(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) - الحذر من هجر القرآن

| |عدد القراءات : 2849
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان:30)

الحذر من هجر القرآن[1]

تقع الآية ضمن سلسلة من الآيات التي تعرض صوراً من حالات الندم والأسف التي تنتاب الظالمين يوم القيامة بحيث يعضّ أحدهم على كلتا يديه وليس على اصبع واحدة جزاء تفريطهم وتمردهم على ما أمرهم الله تعالى به نتيجة لاتباعهم اهواءهم وعصبيتهم وقرناء سوء غشوّهم (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولا) (الفرقان:27-29) ومما يزيدهم ندماً وحسرة ورعباً من مصيرهم ان الرسول الذي بعثه الله تعالى رحمة بهم ومنقذاً وهادياً لهم سيكون خصمهم والحجة عليهم وهو الذي يرفع الشكوى ضدّهم فتقول الآية التالية (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) لأن القرآن هو الأصل في السبيل الموصل الى الله تبارك وتعالى الذي يندمون على عدم اتخاذه، فالإعراض عنه إعراض عن الرسول (صلى الله عليه وآله)  وأهل بيته الطاهرين، فلما هجروه وابتعدوا عنه وقعوا في هذا المصير المشؤوم.

و (قَوْمِي) هنا وإن انصرفت إلى قريش قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند نزول الآية في مكة وتكون الآية حينئذٍ إخباراً عن دعاء وشكوى ناجى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ربَّه بعد ان رأى صدود واعراض قومه من قريش والله تعالى يعلم بهذا الواقع ويعلم ان رسوله لم يدّخر جهداً في ابلاغ الرسالة.

الا انها عامة لجميع الناس كما هو شأن القرآن لأن الجميع مخاطبون بهذا القرآن ومأمورون باتباعه فتكون الآية إخباراً عن شكوى يرفعها الرسول (صلى الله عليه وآله) في محكمة العدل الإلهي يوم القيامة والتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع كما في الكثير من الآيات التي تحكي مشاهد القيامة في القرآن بصيغة الماضي، فتنضمّ شكواه (صلى الله عليه وآله) الى شكوى القرآن نفسه بحسب ما  ورد في الرواية الشريفة عن جابر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال (يجئ يوم القيامة ثلاثة يشكون إلى الله عز وجل: المصحف، والمسجد، والعترة. يقول المصحف: يا رب حرقوني ومزقوني، ويقول المسجد: يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة: يا رب قتلونا وطردونا وشردونا فأجثوا للركبتين للخصومة، فيقول الله جل جلاله لي: أنا أولى بذلك)[2]  .

وروى عنه (صلى الله عليه وآله) قوله (أنا أول وافد على العزيز الجبار يوم القيامة وكتابه وأهل بيتي ثم أمتي ثم اسألهم ما فعلتم بكتاب الله وأهل بيتي)[3] .

وهجران الشيء تعني مفارقته بنحو من الانحاء، ولا شك ان هجر القرآن يصدق على مراتب عديدة تقابل مراتب القرب من القرآن، فأوطأ درك للهجران هم من صمّوا آذانهم عن سماعه خشية ان يدخل قلوبهم فأغلقوها دونه تعصباً وعناداً واستكبروا عن الايمان به (وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا) (الإسراء:46) (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) (نوح:7) وانكروا كونه وحياً الهياً (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) (الفرقان:4) وغاية ما قالوا أنه كلام منمق جميل صنعه محمد (صلى الله عليه وآله) وهي الشبهة التي يرددها إلى اليوم بعض المعاندين  أو إنه أملي اليه (يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) (النحل:103) .

ومن مراتب هجر القرآن ما عليه المنافقون الذين أسلموا للقرآن ظاهراً لكنهم خالفوه في واقعهم وحياتهم العملية فبنو أمية وبنو العباس مسلمون ظاهراً ويؤمنون بالقرآن وما فيه وفيه قول الله تعالى (قُل لّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) (الشورى:23) الا إنهم امعنوا في قتل أهل البيت (عليهم السلام) وسجنهم واضطهادهم، ويقرأون آية تحريم الخمر ويشربونها علناً وسراً وأمثال ذلك.

ومن صور الهجران ما عليه أغلب المجتمعات الإسلامية اليوم حيث يستمدون أفكارهم وثقافتهم وأنظمتهم وقوانينهم وسلوكهم من مصادر غير ربانية ويعرضون عن تعاليم القرآن الكريم التي هي دستور حياتهم ومنهج سعادتهم وكمالهم ففقدوا رشدهم وضلّت مسيرتهم.

ومن مراتب هجران القرآن الاهتمام بمخارج حروفه وتلحين الصوت فيه ومعرفة قواعد قراءاته وأنواعها من دون التدبر بمعانيه والاستفادة من مضامينه ولطائفه وهؤلاء قال فيهم الامام (عليه السلام) (حفظوا حروفه وضيّعوا حدوده)[4] .

ومنها اتخاذ الآيات القرآنية مسرحاً للصراعات العلمية البحتة والجدل والمراء في مختلف العلوم لإثبات آرائهم ومواقفهم والتعصب لها وتفوقهم على الخصوم مبتعدين عن الهدف الذي أنزل من أجله وهو هداية الناس وهذا الجدل يقسي القلب ويصدّ عن ذكر الله تعالى ومعرفته والاهتداء إليه.

ولا زالت الحوزات العلمية ومعاهد العلوم ــ وهي المعين الذي ينهل الناس منه دينهم ــ بعيدة عن الحياة في كنف القرآن الكريم، ولا يحظى هذا السبيل الأعظم الموصل إلى الله تعالى باهتمامهم، وينهي طالب العلم دراسته دون أن يحظى بدرس في القرآن الكريم، وربما يرى الكثيرون في التصدي لتفسير القرآن الكريم وشرح معانيه والاستفادة من لطائفه ودقائقه منقصة بعالم الفقه والأصول مما يشكّل ضغطاً نفسياً واجتماعياً عليه حتى يتركه.

فلابد ان نتدارك أمرنا ونبادر الى اتخاذ السبيل مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لئلا نكون ممن يشكوهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن الظالمين الذين يعضّون على أيديهم ويقول واحدهم (يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا) والقرآن هو السبيل الأعظم والثقل الأكبر روى في مجمع البيان عن رسوله الله (صلى الله عليه آله) قوله (أفضل العبادة قراءة القرآن) وروي عنه (صلى الله عليه آله) قوله (حملة القرآن عرفاء أهل الجنة)[5] .

روى الشيخ الكليني بسنده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قوله (فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع وماحل مصدق ومن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلفه ساقه إلى النار وهو الدليل يدل على خير سبيل وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل)[6] وقال (صلى الله عليه وآله) (القرآن هدى من الضلالة وتبيان من العمى واستقالة من العثرة ونور من الظلمة وضياء من الاحداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية وبيان من الفتن وبلاغ من الدنيا إلى الآخرة وفيه كمال دينكم وما عدل أحد عن القرآن إلا إلى النار)[7] .

ومن خلال الرجوع إلى أهل البيت (عليهم السلام) في فهم مراداته فأنهم  الثقل الآخر وهما متلازمان لا يفترقان بنص الحديث المشهور المتواتر لدى الفريقين (إني تارك فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله عز وجل وأهل بيتي عترتي، أيها الناس اسمعوا وقد بلغت، إنكم ستردون علي الحوض فأسألكم عما فعلتم في الثقلين والثقلان: كتاب الله جل ذكره وأهل بيتي، فلا تسبقوهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم)[8] فما تمسّك بأحدهما من لم يتمسك بالآخر، وقد اضيع القرآن عندما اقصي أهل البيت (عليهم السلام) عن مراتبهم التي وضعهم الله تعالى فيها ومما ورد في زيارة الامام الحسين (عليه السلام) (وأصبح كتاب الله بفقدك مهجورا)[9] ، روى الشيخ الكليني في روضة الكافي خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) المعروفة بخطبة الوسيلة إلى ان قال (فأنا الذكر الذي عنه ضل والسبيل الذي عنه مال والايمان الذي به كفر والقرآن الذي إياه هجر والدين الذي به كذب والصراط الذي عنه نكب)[10] .

وكان كل علم أهل البيت (عليهم السلام) من القرآن كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وروى إبراهيم بن العباس قال (ما رأيت الرضا (عليه السلام) سئل عن شيء قط الا علمه، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأول إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كل شيء فيجيب فيه وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن)[11] إن من الطبيعي ان يوجد أعداء للقرآن يهجرونه ويصدّون عنه ويحاربون حملته ويضعون العراقيل في طريق هدايته للبشر جميعاً ففي الآية التالية التي فيها تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وتخفيف عن آلامه (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ) (الفرقان:31) لكن الله تعالى شاء ألاّ يهجر القرآن فأوجب قراءته في الصلوات الخمس المفروضة يومياً، روى الفضل بن شاذان في علله عن الامام الرضا (عليه السلام) (فان قال : فلم أمروا بالقراءة في الصلاة قيل: لئلا يكون القرآن مهجورا مضيعاً وليكون محفوظاً فلا يضمحل ولا يجهل)[12]  فلا خوف على القرآن لأن الله تكفل بحفظه، والمهم ان نكون نحن في معسكر القرآن ومن حملته والدعاة إليه ومنفذي أحكامه.

وقد ذكرتُ في سلسلة محاضرات (شكوى القرآن) وغيرها عدة آليات وخطوات عملية لتفعيل دور القرآن الكريم في حياة الفرد والأمة يمكن الرجوع اليها والاستفادة منها.

فلابد ان نلتزم يومياً بتلاوة القرآن في أوقات الصلاة أو غيرها ففي صحيحة حريز عن ابي عبدالله الصادق (عليه السلام) قال (القرآن عهد الله إلى خلقه فقد ينبغي للمرء المسلم أن ينظر في عهده، وان يقرأ منه في كل يوم خمسين آية)[13] والأولى ان يختم القرآن في الشهر مرة، فقد روي عن الامام الصادق (عليه السلام) قوله (لا يعجبني أن تقرأه في أقل من شهر)[14] وعلى الشباب أن يكونوا حريصين على ذلك، روى الشيخ الكليني بسنده عن الامام الصادق (عليه السلام) قال (من قرأ القرآن وهو شاب مؤمن اختلط القرآن بلحمه ودمه، وجعله الله مع السفرة الكرام البررة، وكان القرآن حجيزاً عنه يوم القيامة)[15] إلى آخر الحديث.

وعلى الصعيد الاجتماعي اذكر فعالية واحدة الآن وذلك بأن يلتزم أئمة المساجد بأن يقرأوا مع المصلين صفحتين من القرآن الكريم بعد الانتهاء من صلاة الجماعة يومياً ثم يشرح لهم باختصار موضوعاً ورد ذكره في الصفحتين كأهمية الصلاة أو بر الوالدين أو حرمة الغيبة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ولاية أهل البيت (عليهم السلام) وتوجد كتب مفيدة في هذا المجال كتفسير المعين فأنه يضع في حاشية كل صفحة من القرآن تفسيراً لمفرداتها ويشرح باختصار في أسفل الصفحة عنواناً ورد فيها وبذلك يحصل كل فرد على ثقافة قرآنية واسعة خلال مدة قصيرة بلطف الله تعالى وحسن توفيقه.



[1] - الخطبة الثانية لصلاة عيد الأضحى المبارك عام 1441 الموافق 31/7/2020 م

[2] - الخصال للصدوق: 132 أبواب الثلاثة، الحديث 232

[3] - الكافي: 2/600

[4] - الكافي: 2/598

[5] - الكافي: 2/443 ح 11، الخصال: 28 ح 100، معاني الأخبار:323

[6] - الكافي: 2/598

[7] - الكافي: 2/600

[8] - الكافي: 1/294

[9] - مفاتيح الجنان: ص 552/ الزيارة المخصوصة ليوم عرفة.

[10] - روضة الكافي: 8/28

[11] - عيون أخبار الرضا (عليه السلام) : 2/180 ح 4

[12] - عيون اخبار الرضا: ج1/ ص 113

[13] - الكافي: 2/441 ، ح4

[14] - الكافي: 2/451 ح 1

[15] - الكافي: 2/441 ، ح4