حرمة إخافة الآخرين ولو بنظرة
بسمه تعالى
حرمة إخافة الآخرين ولو بنظرة[1]
روي انه كان عند الإمام علي بن الحسين (C) زين العابدين قوم أضياف فاستعجل خادماً له بشواء كان في التنور فأقبل به الخادم مسرعاً فسقط السفود[2] منه على رأس بني لعلي بن الحسين عليه السلام تحت الدرجة فأصاب رأسه فقتله، فقال علي للغلام وقد تحير الغلام واضطرب: أنت حر فإنك لم تعتمده، وأخذ في جهاز ابنه ودفنه.[3]
وروي إنه دخل سفيان الثوري على الصادق عليه السلام فرآه متغير اللون فسأله عن ذلك فقال: كنت نهيت أن يصعدوا فوق البيت، فدخلت فإذا جارية من جواري ممن تربي بعض ولدي قد صعدت في سلم والصبي معها، فلما بصرت بي ارتعدت وتحيرت وسقط الصبي إلى الأرض فمات، فما تغير لوني لموت الصبي وإنما تغير لوني لما أدخلت عليها من الرعب، وكان عليه السلام قال لها: أنت حرة لوجه الله لا بأس عليك - مرتين.[4]
تصّور الحادثتان جانباً من آداب المعاشرة مع الآخرين التي غرسها الإسلام في نفوس اتباعه وهي حرمة إخافة الآخرين وإدخال الرعب عليهم، حيث لا يكترث الإمام (A) بموت ولده بقدر اهتمامه بمعالجة حالة الخوف التي حصلت عند الاخر نتيجة تقصيره أو سوء تصرفه أو أي نحو آخر.
وقد أكد الأئمة المعصومون (D) في أحاديث عديدة على حرمة إدخال الخوف والرعب على الآخر بأيّة طريقة ولو بنظرة مخيفة فضلاً عما هو أشد منها من أساليب التهديد والوعيد، وحذّروا من عاقبة هذا الفعل، فقد روى الشيخ الكليني (u) في الكافي بسنده عن الإمام الصادق (A) قال (قال رسول الله (J) من نظر إلى مؤمن نظرة ليخيفه بها أخافه الله عزوجل يوم لا ظلّ الا ظله)[5]، وروى أيضاً في حديث آخر عن الإمام الصادق (A) قال (من روّع مؤمناً بسلطان ليصيبه منه مكروه فلم يصب فهو في النار، ومن روَّع مؤمناً بسلطان ليصيبه منه مكروه فأصابه فهو مع فرعون وآل فرعون في النار).
ورواه الشيخ الصدوق (رضوان الله تعالى عليه) في عقاب الأعمال كما روى في عيون الأخبار بسنده عن فاطمة بنت الرضا (C) عن أبيها عن آبائه عن علي (D) قال (لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً).
فكان المعصومون (D) حريصين على أن لا يتسببوا في إخافة أحد أو إدخال الأذى عليه ولو من دون قصد ويربّوا أتباعهم على هذا الأدب، لأن كل فعل يصدر من الإنسان مسجِّل في {هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف : 49] قال الله تبارك وتعالى {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء : 47].
روي عن ابن عباس، قال: لما مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعنده أصحابه قال: يا بلال، هلم علي بالناس، فاجتمع الناس فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) متعصباً بعمامته، متوكئاً على قوسه حتى صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: معاشر أصحابي، أي نبي كنت لكم! ألم أجاهد بين أظهركم، ألم تكسر رباعيتي، ألم يعفر جبيني، ألم تسل الدماء على حر وجهي حتى لثقت لحيتي، ألم أكابد الشدة والجهد مع جهال قومي، ألم أربط حجر المجاعة على بطني؟ قالوا: بلى يا رسول الله، لقد كنت لله صابراً، وعن منكر بلاء الله ناهياً، فجزاك الله عنا أفضل الجزاء. قال: وأنتم فجزاكم الله. ثم قال: إن ربي عزوجل حكم وأقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم، فناشدتكم بالله أي رجل منكم كانت له قبل محمد مظلمة إلا قام فليقتص منه، فالقصاص في دار الدنيا أحب إلي من القصاص في دار الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء. فقام إليه رجل من أقصى القوم يقال له سوادة بن قيس، فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله، إنك لما أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فلا أدري عمداً أو خطأ. فقال معاذ الله أن أكون تعمدت. ثم قال: يا بلال، قم إلى منزل فاطمة فأتني بالقضيب الممشوق. فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة: معاشر الناس، من ذا الذي يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة؟ فهذا محمد (صلى الله عليه وآله) يعطي القصاص من نفسه قبل يوم القيامة! وطرق بلال الباب على فاطمة (عليها السلام) وهو يقول: يا فاطمة، قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق. فأقبلت فاطمة (عليها السلام) وهي تقول: يا بلال، وما يصنع والدي بالقضيب، وليس هذا يوم القضيب؟ فقال بلال: يا فاطمة، أما علمت أن والدك قد صعد المنبر وهو يودع أهل الدين والدنيا! فصاحت فاطمة (عليها السلام) وهي تقول: واغماه لغمك يا أبتاه، من للفقراء والمساكين وابن السبيل يا حبيب الله وحبيب القلوب؟ ثم ناولت بلالاً القضيب، فخرج حتى ناوله رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أين الشيخ؟ فقال الشيخ: ها أنا ذا يا رسول الله، بأبي أنت وأمي؟ فقال: تعال فاقتص مني حتى ترضى. فقال الشيخ: فاكشف لي عن بطنك يا رسول الله، فكشف (صلى الله عليه وآله) عن بطنه، فقال الشيخ: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك؟ فأذن له، فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله من النار يوم النار. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا سوادة بن قيس، أتعفو أم تقتص؟ فقال: بل أعفو يا رسول الله. فقال (صلى الله عليه وآله): اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد)[6].
ولذا كان الأئمة (D) يلهجون بالدعاء ويطلبون من الله تعالى المغفرة وارضاء من وقع عليهم شيء من ذلك سهواً، ومن ذلك قول الإمام السجاد (A) في دعاء يوم الإثنين (وَأَسْأَلُكَ فِي مَظالِمِ عِبادِكَ عِنْدِي، فَأَيُّما عَبْد مِنْ عَبِيدِكَ، أَوْ أَمَة مِنْ إمآئِكَ، كَانَتْ لَهُ قِبَلِي مَظْلَمَةٌ ظَلَمْتُها إيَّاهُ فِي نَفْسِهِ، أَوْ فِي عِرْضِهِ، أَوْ فِي مالِهِ، أَوْ فِي أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، أَوْ غَيْبَةٌ اغْتَبْتَهُ بِها، أَوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْل أَوْ هَوَىً، أَوْ أَنَفَة، أَوْ حَمِيَّة، أَوْ رِيآء، أَوْ عَصَبِيَّة غائِباً كانَ أَوْ شاهِداً، وَحَيّاً كانَ أَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدِي، وَضاقَ وُسْعِي عَنْ رَدِّها إلَيْهِ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْهُ.
فَأَسْأَلُكَ يا مَنْ يَمْلِكُ الْحاجاتِ، وَهِيَ مُسْتَجِيبَةٌ لِمَشِيَّئتِهِ وَمُسْرِعَةٌ إلى إرادَتِهِ، أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد ، وَأَنْ تُرْضِيَهُ عَنِّي بِما شِئْتَ، وَتَهَبَ لِي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً).
اذن ليعلم كم هو بعيد عن آداب الإسلام وتعاليم أهل البيت (D) من يخاف الناس شرّه، لأن عنده سلطة أو موقعاً حكومياً أو زعامة عشائرية، أو ان عنده جماعة مسلحة أو غير مسلحة، وهكذا تتكثر الأمثلة على مستوى مدير الدائرة الذي يهدد موظفيه، أو المعلم الذي يخيف طلبته ويرعبهم بأساليب متعددة، والأب الذي يخيف ابناءه والزوج مع زوجته، وربما الزوجة مع زوجها، فلنعيد النظر في سلوكنا ولنقتبس من نور الإسلام مباديء الرحمة والنُبُل والشهامة والفتوة.
[1] - كلمة ألقاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) على حشد من الزوار بمناسبة ذكرى ميلاد النبي محمد (J) يوم الجمعة 17 / ربيع الأول/ 1444 الموافق 14/10/2022، وبين الحاضرين جمع من طلبة السادس العلمي الذين سيلتحقون بالجامعات الذين نُظمت لهم دورة تأهيلية في العقائد والفقه والأخلاق.
[2] - السفود، كتنور: حديدة يشوى عليها اللحم جمع سفافيد.
[3] - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٦ - الصفحة ٩٩، كشف الغمة ج ٢ ص ٢٧٣.
[4] - بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٤٧ - الصفحة ٢٤
[5] - تجد هذه المجموعة من الروايات في وسائل الشيعة: 12/303، أبواب أحكام العشرة، باب 162، جامع أحاديث الشيعة: 26/248
[6] - أمالي الصدوق: 505