خطاب المرحلة (545) العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس - الحاجة إلى مراكز البحوث والدراسات التخصصية
بسمه تعالى
العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس
الحاجة إلى مراكز البحوث والدراسات التخصصية ([1])
روى في تحف العقول عن الامام الصادق (×) قوله (العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس)([2]) أي لا تدخل عليه الشبهات ولا تلتبس عليه الأمور ولا تختلط عليه الأوراق كما يقال ولا يضطرب، بل يكون على بصيرة من أمره، والمقصود بزمانه أي أهل زمانه أو أحوال زمانه بتقدير مضاف، وليس المعرفة بنفس الزمان المتكون من ساعات الليل والنهار.
والحديث مطلق لا يختص بفئة أو شريحة وإنما كل من له معرفة بزمانه يكون هكذا، وفي الحقيقة فان المعرفة بأحوال الزمان وأهله مطلوب من كل عاقل ذي بصيرة ففي كتاب الكافي بسنده عن الامام الصادق (×) قال (في حكم آل داود على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه مقبلاً على شأنه حافظاً للسانه)([3]) أي يكون ملتفتاً لإصلاح نفسه ومحاسبتها وتحليتها بالفضائل وتنقيتها من الرذائل، حافظاً للسانه عن اللغو والباطل.
هذا ولكن ضرورة هذه المعرفة والحاجة إليها تزداد كلما ازدادت مسؤولية الفرد، لذا كان العلماء المتصدون لقيادة الأمة وإرشادها وهدايتها وإصلاحها أولى بتحصيل هذه المعرفة، لأن التباس الأمور على العالم واضطرابها ينافي تماماً وظيفته الإلهية، وهذا ما وصف به أمير المؤمنين (×) إمرة الذين تقمصوا الخلافة قبله، قال (×) (فصيّرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها ــ أي جرحها ــ ويُخشُن مسُّها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فمني الناس ــ لعمر الله ــ بخبط ــ أي سير بغير هدى ــ وشِماس ــ أي صعوبة وعسر ــ وتلّون واعتراض ــ أي السير عرضاً بدل الامام.
ويمكن أن نفهم الحديث على نحو الشرط أي لا يكون العالم عالماً حقيقة حتى تكون له معرفة بزمانه، أو نفهمه على نحو النتيجة أي من ثمرات العلم المعرفة بالزمان، والثاني يؤدي إلى الأول لأن معرفة الانسان بالزمان تكون كاشفة عن كونه عالماً حقيقة والا فلا.
وعلى كلا التقديرين فالحديث صريح في أن تحصيل العلوم المقرّرة لا تكفي لصدق عنوان العالم الذي تناط به مسؤولية هداية الناس وإصلاحهم مالم تكن له بصيرة في تقلبات الزمان وتغيراته وعدم استقراره على حال، ومن كلمات أمير المؤمنين (×) في ذلك (أعرف الناس بالزمان، من لم يتعجب من أحداثه)([4]) لأنه لا يتفاجأ بشيء منها لإحاطته بها.
وان يمتلك فطنة ورؤية ثاقبة بأحوال الناس واكتشاف أخلاقهم وصفاتهم ليتمكن من تمييز الصديق عن العدو والمؤمن من الفاسق والأمين من الخائن، والصالح من الطالح ليحدّد طريقة التعامل مع كل منهم بما يناسبه ويضع كلاً منهم في موضعه المناسب، فيقرّب هذا ويبّعد ذاك، ويحمَّل هذا مسؤولية محدودة، وذاك أوسع منها، ويأخذ بكلام هذا ولا يأخذ بكلام ذاك.
ولذا قرنت جملة من وصايا المعصومين (×) بين هذه المعرفة وكيفية التعامل مع الآخرين ففي حديث آخر (عارفاً بأهل زمانه مستوحشاً من أوثق اخوانه)([5]) وفي وصية الامام أمير المؤمنين لولده الحسن (‘) (يا بني انه لابد للعاقل من أن ينظر في شأنه فليحفظ لسانه وليعرف أهل زمانه)([6]).
محل الشاهد ان العلوم التي نتلقاها في الحوزة العلمية لا تكوِّن لدينا هذه المعرفة، نعم هي تزوّدنا بالأدوات والوسائل والرؤية ومنهج التعامل، من هنا تبرز الحاجة لرفد الحوزة العلمية بمراكز البحوث والدراسات في شتى المجالات حيث تتخصص كل جماعة بأحد الحقول، فان العالم بمفرده لا يستطيع تحصيل هذه المعرفة، والإحاطة بكل القضايا التي تتطلب منه مواقف ومعالجات وحلولا، واذا كان وجود مثل هذه المراكز يعتبر حالة شاذة في الأزمنة السابقة وتجهض مثل هذه المشاريع قبل ولادتها، فأن البيئة اليوم تساعد عليها بل وجدِ عدد منها بفضل الله تعالى، والمطلوب المزيد منها.
([1]) من حديث سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) اثناء لقائه بمدير ورؤساء أقسام مجمع البحوث الإسلامية في العتبة الرضوية المقدسة في مشهد يوم الخميس 25 رجب /1439. ومع مدير ورؤساء أقسام وأعضاء مركز الامام الصادق (×) للبحوث والدراسات التخصصية في النجف الاشرف يوم الأربعاء 17 / رجب / 1439 المصادف 4 / 4 / 2018 .
([2]) تحف العقول: 259
([3]) أصول الكافي: 2 / 116 باب الصمت وحفظ اللسان، ح 20
([4]) غرر الحكم: 3252
([5])الكافي: ج ١ / ص ٤٩
([6]) بحار الأنوار: ج 68 / ص 339