وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ - مريم الصدّيقة الطاهرة برؤية قرآنية

| |عدد القراءات : 1845
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ)

                     (مريم:16)

مريم الصدّيقة الطاهرة برؤية قرآنية[1]

أمر متوجّه من الله تعالى إلى رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله) ان يذكر مريم ونبأها في القرآن الذي هو كلامه تبارك وتعالى، وهي المرأة الوحيدة التي ذُكرت باسمها صريحاً في القرآن تكريماً لها وتشريفاً ولتبقى هذه الآيات الكريمات وثيقة تثبت طهارتها وعفّتها وسمّو مقامها وبراءتها مما اتهمها به قومها من بني إسرائيل.

إنها مريم ابنة عمران من فضليات النساء عبر التاريخ ففي الحديث الشريف الذي رواه الشيخ الصدوق بسنده عن ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال (أفضل نساء أهل الجنة أربع خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)[2] وهذا مع تفاضلهن فيما بينهن أيضاً، فقد روى في الدر المنثور عن فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنها قالت (قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول)[3] .

وقد ضربها الله تعالى هي وامرأة فرعون مثلاً سامياً للذين آمنوا جميعاً من الرجال والنساء على طول الأجيال البشرية ليتأسوا بها ويعتبروا بسيرتها قال تعالى (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ) (التحريم:11) ثم قال تعالى (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم:12) فكان عندها الاستعداد لتلقي الفيض الإلهي وأن ينفخ الله تعالى فيها من روحه جزاء لعفّتها وإحصانها في أعلى مراتبه بقرينة فاء التفريع (فنفخنا)، وجعلها تعالى وعاءً لحمل وانجاب واحد من أعظم الأنبياء والرسل ومن اولي العزم عيسى بن مريم (صلوات الله وسلامه عليه).

طهرها الله تعالى ونقاها من كل سوء واصطفاها على نساء العالمين أي انتخبها من نساء العالمين لتكون الأصفى والأنقى من كل نقص وشين قال تعالى (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران:42-43) ويذّكر النبي الكريم عيسى (عليه السلام) بهذه النعمة عليه وعلى والدته (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (المائدة:110).

هكذا هي مريم عظيمة المنزلة جليلة القدر سامية المكانة عند الله تعالى في جميع الآيات القرآنية التي وردت فيها وقد ذكرت باسمها الصريح في (34) موضعاً منتشرة في 12 سورة من سور القرآن وبغير الصريح في غيرها، بينما ورد ذكرها في خمسة[4] مواضع من الإنجيل بصور تحطّ من كرامتها وقدسيتها.

واذا أردنا ان نستقرئ الآيات الكريمة لنكتشف العوامل التي صنعت هذه الشخصية الفذة في ضوء الكلمة المختصرة التي قالها الإمام الجواد (عليه السلام) (المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله، وواعظ من نفسه، وقبول ممن ينصحه)[5] فسنجد ما يلي:

1.               الأسرة الكريمة والمنبت الطاهر قال تعالى (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) (آل عمران:37) كما في قوله تعالى (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ) (الأعراف:58) فالأصل الطيب يساعد على صناعة الإنسان الطيب بإذن الله تعالى،  وهذا ما شهد به الجميع بقولهم (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (مريم:28) وكان أبوها عمران صالحاً معلماً لمعارف التوحيد في المعبد وفي رواية أبي بصير عن الامام الباقر (عليه السلام) انه (كان نبياً مرسلاً إلى قومه)[6] لذا لما نُذرِت ابنته مريم للمعبد وكان قد توفي وهي حمل تنافس بعض أنبياء بني إسرائيل الموجودين يومئذٍ وأحبار المعبد على كفالتها (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) (آل عمران:45) .

وكانت أمها صالحة ومن أسرة كريمة وأختها زوجة نبي الله زكريا (عليه السلام) وكانت عارفة مخلصة لله تعالى وهذا واضح من تسمية ابنتها مريم التي قيل أنها تعني العابدة وقيل أنها ((لغة سريانية تعني الغالبة المرتفعة، ولعلَّها لأنها غلبت شهوتها وأحصنت فرجها رغم جمالها وكثرة الراغبين إليها، وارتفعت عما افتروا عليها وعن أقرانها من نساء العالمين))[7] وارتفعت عن كل رجس ودنس ونقص.

وتظهر معرفتها بالله تعالى من خلال أدعيتها ونذرها ( إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (آل عمران:35)  والتقبّل ليس كالقبول بل هو تمام القبول وأحسنه قال تعالى (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27).

وفي الرواية (إن الله تعالى أوحى إلى عمران: أني واهب لك ذكراً مباركاً يبرئ الأكمة والأبرص ويحي الموتى بإذني وجاعله رسولاً إلى بني إسرائيل فحدّث امرأته حنّة بذلك وهي أم مريم فلما حملت به كان حملها عند نفسها غلاماً ذكراً)[8] فنذرته لخدمة الدين والمسجد والتفرغ لعبادة الله تعالى ((و ما لم يحرّر الإنسان نفسه من القيود فإنه لن يكون قادراً على خدمة الدين، فالشيء الذي لم يتحرّر من قيود الملكية كلها لن يكون متصفاً بقيد (الوقف) ))[9]. (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا) ورأتها أنثى خلاف ما كانت ترجو وكانت خدمة المعبد وظيفة مقتصرة على الذكور وممنوعة على الإناث (قَالَتْ) بحسرة وأسف  (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) فالأنثى لا يتسنى لها التحرر لخدمة المعبد، واثير هنا إشكال بأن مقتضى الاستعمال اللغوي أن يقال (وليست الأنثى كالذكر) أي أن  ما وضعت ــ وهي أنثى ــ ليست كما كنت أرجو لخدمة المعبد بأن يكون المولود ذكراً فالتشبيه معكوس، ولهذا قال أكثر المفسرين أن هذا من كلام أم مريم ليمكن الإشكال عليه وساعدهم على ذلك ظهور السياق في كونه من مقولة قولها وأجابوا على الإشكال بعدة أجوبة ككون المراد أصل المقايسة وليس التفضيل وفي رواية حريز عن أحدهما (عليهما السلام) (وليس الذكر كالأنثى في الخدمة)[10].

لكن صاحب الميزان والكشاف قالا أنه من مقول قول الله تبارك وتعالى ولا ضير في نسبته إليه تعالى وحاصل جواب الميزان بأن الحكمة الإلهية شاءت أن يجري الأمر على هذا بأن تكون المولودة أنثى وهي مريم ثم تلد مريم الذكر الموعود وهو عيسى (عليه السلام) بتلك الآيات الباهرات التي رافقت الحمل والولادة (وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:91) وسيتبيّن لكم أنّ الذكر الذي كنتم ترجونه ليس كالأنثى التي قدرها الله تعالى ولو كان المولود لأم مريم ذكراً بالمباشرة وإن كان بمواصفات عيسى (عليه السلام) فإن ولادته سوف لا تقترن بتلك المعجزات والحجج البيّنة، وعلى هذا يكون قوله تعالى (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) من مقول قول الله تعالى كالفقرة قبلها وليس حكاية لقول أم مريم[11] الذي هو أظهر من السياق وتؤيده الروايات[12]، لكن الوجه الأول أفضل لدفع الاشكال.

ويمكن أن نقدّم معنى آخر بناء على كون الفقرة من مقول قول الله تعالى حاصلهُ إن ما كنت ترجين من الذكر بأن يكون محرراً خادماً للمعبد لا يصل إلى مقام هذه الأنثى والمعجزات والآيات التي ستجري لها فتكون اللام هنا عهدية.

وبذلك يرتفع الإشكال اللغوي ولا نحتاج إلى ما قيل من أجوبة كقول بعض المفسّرين بأن ذهول أم مريم والمفاجأة الحزينة التي واجهتها جعلتها لا تعي ما تقول.

ونستمر مع أم مريم وقولها (وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (آل عمران:36) لتكون مخلصة لك ليس للشيطان مطمع في إضلالها أو اغوائها، لتكون اسماً مطابقاً للمسمى، وشملت بدعائها ذرية مريم لأنها علمت أن الولد المبارك الموعود منها بعد أن توفي زوجها ووفت بنذرها وغالبت كل عواطف الأمومة وبعثت ابنتها الوحيدة إلى المعبد خالصة لله تعالى متفرغة لعبادته وهي المفجوعة تواً بوفاة زوجها عمران[13].

(فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) (آل عمران:37) واستجاب الله تعالى دعاء الأم فتقبّل الله تعالى مريم محرّرة خالصة له تعالى وهو معنى اصطفائها وأعطاها وذريتها الكمال والنقاء والحصانة من وساوس الشيطان فتحققت لمريم صفتا الاصطفاء والطهارة اللتان بشرتها  الملائكة بهما (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ) (آل عمران:42) وهكذا الأعمال الصالحة المخلصة تحظى بالجزاء الحسن.

2.               المربّي الناصح المخلص العارف وقد حظيت مريم برعاية مباشرة وباهتمام خاص من نبي الله زكريا (عليه السلام) وأحاطها الله تعالى بعناية عظيمة وربّاها تربية حسنة وأفاض عليها ألطافاً من عالم الغيب وأغدق أرزاقاً مادية ومعنوية وجعل قرعة كفالتها تحطّ عند زكريا (عليه السلام) (وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ) (آل عمران:37) فهذا الرزق المطلق مادياً ومعنوياً كان من ثمرات العمل المخلص ومن مظاهر الإنبات الحسن.

3.               توفر البيئة المناسبة والمساعدة على الصلاح فقد قالت أم مريم (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) (آل عمران:35) و (المحرر للمسجد يدخله ثم لا يخرج منه أبدا)[14] فيتحرر من أي مسؤوليات عائلية أو اجتماعية تجاه والديه وغيره، ومما تتطلبه معاشرة الناس من مساوئ وأذى، وقد تفرغت مريم للعبادة في محرابها وهو المكان المخصوص للعبادة في المسجد أو البيت وسمي[15] بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان والهوى ويكون الإنسان فيه حريباً أي سليباً من إشغال الدنيا وتوزع الخاطر ويكون في صدر المسجد والبيت، وانزوت في مكان لا يعبأ به ولا يلفت الأنظار بقرينة التعبير القرآني (فَانتَبَذَتْ) والنبذ هو إلقاء الشيء وطرحه لقلة الاعتداد به، ولم تكتفِ بذلك بل ضربت دونهم حجاباً، واعتزلت الناس المنهمكين في الدنيا واتباع الشهوات والمخدوعين بوساوس الشيطان الماكرة وإن رفعوا شعارات الدين أحياناً وكانوا من سدنة المعبد (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) (مريم:16-17).

4.               الوازع الداخلي والإرادة الجدية لفعل الخير وسلوك طريق الصلاح والعزم الراسخ على الالتزام به مهما تعاظمت الضغوط النفسية والاجتماعية ومهما تزينت الإغراءات. وقد التزمت مريم الصدّيقة بدقة تعاليم الأنبياء في التوحيد والعمل الصالح والسلوك العفيف حتى أثنى عليها تعالى (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ) (التحريم:12) وأشاد بصفات خاصة منها وهي العفاف ونقاء النفس وطهارة القلب والتعلق الخالص بالله تعالى (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) (المائدة:75).

فاستحقت التكريم الإلهي بالاصطفاء والتفضيل والتطهير من كل الأرجاس الظاهرية والباطنية قال تعالى (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران:42-43).

وكرمّها أيضاً بحمل الرسول العظيم عيسى (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران:45) بمعجزة لم تتكرر عبر التاريخ البشري (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ) (النساء:171) (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) (مريم:17) وكان رد فعلها المباشر - وقد فاجأها بشر سوي جميل في عزلتها وهي العفيفة الطاهرة - الالتجاء الى الله تعالى والاستعاذة به مع تمام حسن الظن به أنه لا يدعها لأنه (الرحمن) وتذكير المتمثل بتقوى الرحمن التي هي صفة لا يمكن لأحد أن يرفضها عن نفسه (قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا) (مريم:18) ولولا كمال معرفتها ونفوذ بصيرتها ونقاء سريرتها وطهارة قلبها لما كانت أهلاً لتمثل روح الله تعالى لها (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا) (التحريم:12) فألقى الله تعالى في رحمها بواسطة الروح الأمين ما تخلّقت منه نطفة النبي الكريم عيسى (عليه السلام) ((وهذا يكشف عن كمال الاستعداد الذاتي ووجود السنخية التامة بينها وبين الروح اللاهوتي حتى تتمكن من مقابلته وقبوله وحمله والتسليم لديه والعمل بالوظائف الخاصة))[16] لتكون معجزة[17] إلهية للوالدة والمولود لم تتكرر نسختها في جميع الأجيال (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:91) (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) (المؤمنون:50).

فبشرها الله تعالى بالمولود المبارك (قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا) (مريم:19) (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) (آل عمران:45) وكان وقع هذه البشارة عظيماً على نفسها لكن الأمر خطير إذ كيف تحمل المرأة من دون مقاربة الرجل ومريم لم يمسَّها رجل بالحلال ولا بالحرام (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (مريم:20) فاستشعرت عظمة الابتلاء لأن قومها سوف يتهمونها في أعزّ شيء عندها: شرفها وعفافها وطهارتها مع صعوبة ظروف الحمل والولادة حيث كانت وحيدة في مكانٍ نائي كالصحراء ليس فيه ماء ولا طعام والمرأة تحتاج حين الولادة إلى رعاية خاصة وحضور القابلة وغير ذلك (فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) (مريم:22-23) فهو جذع مقطوع يابس لا ثمرة فيه وتحت وطأة هذه الظروف القاهرة التي لا يطيقها إنسان (قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا)[18] (مريم:23)  قالت ذلك مع كمال التسليم لأمر الله تعالى وهذا أحد شواهد ما كانت عليه من مقام التصديق بكلمات ربها نظير ما ورد في إبراهيم (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (البقرة:124) وطمأنها الله تعالى وربط على قلبها (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا) (مريم:21).

وأراها معجزة لتطمئن نفسها فنبعت عين ماء عند قدميها (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (مريم:24) والسري هو جدول الماء لتشرب منه، وناداها أيضاً (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا) (مريم:25) الجَذع تعني القطع فالجِذع هو المقطوع وفيه إشارة إلى كونه يابساً لا ثمرة فيه فلما هزّته تساقط منه رطب طري طيب[19]، ضرب لها بهذا الجذع الذي أثمر بعد أن كان ميتاً  مثلاً لحالتها فهي امرأة لا زوج لها ولا تفعل الفاحشة فمثلها يستحيل عليها الحمل لكن الله تعالى هزّها بنفخة الروح فحملت بالثمرة المباركة روح الله وكلمته عيسى (عليه السلام) فتحققت لها البشرى واكتملت بما يسَّر لها من الطعام والشراب (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا) (مريم:26) وكان حملها (بعيسى بالليل ووضعته بالغداة وكان حملها تسع ساعات من النهار جعل الله لها الشهور ساعات) وفي روايات أخرى ذكرت غير هذه المدة.

(ففقدوها في المحراب فخرجوا في طلبها)[20] ولما جاءتهم بالوليد المبارك حدث ما هو متوقع من لئام الناس (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا) (النساء:156) (قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا) (مريم:27) واتهموها بممارسة الفاحشة وهنا تدخلت القدرة الربانية لتنطق الوليد المبارك بكلمات أدهشت الحسّاد والمعاندين وأخزتهم ونصرت العفيفة الطاهرة.

فنحن ــ المسلمين ــ نقدّس مريم ونعظمها لهذه المنزلة التي بيّنها الله تعالى في كتابه الكريم، ونرتبط ــ نحن أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ــ بولدها روح الله وكلمته عيسى (صلوات الله وسلامه عليه) بأن لنا أملاً كبيراً فيه لأنه سيظهر مع المخلِّص العظيم الإمام المهدي الموعود (عليه السلام) لينقذا البشرية من الضياع والضلال والشرور والآثام.

 

ملحق: مقارنة بين الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) والسيدة مريم إبنة عمران

          لنا ــ أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ــ علاقة وجدانية خاصة بالصدّيقة الطاهرة مريم بنت عمران لأنها شابهت السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الكثير من الصفات مع حفظ التقدم للسيدة الزهراء (عليها السلام) في تلك الصفات.

فقد اقتبست من أنوار سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) فكانت تتلألأ نوراً في محرابها وفي الرواية عن الإمام الباقر (عليه السلام) (وكانت أجمل النساء، فكانت تصلي ويضيء المحراب لنورها)[21] .

وكانت مريم محدّثة ــ وهو من أسماء السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ــ تحدّثها الملائكة كما أخبر به الله تعالى (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) (آل عمران:42) (فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) (مريم:17) وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال (انما سميت فاطمة (عليها السلام) محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادى مريم بنت عمران، فتقول يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتى لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: ان مريم كانت سيدة نساء عالمها، وإن الله عز وجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها، وسيدة نساء الأولين والآخرين)[22] .

وفي صفة التطهير فقد قال تعالى في مريم (وطهّرك) وأنزل في أهل البيت (عليهم السلام) آية التطهير (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب:33).

وفي الاصطفاء والسيادة فقد جعل مريم سيدة نساء العالمين وكانت فاطمة (عليها السلام) كذلك والفرق ما ذكرته الرواية عن المفضل بن عمر قال (قلت لأبي عبد الله ــ الصادق ــ (عليه السلام) أخبرني عن قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فاطمة أنها سيدة نساء العالمين أهي سيدة نساء عالمها؟ قال: ذاك لمريم كانت سيدة نساء عالمها وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين)[23] ، واذا تمسكت بإطلاق قوله تعالى (على نساء العالمين) فلا تختص بزمانها كما في الميزان قلنا نعم لكنه اصطفاء خاص بآيات محددة كالتي رافقت حملها وولادتها بينما اصطفاء فاطمة الزهراء (عليها السلام) مطلق وهو وجه الفرق بين الاصطفاء المتعدي بـ(على) كما في مريم والاصطفاء المطلق و ((ان الاصطفاء المتعدي بـ(على) يفيد معنى التقدم، وأنه غير الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم، وعلى هذا فاصطفاؤها على نساء العالمين تقديم لها عليهن)) ، فتقديم مريم كان من بعض الجهات ((حيث لم تشمل مما تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (عليه السلام) أن هذا هو وجه اصطفائها وتقديمها على النساء من العالمين))[24] .

وفي إنجاب المعصومين الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) فقد أعاذهم الله تعالى من الشيطان الرجيم، ففي حديث لأمير المؤمنين (عليه السلام) في حدث تزويجه بفاطمة (عليها السلام) ودعاء النبي (صلى الله عليه وآله) لهما وقال (قم بسم الله وقل: على بركة الله، وما شاء الله، لا قوة إلا بالله، توكّلت على الله ــ ثم جاءني حين أقعدني عندها ثم قال: اللهم إنهما أحبّ خلقك إليَّ فأحبهما، وبارك في ذريتهما واجعل عليهما منك حافظاً، وإني أعيذهما وذريتهما بك من الشيطان الرجيم)[25]  .

وفي الرزق الذي يأتيها في المحراب من عند الله تعالى ففي رواية عن الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان في طعام وجده النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه في دار فاطمة ولم يكونوا يعرفونه من قبل إلى أن قال (وقام النبي (صلى الله عليه وآله) حتى دخل على فاطمة (عليها السلام) وقال (وأنى لك هذا يا فاطمة؟) فردّت عليه ونحن نسمع قولهما فقالت (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) فخرج النبي (صلى الله عليه وآله) مستعبراً وهو يقول (الحمد لله الذي لم يمتني حتى رأيت لابنتي ما رأى زكريا لمريم كان إذا دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا فيقول: (يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)[26]

ويعجبني نقل هذه الأبيات في المقارنة بين بعض حالات الصدّيقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام) والصدّيقة مريم :

 

إن قِـيـلَ حَــوّا قُـلـتَ فـاطـمُ فَـخرُها
أفــهـلْ لـمـريـم والـــدٌ كـمـحـمدٍ
كـــلٌ لــهـا عـنـدَ الــولادةِ حـالـةٌ
هـــذي لـنـخلتِها الـتَـجَتْ فَـتَـساقَطَتْ
ولــدت بـعـيسى وهــي غـيرُ مـروعةٍ
وإلــى الـجدارِ وصـفحةِ الـبابِ الـتَجت
سَـقَـطت وأسـقَـطَتِ الـجـنينَ وحـولَها
هــــذا يـعـنـفـها وذاكَ يــدُعُّـهـا
وأمـامَـهـا أســـدُ الأســـودِ يـقـودُهُ
ولـسـوفَ تـأتـي فــي الـقـيامةِ فـاطمٌ
ولـتَـرفَـعَـنَّ جـنـيـنَـها وحـنـيـنَها

 

أو قـيـلَ مـريـمُ قـلـتُ فـاطـمُ أفـضلُ
أم هَــلْ لـمـريمَ مـثـلُ فـاطـمَ أشـبلُ
فـيـها عـقـولُ بـنـي الـبصائرِ تـذهَلُ
رُطَــبَـاً جَـنـياً فـهـي مـنـه تـأكُـلُ
أنَّـــى وحـارسُـها الـسّـري الأبـسـلُ
بـنـتُ الـنَّـبي فـأسـقَطَتْ مــا تَـحمِلُ
مــن كــلِّ ذي حـسـبٍ لـئـيمٍ جَـحفل
ويــردهـا هـــذا وهـــذا يــركُـلُ
بـالـحبل قـنـفذ هــل كـهـذا مـعضَلُ
تـشـكـوا إلــى ربِّ الـسـماءِ وتـعـولُ
بـشـكـايةٍ مـنـهـا الـسـماءُ تَـزلزَلُ[27]

 

 



[1] - ألقيت يوم الجمعة 25/ذي القعدة/1441 الموافق 17/7/2020

[2] - الخصال: 151، أبواب الأربعة ح 22، 23

[3] - الدر المنثور: 2/23

[4] - الفرقان في تفسير القرآن: 18/205

[5] - تحف العقول:336

[6] - بحار الأنوار: 14/202 ح 14

[7] - الفرقان في تفسير القرآن: 18/205

[8] - رواية عن الإمام الصادق (عليه السلام) في نور الثقلين: 1/334 عن الكافي

[9] - تفسير تسنيم للشيخ الجوادي الآملي:14/125

[10] - تفسير العياشي:1/170 ، بحار الأنوار:5/319

[11] - استفدنا الوجه من كلام السيد الطباطبائي (قده) في الميزان في تفسير القرآن: 3/199

[12] - تفسير القمي: 1/109

[13] - الظاهر وفاة عمران خلال حمل زوجته لأنه من البعيد أن تستقل بالنذر مع وجود زوجها، ولعدم ورود أي ذكر له في أحداث الولادة وما بعدها من الكفالة والنذر للمعبد.

[14] - في حديث عن الإمام الباقر (عليه السلام) رواه في الكافي: 3/105 ح 4

[15] - عن مفردات الراغب

[16] - التحقيق في كلمات القرآن الكريم للمصطفوي:11/96

[17] - لا تخلو الآية من إشارة الى إمكان قيام غير الحيامن بدور التلقيح للبيضة والمهم في تكوّن الجنين وجود بيضة الأنثى، وبعض المصادر الطبية ما يشير الى وجود تجارب في هذا المجال.

[18] - الفرقان في تفسير القرآن: 18/206

[19] - تكررت مثل هذه المعجزة للأئمة الطاهرين كالإمام الحسن والإمام الباقر (عليهما السلام) (راجع روايات في تفسير نور الثقلين:3/331 ح 55)

[20] - البرهان في تفسير القرآن: 6/194 ح 1 عن تفسير علي بن إبراهيم.

[21] - البرهان في تفسير القرآن: 2/33 عن تفسير العياشي:1/193

[22] - علل الشرائع:1/216 ، تفسير نور الثقلين 1/337

[23] - البرهان في تفسير القرآن: 2/216 ح 7 عن معاني الأخبار للصدوق: 107 ح 1

[24] - الميزان في تفسير القرآن:3/218

[25] - أمالي الشيخ الطوسي: 40، تفسير نور الثقلين:1/333

[26] - البرهان في تفسير القرآن:2/216 ح 8 عن آمالي الشيخ الطوسي:2/227

[27] - ديوان الشيخ محسن أبو الحب الكبير/ ص 128