(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)- مقوِّمات إحسان العمل

| |عدد القراءات : 2797
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك:2]

مقوِّمات إحسان العمل[1]

من علامات قدرة الله تبارك وتعالى وهيمنته وحكمته أنه (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ) وقدّرهما على بني البشر وفي الحديث الشريف عن الامام الباقر (عليه السلام): (الحياة والموت خلقان من خلق الله)[2]، وقد جرت سنة الفناء في سائر المخلوقات كما في قول الامام الحسين (عليه السلام) (ان أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون)[3].

ثم تبّين الآية الغرض من اخراجكم الى هذه الدنيا (لِيَبْلُوَكُمْ) ويختبركم بالأوامر والنواهي والترغيب والتخويف حتى تتميزوا وتتفاضلوا أيّكم أحسن عملاً وتظهر معادنكم وحقيقتكم، ليُكافأ من أحسن بجنان الخلد ويحرم منها من اساء.

فلابد للإنسان أن يكون ملتفتاً للغرض الذي خُلِق من أجله، وأن يستحضر هذه الحقيقة دائماً ويجعلها ماثلة أمامه ولا يجعل للغفلة طريقاً إليه ولا للأهواء والمغريات وأسباب الضلال والانحراف سلطة عليه ويكرّس حياته لأفضل حرث وهو أحسن العمل.

ويظهر من الآية ان الموت والحياة لهما مدخلية في هذا الاختبار اما الحياة فلأنها ساحة العمل ووسيلة اكتساب الأعمال (الدنيا مزرعة الآخرة)[4] واما الموت فلأن الاعتقاد به وبما بعده من البعث والنشور والحساب والجزاء يمثل أقوى باعث على العمل ولولا الآخرة وطلب رضا الله تعالى لا يوجد حافز على الجهد والتضحية والبذل والعطاء والايثار والتمايز بهدف الوصول الى ما يستحقه من الجزاء.

والموت ليس فقط جزءاً من عملية الاختبار والابتلاء بل هو مظهر للحكمة وللرحمة أيضاً اذ لو لم يكتب الموت على الناس وبقيت الأجيال البشرية من لدن آدم (عليه السلام) إلى نهاية الدنيا كيف ستسعهم الأرض، وكذا الحيوانات في الأرض أو الماء فانها ستغطي كل الأرض والماء بعدة طبقات، فكان الموت سبباً لحفظ التوازن البيئي والبشري.

والموت يأتي بعد الحياة لأنه إعدام الحياة ولا يقال للعدم السابق على الحياة أنه موت، وروي في ذلك قول الامام الباقر (عليه السلام): (وخلق الحياة قبل الموت)[5] .

وإنما قدِّم ذكر الموت على الحياة لوجوه محتملة:ـ

1- لوجه بلاغي وهو ظاهر.

2- لأن الحياة لا تعرف قيمتها الا بمقابلتها بالموت من باب الأمور تعرف بأضدادها، أو ان النعم لا تعرف الا اذا فقدت.

3- لأن ظهور قدرة الله تعالى وعزّته وهيمنته وعظيم سلطانه تظهر بالموت أكثر من الحياة في أذهان البشر وورد في الدعاء (وقهر عباده بالموت والفناء)[6] .

4- ان تأخير الحياة لأنها هي ساحة التسابق والاختبار وتحصيل أحسن الأعمال فيناسبها أن تلتصق بقوله تعالى (لِيَبْلُوَكُمْ).

ومن الواضح ان الآية تحدد ان الغرض المقصود من الاختبار والامتحان في هذه الدنيا هو الوصول الى حالة أحسن العمل، وان التفاضل بين الناس هو على أساس تقديم أحسن العمل، فبم يتحقق حسن العمل وما هي ضوابط ومعايير كونه أحسن العمل.

روى في مجمع البيان عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله في معنى ايكم أحسن عملاً قال (صلى الله عليه وآله): (أيكم أحسن عقلاً، ثم قال (صلى الله عليه وآله): اتمكم عقلاً وأشدكم لله خوفاً وأحسنكم فيما أمر الله عزوجل به ونهى عنه نظراً، وإن كان أقلَّكم تطوعاً) فحسن العمل ليس بكثرة العبادات والطاعات وانما بنوعيتها وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه وآله) قال: (ايكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله)[7] وروي عنه (صلى الله عليه وآله) قوله (الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فاذا فعلت ذلك فقد أحسنت)[8].

في مجمع البيان عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (ان الرجل ليكون من اهل الجهاد ومن اهل الصلاة والصيام وممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وما يُجزى يوم القيامة الا على قدر عقله) وروى انس ابن مالك قال: (أثنى قومٌ على رجل عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) كيف عقله؟ قالوا: يا رسول الله نخبرك عن اجتهاده في العبادة واصناف الخير وتسألنا عن عقله؟ فقال: ان الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وانما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالوا الزلفى من ربّهم على قدر عقولهم)[9] .

روى الشيخ الكليني بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) في تفسير الآية قوله (ليس يعني أكثر عملاً ولكن أصوبكم عملاً وإنما الإصابة خشية الله والنية الصادقة والحسنة، ثم قال: الإبقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل، والعمل الخالص الذي لا تريد ان يحمدك عليه أحد الا الله عزوجل والنية أفضل من العمل، الا وإن النية هي العمل ثم تلا قوله عزوجل (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) [الإسراء : 84] يعني على نيته)[10].

ويظهر من هذه الروايات: ان العمل لا يختص بأعمال الجوارح البدنية وإنما يشمل الأعمال القلبية أي ليس الظاهرية فقط وإنما الباطنية أيضاً بل لعلها الأهم.

ويظهر أيضاً إن من الاعمال ما هو حسن وأحسن منه كما أن منه ما هو سيء وأسوء، وان مقابل الأحسنين أعمالاً يوجد الأخسرون أعمالاً الذين ذكرتهم الآية الكريمة (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف : 103 - 104] .

ولا تخلو الآية الكريمة من إشارة الى أن الهدف من خلق الحياة والوجود هو تحصيل الأحسنين أعمالاً اما غيرهم فهم مخلوقون لأجلهم، وقد أثبتت الامتحانات التي مرّ بها النبي وآله (صلوات الله عليهم أجمعين) أنهم أحسن الخلق أعمالاً مما يصحح ما دل من الروايات[11] على ان الموجودات خلقت لأجلهم، لأن الغرض من الوجود تحقق بهن فيصح انهم خلق من أجلهم.

وهذا الاختبار خاص بالبشر (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا) [الإنسان : 3] وورد في الرواية الصحيحة عن ابي جعفر (عليه السلام): (لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك ، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب)[12]. اما الموجودات الأخرى فهي سائرة بدقة في حركتها لتؤدي أحسن العمل المطلوب منها.

وتصرّح الآيات الكريمة بأن احسان العمل له آثار مباركة عظيمة في الدنيا والآخرة كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195] وكفى بذلك شرفاً وفضلاً، وقوله تعالى (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف:56] وقوله تعالى (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) [الكهف:30] وقوله تعالى (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن:60] وقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) [يونس:26] وقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ) [النحل:30] وقوله تعالى (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج:37] وقوله تعالى (وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69] وقوله تعالى (لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) [الزمر:34] وغيرها كثير.

وفي ضوء ما تقدم فأن مقوِّمات احسان العمل أمور:

1.    ان يكون العمل حسناً محبوباً في نفسه ليصّح التقرب إلى الله تعالى بإحسانه والا لا معنى للتقرب بفعل اذا كان قبيحاً لذا لا يصح أن يكون متعلق النذر واليمين أمراً مرجوحاً كمقاطعة الأرحام أو ظلم أحد حقه أو ترك واجب أو فعل محرم، ولا معنى للحديث عن تحسين فعل اذا لم يكن حسناً في نفسه فلا يصحّ إضفاء عناوين حسنة على أفعال مبتدعة من وضع الناس لم يثبت حسنها في ذاتها.

2.    اخلاص النية لله تبارك وتعالى وعدم شوبها بالرياء والعجب أو استهداف أغراض دنيوية كتحصيل الجاه والسمعة والثناء من الآخرين أو مكاسب مالية أو إرضاءاً لأشخاص آخرين ففي الحديث المشهور (إنما الاعمال بالنيات ولكل أمرئ ما نوى)[13] وفي وصيته (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر (يا أبا ذر، ليكون لك في كل شيء نية حتى في النوم والأكل)[14] فالعاقل لا يجعل حركته تذهب هدراً فضلاً عن حبط اعماله روى عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله (إعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله)[15].

3.    ان يزيِّن العمل بالورع والتقوى ليبلغ غايته، في الحديث (عن مفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فذكرنا الأعمال، فقلت أنا: ما أضعف عملي؟ فقال: مه استغفر الله، ثم قال لي: إن قليل العمل مع التقوى خير من كثير بلا تقوى قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال: نعم مثل الرجل يطعم طعامه، ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا تقوى، ويكون الآخر ليس عنده فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه)[16] وفي كلمة أمير المؤمنين (عليه السلام) (اعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد)[17] وروي عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله: (اذا أحسن المؤمن ضاعف الله عمله لكل حسنة سبعمائة فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب الله ــ الى ان قال ــ وكل عمل تعمله لله فليكن نقياً من الدنس)[18].

فمن علامات حسن العمل اقترانه بالتقوى وتنقيته من الشوائب التي ذكرناها، ومن كل ما يشين، ونذكر ضمن هذه النقطة الحديث الشريف عن الامام الكاظم (عليه السلام) قال (ليس حسن الجوار كف الأذى ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى)[19] وهذا معنى يجري في كثير من القضايا كحسن التبعل مثلاً وغيره.

4.    دوام العمل بالمواظبة عليه ان أمكن كصلاة الليل او تلاوة القرآن وان لم يمكن كالحج مثلاً فبإدامة آثاره وحبّه وعقد العزم على الاتيان به اذا تيسرت ظروفه عن الامام الباقر (عليه السلام) قال: (أحب الأعمال الى الله عزوجل ما داوم العبد عليه وان قل)[20] وسنفصّل الكلام في هذه النقطة في الملحق الآتي إن شاء الله تعالى.

5.    الرفق في العمل وعدم الافراط في تحميل النفس الى حد التمرد ورفض الطاعة فقد روي عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله (لا تكرِّهوا الى أنفسكم العبادة)[21] وقال (عليه السلام) (اجتهدت في العبادة وأنا شاب فقال لي أبي: يا بني، دون ما اراك تصنع فان الله عزوجل اذا أحبّ عبداً رضي منه باليسير)[22].

6.    المبادرة الى فعل الخيرات وتقدم الحديث الشريف في تفسير (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) أي (اسرع في طاعة الله) وروي عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله (إذا هممت بشيء من الخير فلا تؤخره، فإن الله عز وجل ربما اطلع على العبد وهو على شيء من الطاعة، فيقول: وعزتي وجلالي، لا أعذبك بعدها أبدا، وإذا هممت بسيئة فلا تعملها، فإنه ربما اطلع الله على العبد وهو على شيء من المعصية ، فيقول : وعزتي وجلالي لا أغفر لك بعدها أبدا)[23] .

7.    التفقه في الدين ومعرفة كل ما يرتبط بالعمل من مقدمات وأجزاء وشرائط وما يسبب الخلل فيه لإتقانه والا فانه قد يأتي بما يفسد العمل من حيث لا يعلم، وتقدم في الحديث النبوي الشريف في تفسير (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) قال (صلى الله عليه وآله) (أحسنكم فيما أمر الله عزوجل به ونهى عنه نظراً).

8.    معرفة الأولويات وتقديم الأهم على المهم اذ قد يكون الفعل حسناً في نفسه الا انه ليس أحسن لأن الأولى ان يقوم بالطاعة الأخرى لأنها أهم عند تزاحم الطاعتين وكمثال اذكر الرواية التالية: (أتى رسولَ اللَّه (صلى الله عليه وآله) رجلُ فقال إني رجل شاب نشيط وأحب الجهاد و لي والدة تكره ذلك- فقال له النبي (صلى الله عليه وآله) ارجع فكن مع والدتك فو الذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير من جهاد في سبيل اللَّه سنة.)[24] فقدَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) برّ الوالدين والإحسان اليهما على الجهاد الذي هو من أعظم الطاعات.

وفي الرواية الصحيحة عن هشام بن المثنى قال (سأل رجل أبا عبدالله (عليه السلام) عن قول الله عزوجل (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأنعام : 141] فقال: كان فلان بن فلان الأنصاري ــ سمّاه ــ وكان له حرث فكان اذا أخذ يتصدق به فيبقى هو وعياله بغير شيء، فجعل الله عزوجل ذلك سرفاً)[25]، فعندما تؤثر الصدقة على نفقة العيال والتوسعة عليهم لا تكون أحسن.

9.    وعي حقيقة العمل واتيانه عن بصيرة والتفات للأغراض الحقيقية منه فيعرف ان الغرض من الصلاة ادامة ذكر الله تعالى (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه : 14] والانتهاء عن الفحشاء والمنكر (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : 45] كما في الحديث النبوي الشريف (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله الا بعداً)[26] .

وان الصوم لتقوية الإرادة والقدرة على الامتناع عن كل ما يسخط الله تعالى ولمواساة الفقراء والمحرومين والالتفات الى هذه الحالات في المجتمع ونحو ذلك.

ومن الشواهد الجليلة في هذا المجال موعظة الامام السجاد (عليه السلام) للشبلي في بيان الاسرار المعنوية للحج وهي مطولة تجدها في كتاب مناسك الحج، منها قوله (عليه السلام) له : « حججت يا شبلي؟  قال : نعم يا أبن رسول الله ، فقال ( عليه السلام ) : « أنزلت الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت؟ قال : نعم ، قال : « فحين نزلت الميقات نويت أنّك خلعت ثوب المعصية ، ولبست ثوب الطاعة؟ قال : لا ، قال : « فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك ، نويت أنّك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟  قال : لا ، قال : « فحين اغتسلت نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟ قال : لا ، قال : « فما نزلت الميقات ، ولا تجردت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت)[27] أي لم تحقق الغرض المطلوب من هذه المناسك.

10.                      ومن تمام إحسان العمل نشره وحثّ الآخرين عليه، قال تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : 11] والنعمة هنا لا تقتصر على النعم المادية كالأموال والبنين والجاه الاجتماعي وإنما تشمل النعم المعنوية وهي عموم[28] الطاعات وأولها نعمة الإسلام والايمان، لذا فسّرتها بعض الروايات بولاية أهل البيت (عليهم السلام) لأنها أكمل مصاديقها وقد أمرت الآية بالتحديث بها وذلك بأن يدعو الناس اليها، لذا وعدت الأحاديث الشريفة بمضاعفة الثواب لمن ينشر الطاعة ويؤسس لها كحالة اجتماعية عامة ومنها الحديث النبوي المشهور (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينتقص من أجورهم شيء)[29] .

وورد في الروايات استحباب تحسين العبادة ليُقتدى بالفاعل وللترغيب في اتباع الحق فقد روى عبيد بن زرارة قال (قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) الرجل يدخل في الصلاة فيجّود صلاته ويحسّنها رجاء أن يستجّر ــ أي يجتذب ــ بعض من يراه إلى هواه، قال (عليه السلام): ليس هذا من الرياء)[30] .

لهذا كله دلت الأحاديث الشريفة على ان الثواب الذي يعطى للعالم العارف البصير على عمل قليل اضعاف ما يعطى العابد غير العارف بهذه الحقائق على العمل الكثير.

وقد حثت الأحاديث الشريفة على الاحسان في كل شيء حتى على مستوى اختيار الاسم فجعلت من حقوق الولد على أبيه ان يحسن تسميته[31] اما الاحسان الى الآخرين فقد وردت فيه روايات لا تحصى كثرة وفي القرآن الكريم (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [القصص : 77] وبيّنت ان من الثمرات المعجلة للإحسان الى الآخرين ان يُحسن اليك ومن وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) الى نوف البكالي (أحسن يُحسن اليك)[32].

وقد اختصر أمير المؤمنين (عليه السلام) الكلام في الاحسان بان جعل قيمة كل انسان بمقدار ما يحسنه من اعمال وصفات وملكات وبمقدار ما يُحسن للآخرين فقال (عليه السلام) (قيمة كل امرئ ما يحسنه)[33] وهي كلمة مقتبسة من نور الآية الكريمة التي نحن بصددها (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) ان نتيجة الامتحان تعطي قيمة اكبر لمن كان اكثر احساناً في عمله وقد قلت في بعض احاديثي السابقة انه قد خطر على ذهني ذات مرة وأنا في الحضرة العلوية الشريفة هذا المعنى للحديث الشريف: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)، أي أن درجته عند الله تبارك وتعالى تكون بمقدار ما يحمل من الصفات الحسنى لله تبارك وتعالى، فكلما ازدادت رحمته كان أقرب إلى الله، لأن الرحيم من الأسماء الحسنى، وكلما ازداد عفوه كان أقرب، لأن العفو من الأسماء الحسنى، وهكذا كلما ازداد كرمه وحلمه وعلمه وحكمته وصبره على أن تكون هذه الصفات ذاتية له وراسخة فيه وليست طارئة عليه ولا تصدر منه بتكلف)[34] وهو على أي حال تطبيق لقوله تعالى (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) [النحل : 60].

ان المطلوب منّا أن نتقدم خطوة أخرى بعد إحسان العمل وهي مكافأة المحسن على إحسانه فإنه من الإحسان لتشجيع الناس على الأعمال الحسنة وقد ضرب لنا الأئمة المعصومون (عليهم السلام) أروع الأمثلة لهذا السلوك، روى الخطيب البغدادي في كتابه المعروف (تاريخ بغداد): عن الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) انه كان ماراً في حيطان (أي بساتين) المدينة فرأى عبداً أسوداً بيده رغيف خبز يأكل ويطعم كلبه لقمة إلى أن شاطره طعامه في الرغيف)، ومثل الامام الحسن (عليه السلام) في منزلته الاجتماعية لا يهتم بعبد أسود معه كلب يأكل، لكن الامام الحسن (عليه السلام) توقف عنده  (فقال له الإمام الحسن (عليه السلام) ما حملك على ما عملت وشاطرته؟ فقال الغلام: استحيت عيناي من عينه.) وفي رواية أخرى ان العبد قال: أشعر بضيق في صدري وكآبة فأردت ان أدخل السرور على هذا الكلب لعل الله تعالى يرفع عني هذا الهم بذلك (فقال الإمام (عليه السلام): غلام من أنت؟ أي سأله عن مالكه (فقال: غلام أبان بن عثمان، فقال: والحائط؟ قال: لأبان بن عثمان. فقال له الإمام الحسن (عليه السلام) أقسمتُ عليك لا برحت حتى أعود عليك. فمَّر على صاحب الحائط فاشترى الحائط والغلام معاً، وجاء إلى الغلام، فقال (عليه السلام) يا غلام قد اشتريتك فقام الغلام قائماً) أي قام ليذهب مع مالكه الجديد وهو الامام الحسن (عليه السلام) (وقال: السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي. قال (عليه السلام): وقد اشتريت الحائط، وأنت حرٌ لوجه الله، والحائط هبة مني إليك. فقال الغلام: (يا مولاي قد وهبتُ الحائط للذي وهبتني له)([35]).

أقول: لقد تعلّم الغلام هذا الأدب من الإمام الحسن (عليه السلام) نفسه، فقد روى أحدهم قال: (رأيت الحسن بن علي (عليهما السلام) يأكل وبين يديه كلب، كلما أكل لقمة طرح للكلب مثلها، فقلت له: يا بن رسول الله، ألا أرجم هذا الكلب عن طعامك؟ قال: دعه: إني لاستحيي من الله عز وجل أن يكون ذو روح ينظر في وجهي وأنا آكل ثم لا أطعمه)([36]).

وهذه هي سيرة أهل البيت (عليهم السلام) فانهم لا يكتفون بفعل المعروف والإحسان الى الآخرين بل كانوا يكافئون من يقوم بفعل حسن ويكرّمونه بأضعاف ما قام به ليشجّعوا على نشر المعروف وتحويله الى ظاهرة وثقافة عامة لدى المجتمع.

وعلى اتباع أهل البيت (عليهم السلام) التأسي بهذه الاخلاق الكريمة بأن يحسنوا في أعمالهم في سائر المواقع والمسؤوليات التي هم فيها.

فالطالب يبذل وسعه في المطالعة والمذاكرة حتى يحقق نتائج راقية يدخل بها السرور على أهله ومحبيه ويكون فخراً وعزاً وطاقة هائلة لوطنه وشعبه.

 والموظف يتقن عمله ويؤدي واجبه في كل الوقت المطلوب منه ولا يقصّر في خدمة الناس واستيعابهم.

والمدّرس يبذل وسعه في تعليم الطلبة والارتقاء بمستواهم العلمي ومساعدتهم في كل ما يحتاجون.

 والمهندس يراعي شروط المتانة والامان والجدوى عند تنفيذ المشاريع ويكون اميناً ونزيهاً، وهكذا.

هذا على مستوى احسان العمل، ويبقى علينا ان نتقدم خطوة أخرى بتشجيع المحسنين في أعمالهم ومكافئتهم، فالامام الحسن (عليه السلام) مع هيبته وجلاله وسمو مقامه في المجتمع بحيث اذا جلس على الطريق انقطع المارّة وتهيّبوا المرور بين يديه، واذا مشى لم يبق أحدٌ راكباً ومع ذلك تراه توقّف عند العبد ولم يمرّ على هذا الموقف دون تكريم، اما الذين يثبّطون العاملين ويستهزئون بهمتهم وحركتهم الدائبة فهؤلاء لم يستفيدوا من سيرة أهل البيت (عليهم السلام) ولم يتأسوا بهم.

ويكفي المحسنين في عملهم وساماً يفتخرون به: محبة الله تعالى لهم (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (البقرة:195).

 

 



[1] - كلمة لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) القيت يوم الجمعة 27 ربيع الأول 1442 الموافق 13/11/2020

[2] - الكافي:3/259 ح 34

[3] -  الإرشاد : ج2/  ص 94

[4] - عوالي اللئالي : 1 / 267 / 66 

[5] - الكافي: 8/145

[6] - بحار الأنوار: 84/339 ، مفاتيح الجنان: دعاء الصباح لأمير المؤمنين (عليه السلام)

[7] - تفسير نور الثقلين: 5/230 ح 12،13

[8] - كنزل العمال: 3/16 ح 5254

[9] - تفسير نور الثقلين: 5/231 ح 20، 21

[10] - أصول الكافي: 2/13 ح 4

[11] - العلل ، والعيون ، والإكمال : عن الرضا ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين ( عليهم السلام ) قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ): ما خلق الله عز وجل خلقا أفضل مني ولا أكرم عليه مني - إلى أن قال : - يا علي ، لولا نحن ما خلق آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض – الخبر. (عيون أخبار الرضا(ع) الجزء 2/  صفحة 237) ، قال الشيخ المفيد (رحمه الله) في المسائل السرويّة : والصحيح من حديث الأشباح الرواية التي جاءت عن الثقات : بأن آدم (عليه السلام) رأي على العرش أشباحاً يلمع نورها ، فسأل الله تعالى عنها ، فأوحى إليه : " أنها أشباح رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم " وأعلمه أن لولا الأشباح التي رآها ما خلقه ولا خلق سماء ولا أرضاً . . . (المسائل السروية : الجزء : 1  ، صفحة : 39)

[12] - وسائل الشيعة: 1/39 باب 3 ح1

[13] - وسائل الشيعة: 1/49 ، أبواب مقدمة العبادات، باب 5 ح 10

[14] - وسائل الشيعة: 1/48 باب 5 ح 7/8

[15] - وسائل الشيعة: 1/100 باب 23 ح 6

[16] - بحار الأنوار: ج ٦٧ / ص ١٠٤

[17] - بحار الأنوار: ج ٤٠ / ص ٣٤٠

[18] الوسائل: 1/61 باب 8 ح 10

[19] - تحف العقول: 409، الكافي: 2/667 ح 9

[20] - الوسائل: 1/94 باب 21 ح 5

[21]و2 - وسائل الشيعة: 1/108 باب 26 ح 1،2

 

[23] - وسائل الشيعة: 1/112 ح 6

[24] -  الكافي: 10/ 2/ 163

[25] - وسائل الشيعة: 9/46 ، أبواب الصدقة، باب 42 ح 3.

[26] - ميزان الحكمة: 5/109 ح10705

[27] - وسائل الشيعة: 10/ 166 - 172

[28] - راجع هذا القبس في المجلد الخامس من التفسير.

[29] - الكافي: 5/9

[30] - وسائل الشيعة: 1/76 باب 16 ح 3.

[31] - وسائل الشيعة: 15 / 122 احكام الأولاد / باب استحباب تسمية الولد باسم حسن ، وتغيير اسمه إن كان غير حسن 22

[32] - بحار الأنوار: 77/385 عن امالي الصدوق: 174 المجلس 37 ح 9

[33] - نهج البلاغة: ج 4 ، قصار الكلمات، 81 ، عيون أخبار الرضا : 2/ 53 ، الامالي : 362 المجلس 168 ح 9

[34] - خطاب المرحلة: 2/104

([35]) تاريخ بغداد: 6/34

([36]) بحار الأنوار: 43/ 352 ح29 عن مقتل الحسين للخوارزمي: 1/ 102-103.