لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ - مسؤولية الاعلام والنشر

| |عدد القراءات : 332
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

[لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ] (النساء: 148)

مسؤولية الاعلام والنشر([1])

 

         قال الله تبارك وتعالى: [لا يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً] (النساء: 148)، وتبيّن الآية أدباً من آداب الإسلام في عدم جواز إظهار عيوب الناس ومثالبهم حسداً أو تشفياً أو فضولاً أو مجاملة ونحو ذلك، لما فيه من مفاسد كثيرة سنشير إليها ان شاء الله تعالى، وهذا الأدب فيه تأسٍّ بصفة من صفات الله الحسنى وهو ستّار العيوب.

         [لا يُحِبُّ] تعبير آخر عن المبغوضية، فما لا يحبّه الله يعني أنه مكروه عنده سبحانه ولا يريده، لعدم وجود منطقة رمادية تحتمل الأمرين كما عندنا نحن البشر؛ لأنها نابعة من الجهل أو الضعف أو المداهنة ونحو ذلك من الأسباب التي يتنزّه الله سبحانه عنها، ومحبّة الله تعالى ثوابه وحسن جزائه، وبغض الله تعالى عقابه وعدم استحقاق رحمته، لتنزهّه تعالى عن الحب والبغض الموجود في المخلوقات الا انه تعبير كنائي عن الإرادة وعدم الإرادة باعتبار ان الحب والبغض هما باعثان لهما.

         [الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ] إعلانه واظهاره وإذاعته ونشره وإطلاع الناس عليه، وبالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ كل كلام سيئ في نفسه أو يسوء الآخر، وهو هنا مطلق يشمل كل قبيح على مستوى الفرد أو المجتمع، فمن الجهر بالسوء على صعيد الأفراد إيذاء الآخرين بكلمات جارحة، أو الافتراء عليهم واتهامهم بأمور هم بريئون منها، أو نقل أخبار عن أشخاص وترويجها لمجرد أنه رآها في بعض مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية من دون تثبت وتحقيق، ومنه أيضاً النشر العلني لكلام قاله شخص في مجلس خاص ولا يرضى بنشره، أو فضح شخص فعل سيئة سرّاً أو مجلس خاص فسرّبها أحدهم ونشرها، روى في تفسير العياشي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: (الجهر بالسوء من القول أن يذكر الرجل بما فيه)([2]).

         أقول: أما ذكره بما ليس فيه فهذا بهتان عظيم.

         ومن الجهر بالسوء التنابز والتعيير بالألقاب والأنساب والانتماءات كالقومية أو اللون أو العشيرة أو المدينة أو المهنة أو الشريحة الاجتماعية التي تؤذي صاحبها، روى الشيخ الكليني بسنده عن عمرو بن نعمان الجعفي قال: (كان لأبي عبد الله عليه السلام صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكاناً، فبينما هو يمشي معه في الحذّائين ومعه غلام له سِنديّ يمشي خلفهما إذا التفت الرجل يريد غلامه ثلاث مرات فلم يره فلما نظر في الرابعة قال: يا ابن الفاعلة أين كنت؟ قال: فرفع أبو عبد الله عليه السلام يده فصكّ بها جبهة نفسه، ثم قال: سبحان الله تقذف أمه! قد كنتُ أرى أن لك ورعاً فإذا ليس لك ورع، فقال: جُعلت فداك، إنّ أمّه سندية مشركة، فقال: أما علمت أن لكل أمة نكاحاً، تنحَّ عني، قال: فما رأيته يمشي معه حتى فرّق الموت بينهما. وفي رواية أخرى: إن لكل أمة نكاحاً تحتجزون به من الزنا)([3]).

 أقول: عاقبه الإمام (عليه السلام) بهذه المقاطعة القاسية لإنه قال كلمة مسيئة تؤذي الآخر، وهو يظنّ أنها كلمة حق باعتبار ان أم العبد كانت مشركة فلم تتزوج بنكاح الإسلام فتكون زانية.      

ومن الجهر بالسوء على صعيد المجتمع نشر الضلالات والشبهات والعقائد المنحرفة، والتشكيك في العقائد الحقة، وترويج الأخبار المكذوبة، وكل ما يدعو إلى الفسق والفجور والانحراف، أو ما يثير الفتن ويمزّق المجتمع، أو الدعوة إلى أشخاص غير صالحين وتحبيبهم إلى الناس.

         ومن الجهر بالسوء إسباغ الصفات المقدّسة والألقاب العظيمة لمن لا يستحقها، والمدح والثناء بأعمال لم يقم بها، فعلى الممدوح أن يرفضها ويستنكرها، فقد روى القمّي في تفسيره عن الإمام (عليه السلام) قال: (إن جاءك رجل وقال فيك ما ليس فيك من الخير والثناء والعمل الصالح فلا تقبله منه وكذّبه، فقد ظلمك) ([4]).

         وإنما حُرِّم الجهر بالسوء لأنه سبب نشر العداوة والبغضاء والحقد في أوساط المؤمنين مما يؤدي إلى تنازعهم وتفرّقهم وتمزّق وحدة المؤمنين، ولأن الجهر بالسوء يشجّع ضعاف النفوس على إشاعة الفحش والكلام البذيء [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] (النور: 19).

         فلا بد أن يلتفت من لا يتورع عن نشر القول السيئ إلى أنه يمكن أن يوصل المجتمع إلى هذه النتائج.

ومن المؤسف ان نجد أكثر الأخبار رواجاً لدى المتابعين هي أخبار الفضائح والتسقيط (ونشر الغسيل) كما يعبّرون فتحولت هذه الوسائل من التواصل الاجتماعي إلى التقاطع الاجتماعي بسوء تصرف الناس وظلمهم لأنفسهم.

         [إِلاَّ مَن ظُلِمَ] فإنَّ الله تعالى أذن له في الرد على الظالم وكفل له حق التظلّم، وإنّ من دافع عن نفسه، ونفى افتراءات نسبت إليه وفضح مكائد ظالمٍ له، وذكر مظلوميته عند من يرجوه لرفع الظلم عنه لا يكون فعله مبغوضاً وهو مستثنى من حرمة نشر فضائح الناس وإذاعة ما أسرّوه من ظلم وسوء ولا حرمة لمثل هذا الظالم،وإن في التشهير به إذلالاً له واسقاطاً لسمعته بين الناس حتى يتوقف من يفكر بالظلم عن فعله [وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ] (الشورى: 41-42)، بل قد يكون المبغوض عدم دفاع المظلوم عن نفسه واستكانته وخنوعه للظلم والبغي؛ لذا مدح الله قوماً بقوله: [وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ] (الشورى: 39).

         روى في مجمع البيان عن الإمام الباقر (عليه السلام) قوله: (فلا بأس للمظلوم أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به في الدين)([5])، أي من دون أن يتجاوز حدود الحق، فلا يجوز اغتياب الظالم الا للمظلوم وفي خصوص مورد الظلم، ولذا انتهت الآية بقوله تعالى Pوَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًاO(النساء : 148) فلا يغيب عنه ظلم الظالم ولا تجاوز المظلوم حقه.

وعلى هذا فإنه يمكن أن يفهم قوله تعالى [إِلاَّ مَن ظُلِمَ] على عدة وجوه:

1- من وقع عليه الظلم فله أن يجهر بالسوء لدفع الظلم عنه وهو الأقرب لأنه المعنى الظاهر ولا يحتاج إلى تقدير وهو المروي كقوله (عليه السلام) في تفسير علي بن إبراهيم (أي لا يحب أن يجهر الرجل بالظلم والسوء ويظلم الا من ظُلِم فقد أطلق له أن يعارضه بالظلم)[6].

2- الا لمن ظُلِم: فيجب الدفاع عن كل مظلوم لا يستطيع رد الظلم وأخذ حقه.

3- على من ظُلِم: وهو المظلوم الخانع المستسلم الذي لا ينتصر لنفسه.

واتضح مما تقدم ان [مَن ظُلِمَ] لا تختص بمن وقع عليه ظلم شخصي في نفسه أو ماله أو سمعته، وإنما تشمل الظلم النوعي، فالإلحاد ظلم لي أنا الموحِّد لله تعالى، والإساءة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو التحريف في الدين ظلم لي أنا المسلم، وتسخيف قضية المهدي (عليه السلام) أو الشعائر الحسينية ظلم لي أنا الموالي لأهل البيت (عليهم السلام)، ونشر المثلية وتحوّل الجنس ظلم لي أنا الإنسان ذو الفطرة السليمة، فعليَّ أن أنتصر وأدفع الظلم إذا وقع أي شيء من هذا، روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): (ثلاثة ليست لهم حرمة: صاحب هوى مبتدع، والإمام الجائر، والفاسق المعلن الفسق) ([7])، وروى الشيخ الكليني بسنده عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم وأكثروا من سبهم، والقول فيهم والوقيعة، وباهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام، ويحذرهم الناس ولا يتعلموا من بدعهم يكتب الله لكم بذلك الحسنات ويرفع لكم به الدرجات في الآخرة)[8].

وقد استثنت الروايات أيضاً من حرمة قول السوء عدة موارد منها: لدفع الضرر عن المغتاب[9] ولنصح المستشير، والنهي عن المنكر وابطال شهادة الفاسق.

وقد شُرَِّع هذا الاستثناء ليردع المجاهرين بالسوء، ويمنع اتكالهم على حرمة الغيبة فيفعلون ما يشاؤون ظلماً وعدواناً، وليكفل للمظلوم حقه في الدفاع عن نفسه، ولا تكون حرمة الغيبة سبباً لحرمانه من هذا الحق.

ولكي لا يحصل تنافي بين هذا الحكم وما ورد من استحباب العفو والصفح لا بد أن نعرف لكل منهما مورده بحسب الأولوية، فقد يكون العفو والصفح والستر على فاعل السوء أولى في ندمه وتوبته، أو يكون في الجهر بالسوء على الظالم تشجيع له على التمادي في ظلمه لسقوط جلباب الحياء ونحو ذلك فلا يصح الجهر بالسوء، وقد يكون في الردّ عليه وفضحه علاج له لردعه وكفّه عن الظلم وفعل السوء وحينئذٍ يكون الجهر بالسوء راجحاً ولا يحمد العفو والسكوت.

بل قد يكون من المستثنى من [لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ] هو توبيخ وزجر المظلوم الذي لا يفعل ما يستطيع لدفع الظلم فإنه ليس من الجهر بالسوء توبيخ هذا المظلوم المتخاذل؛ لأن هذا الزجر والتوبيخ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما أقوى عون وناصر لدين الله تعالى وأوليائه العظام.

وجملة [لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ] لها مفهوم حاصله: أن الله تعالى يحب الجهر بالخير والمعروف والطيب من القول، وقد أشارت إليه الآية التالية: Pإِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًاO(النساء : 149)، قال تعالى [لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا] (النساء : 114).

أرجو أن يكون يوم المنبر في الأول من صفر القادم فرصة لانطلاقة جديدة وقفزة في مشروع الدعوة إلى الله تبارك وتعالى وأوليائه العظام، فالمصطلح يسمّيكم منصّة ونحن نسمّيكم منبراً للإسلام وللحق ولما فيه خير الإنسانية وصلاحها، ولابد من تكريس المنابر الإعلامية لهذه الأغراض النبيلة.

فائدة: الآية مما يستدل به على ان الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، وانه عند التزاحم يقدَّم الأهم على المهم.

ويستدل بها على الرخصة في استعمال التقية، فإن مَنْ ظُلِم وهُدِّد وقُهِر له ان يجهر بالسيء من القول المخالف لعقيدته لكي يدفع عن نفسه الضرر.



([1]) كلمة سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع حشد من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي في مجال التبليغ الإسلامي، يوم الجمعة 27-محرّم-1444 الموافق 26-8-2022

([2] تفسير العياشي: ج 1 ص 283.        إذا قرئ (يذْكر) فهذا تعريف الغيبة، وبالتشديد (يذكّر) فهو من التعيير والتحقير، وكلاهما من السوء.

([3] الكافي: ج 2، ص 423.

([4] تفسير القمي: 145.

([5] مجمع البيان، للشيخ الطبرسي: ج 3، ص 225.

[6] - نور الثقلين: 1/355 ح 645

[7]- قرب الإسناد: 176 / 645.

[8] - بحار الأنوار:  ج 74/ ص 202

[9] - كالرواية الصحيحة التي وردت عن الإمام الصادق (عليه السلام) في ذم زرارة وهو من خيرة أصحابه ثم فسّرها الإمام (عليه السلام) بحمايته من السلطة الجائرة كخرق العبد الصالح لسفينة المساكين لدفع غصب الظالم لها.