصالح.
وفي الحديث الشريف (انا عند المنكسرة قلوبهم)([4]) أي ان الالطاف الإلهية الخاصة تحضر عند انكسار القلب لاي سبب كان سواء من خشية الله تعالى او عند التعرض لمظلومية وعدوان وغير ذلك .
2- وسيشعر أيضاً أنه ليس مطلق السراح في اتباع شهواته ونزواته واهوائه ويفعل ما يشاء من جرائم ومنكرات وظلم للآخرين وإنما هو تحت الرقابة الإلهية التي لا تحيط فقط بظاهر الاعمال بل تنفذ إلى باطن العمل فتعلم النية والغرض، فقد يكون العمل حسناً بحسب الظاهر الا انه في حقيقته سيئ لان نية صاحبه سيئة كما لو قام به رياء او طلباً للسمعة والجاه ونحو ذلك ولم يكن يبتغي به وجه الله تعالى لان الناقد بصير وهيهات لن يخدع الله عن جنته كما ورد في كلمات أمير المؤمنين (×).
وهذا الشعور يدفع العباد إلى القيام بالمزيد من الاعمال الصالحة وتخليص النيات من الشوائب وتجنب الاعمال السيئة والظلم والعدوان، فهذه الرقابة الإلهية لمصلحة الإنسان وهي توجّه بوصلة حياته نحو الخير وتضبط استقامته وليست شيئاً قسرياً مفروضاً عليه.
وهي رقابة داخلية تستقر في ضمير الانسان وتكون حاضرة اذا غابت عنه رقابة الأجهزة والقوانين الحكومية أو الأعراف الاجتماعية.
ولأهمية هذه الحقيقة فقد ورد في الحديث الشريف عن النبي (|) (من أفضل ايمان المرء أن يعلم أن الله تعالى معه حيث كان)([5]).
أيها الاحبّة:
لقد أرادت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (÷) أن ترسّخ هذه الحقيقة في قلوب وعقول الأمة لما رأت غفلة الكثيرين عنها وأن سلوكهم كان لا ينمّ عن إيمان حقيقي بها وإن اعتقدوا بها ظاهراً فخاطبت جمعهم بقولها (أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه) وقالت (÷) (فاتقوا الله حق تقاته ولا تموُّتن الا وانتم مسلمون، واطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه)([6]).
وتحذّر (سلام الله عليها) من عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة والعمل بها فقالت (لتجدنّ والله محمله ثقيلاً، وغّبه ــ أي عاقبته ــ وبيلا اذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه الضراء، وبدا لكم من ربّكم مالم تكونوا تحتسبون وخسر هناك المبطلون)([7]).
من هذا نعرف الخسارة العظمى التي تحل بالإنسان حينما يغفل عن هذه الحقيقة او ينفيها او يتسافل اكثر فينكر وجود الخالق ونعرف حجم الخسارة التي تحل بالأمة حينما يروّج البعض فيها إنكار هذه الحقيقة ويدعو إلى الالحاد ونبذ الدين ونحو ذلك، لا لشيء الا لكي يطلقوا العنان لشهواتهم واتباع اهوائهم ولكي لا يؤنّبهم ضميرهم وليغطّوا على الشعور بالذنب والخطيئة (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل:56) فيخدعون أنفسهم بإنكار هذه الحقيقة العظمى أعني وجود الخالق فيكون حالهم كالوصف المنقول عن النعامة أنها اذا أحدق بها الخطر دفنت رأسها في التراب لكي لا تراه وتخدع نفسها بالتخلص منه.
هذا هو الدافع الحقيقي لمن يقف وراء دعوات الالحاد ونبذ الدين اما التابعون لهم فهم مخدوعون ببعض الشعارات والادعاءات، وإلا فإن دعاوى إنكار الخالق أو الشرك به أوهام باطلة من صنع خيالات فاسدة ولا يساعد عليها عقل ولا منطق عقلائي بل أن العقل السليم يسخر من هذه الأفكار لان أبسط جهاز أو آلة حولنا لا يمكن أن نصدّق انه وُجد بلا صانع عاقل فكيف بالكون المترامي الذي يتحرك بنسق متناهي الدقة ووفق قوانين محكمة أتاحت المجال لعلماء الفلك أن يحسبوها ويستفيدوا منها في الرحلات الفضائية.
فأحذروا أيها الأحبة من كل سبب يؤدي الى الغفلة عن الله تعالى، وحذّروا الناس من كل الدعوات التي تريد تغييب الله تعالى عن الحياة وعزله والتحلل من هذا الالتزام معه سبحانه وتعالى، واعملوا على ترسيخ حقيقة أن الله معنا لدى عموم الناس، وادعوا بالحكمة والموعظة الحسنة المتأثرين بما ينشر في مواقع التواصل لتنقذوهم من ضلالهم حتى يستشعروا هذه النعمة العظيمة والمسؤوليات تجاهها، وذلك بعد ان تتسلحوا بالعلم والمعرفة ولو على المستوى الفطري والعقلائي الذي لا يحتاج إلى دراسات معّمقة ومتخصصة.
وقد ورد في رواية ([8]) عن السيدة الزهراء فيمن يقوي الايمان و الدين وينصر المؤمنين ويدحض شبهات المضلّين والمنحرفين ان الله تعالى يضاعف له ما اعدَّ له من المنزلة الكريمة المستحقة له في الجنان الف الف ضعف، فعلى الجميع ان لا يتقاعسوا عن نصرة الدين وهداية الناس وخدمتهم، وقد حذّرت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (÷) من ان حب الراحة والدعة واللامبالاة والكسل أسباب حقيقية لتضييع الحق وحذّرتهم من خذلانه فقالت (÷) (الا وقد أرى أن قد اخلدتم إلى الخفض ــ أي الحياة المرفّهة ــ وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة ــ أي الراحة والسكون ــ )([9]).
وفقنا الله تعالى وإياكم لنصرة الدين وإعلاء كلمة الله رب العالمين ونشر شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين).
([1]) الخطاب الذي القاه سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على آلاف المؤمنين والمؤمنات الذين احتشدوا في ساحة ثورة العشرين في النجف الاشرف قبل الانطلاق في موكب التشييع الرمزي نحو حرم امير المؤمنين (×) يوم الثلاثاء 3/ج2/1439 الموافق 20/2/2018
([2]) مكارم الاخلاق للطبرسي: 626
([3]) التوحيد للصدوق: 231، معاني الأخبار: 4 / ح 2، بحار الانوار:64/137
([4]) منية المريد، ص123، وفيه: (أنا عند المنكسرة قلوبهم) ودعوات الراوندي: ص 276، وفيه: روي أن داود (×) قال: إلهي هل يذكر أحد الأموات حين درست قبورهم؟ قال: يا داود إني لم أنسهم أحياء مرزوقين، فكيف أنساهم أمواتاً مرحومين! كلما قطعت لهم إرباً غفرت لهم ذنباً وأغفر لهم بكل شعرة سقطت وبكل عظم بلي وأنا أرحم الراحمين.
([5]) سند أبي داود ح1582، الدر المنثور: 6/171
([6]) الاحتجاج للطبرسي:1/128
([7]) الاحتجاج للطبرسي:1/136
([8]) بحار الانوار : 2/8، ح15
([9]) الاحتجاج:1/133.