كتاب الاجتهاد والتقليد
كتاب الاجتهاد والتقليد
نحن نعلم إجمالاً - أي، حتى لو لم نعلم بالتفاصيل- بأنّ الله تبارك وتعالى لم يخلقنا في هذه الدنيا عبثاً أو لهواً (لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء : 17) وإنّما خلقنا لهدف (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات : 56) أي (ليعرفون) كما ورد في الرواية الشريفة.
ويظهر من بعض الروايات التي وردت في تفسير قوله تعالى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) (الأعراف : 172) أنّ عقداً تم الاتفاق عليه بين الله تبارك وتعالى وبين عباده بأن يخرجهم من ذلك العالم إلى عالم الدنيا ويسخّر لهم كل ما في الأرض (خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرض جَمِيعاً) (البقرة : 29) على أن يطيعوه بتكاليف يسيرة فيصلّون خمس مرات في اليوم ويصومون شهراً في السنة ويحجّون بيته الحرام في العمر مرة ويجتنبون الفواحش بعد أن أحلّ لهم ما يعوضهم عنها ويلبي احتياجاتهم الجسدية والنفسية والروحية وكل ذلك من أجل مصالح تعود لهم، ثم وعدهم -إن وفوا بالاتفاق- جنات النعيم خالدين فيها فوقّع كل البشر على هذا العقد لأنّه صفقة رابحة لا يرفضها ذو عقل، فلما خرجوا إلى الدنيا نسوا العهد ولم يجد لهم الله تبارك عزماً فأرسل إليهم الأنبياء والرسل وأنزل عليهم الكتب ليذكروّهم بذلك العهد فمنهم من التزم وعاد إلى فطرته التي فطر الناس عليها ومنهم من تمرد وأعرض.
وأعتقد أنّنا الآن لو عرضت علينا نفس الصفقة لما ترددنا في الموافقة عليها، وعلى أي حال فإنّ هذا العلم الإجمالي بوجود تكاليف علينا يوجب علينا التحرك للخروج من عهدة هذه التكاليف التي بيّنها الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم والنبي وآله الطاهرون (صلوات الله عليهم أجمعين) في السنة الشريفة، وعدا بعض الأحكام التي يعلم الإنسان يقيناً أنّها من الشريعة (كوجوب الصلاة وحرمة شرب الخمر وإباحة النكاح) فإنّ هذا التحرك يكون بأحد أساليب ثلاثة:
الأول: أن تكون للمكلف القدرة على الوصول إلى الحكم الشرعي الذي تطمئن إليه نفسه من مصادر التشريع، وهذه القدرة التي تصبح ملكة راسخة في ذهن الإنسان تُعرف بــ (الاجتهاد)، وهي تتوقف على مقدمات عديدة كالتضلّع في علوم اللغة العربية لمعرفة مداليل الكلام في عصر صدور النص، وعلم الرجال لتمييز الرواة الثقات عن غيرهم، وعلم أصول الفقه الذي يبيّن قواعد التعامل مع النص الشرعي وطرق الوصول إلى الحكم من مصادره، وغيرها من العلوم كالتفسير والتاريخ والحديث والمنطق والفلسفة وهي كما ترى مسؤولية شاقة ومرتبة شريفة لا ينالها إلا ذو حظ عظيم.
الثاني: اختصار الطريق والرجوع إلى من توفرت عنده ملكة الاجتهاد وأتعب نفسه في تحصيل الأحكام وكان ورعاً تقياً لا يُتَّهم بأنّ آراءه الفقهية ناشئة من مصالح شخصية أو تزلفاً للحكّام أو تحت أي ضغط آخر. ويسمى هذا الرجوع (التقليد) وهو أيسر الطرق.
والتقليد بهذا المعنى - أي رجوع غير العارف بأسرار مهنة معينة إلى العارف بها- سيرة يتبعها العقلاء في سائر شؤونهم، فمن يعاني من مشاكل في صحته يرجع إلى الطبيب ومن يريد أن ينشئ بناية يرجع إلى المهندس وهكذا.
الثالث: أن يكون الإنسان ذا معرفةٍ بما يقتضيه الاحتياط للحكم الشرعي في كل حالة تعترضه، فيقوم بما يقتضيه الاحتياط ولو تطلب تكرار الاحتمالات التي يتيقن في نهايتها بمطابقة إحدى الصور للحكم الواقعي، كما لو شك أنّ تكليفه صلاة القصر أو التمام فيؤدي الفريضة على كلا الاحتمالين ويكون قد أصاب تكليفه الواقعي حتماً ويسمى طريق (الاحتياط).
وهو طريق شاق صعب، ويتطلب ذوقاً فقهياً معتدّاً به لمعرفة مقتضيات الاحتياط في كل مورد ويؤدي إلى مضيعة الوقت، ولو التزم به الناس فسيؤدي إلى اختلال النظام الاجتماعي العام لأنّه سيؤثر على الأنشطة الحياتية المتعددة كما أنّه قد تحصل حالات يدور فيها الاحتمال بين حكمين إلزاميين متعارضين كالوجوب والحرمة مما يتعذر معه الاحتياط، كما أنّه ليس متيسراً أحياناً معرفة مقتضى الاحتياط ومتطلباته في الواقعة المعينة، وفي ضوء هذه المشاكل فإنّ اتخاذ الاحتياط طريقاً ثابتاً للتعرف على الأحكام الشرعية وامتثالها أمر محرج أو متعذر ولكن الاحتياط في بعض المسائل من دون اتخاذه منهجاً أمر حسن ومحمود.
ومن هنا انحصر سلوك الناس في التعرف على الأحكام وامتثالها على طريقي الاجتهاد والتقليد وتوجد موارد لا يحتاج فيها إليهما فيما إذا علِم المكلف بالقطع واليقين حكماً من الأحكام الثابت وجودها في الدين كوجوب الصلاة وإباحة أكثر الأشياء.
شروط التكليف
تصبح الأحكام التكليفية ملزمة للإنسان إذا اجتمعت فيه الشروط العامة للتكليف، وهي البلوغ والعقل والقدرة، فلا تكليف على الصبي حتى يبلغ ولا على المجنون حتى يفيق، ولا على العاجز حتى تتوفر له القدرة. وهناك شروط خاصة لبعض التكاليف كالاستطاعة للحج تذكر في محلها.
(مسألة 1) : يتحقق البلوغ عند الإنسان ذكراً أو أنثى بظهور علامات النضج الجنسي كحالة الشبق والشهوة والميل الى الجنس الآخر والتأثر بالامور الجنسية وبعض التغيّرات الجسمية والنفسية، ويكون الاحتلام - أي خروج المني في اليقضة او المنام- علامة قطعية على البلوغ عند الذكور، وكذا الحيض عند الإناث.
ولا بلوغ عند الأنثى قبل إكمال تسع سنين قمرية حتى لو خرج منها دم بصفات الحيض.
ولا يوجد مثل هذا الحد الأدنى للبلوغ عند الذكور، ولكن المعروف تأخّر الذكور عن الإناث في البلوغ.
وإذا لم تحصل أي علامة فيتعيّن تحديد البلوغ بالسن، وهو إكمال خمس عشرة سنة قمرية عند الذكور وثلاث عشرة سنة عند الإناث. وتقلّ السنة القمرية عن الشمسية أحد عشر يوماً.
وينبغي لأولياء الأمور تدريب أبنائهم على الطاعة وتجنيبهم المعاصي قبل هذا العمر لتتحول الحالة عندهم إلى برنامج حياتي ثابت.