خطاب المرحلة (529) (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) - سنة الاستدراج
بسم الله الرحمن الرحيم
(سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) (القلم:44) (الأعراف: 182)
سنة الاستدراج([1])
من سنن الله تعالى الجارية في عباده سنة (الاستدراج) وهي من الابتلاءات العظيمة التي يمر بها الفرد والمجتمع، عن امير المؤمنين (×) قال ( ما ابتلى الله أحداً بمثل الإملاء له)(([2])) وقد ذكرها القرآن الكريم صريحاً في موضعين بنفس النص في العنوان، لكن مضمونها ورد في آيات عديدة أخرى كما سيأتي ان شاء الله تعالى.
والاستدراج يعني الايقاع بالكافرين والمنافقين واهل المعاصي تدريجياً درجة بعد درجة من حيث لا يعلمون فكلما ازدادوا في المعاصي ازدادت عليهم النعم والشواغل والملهيات عن التوبة والرجوع وهكذا حتى تنتهي مهلتهم و يتفاجاؤا بالعذاب الذي يستحقونه وقد أحاط بهم وهم في ذروة سكر النعم واقبال الدنيا وورد عن الامام الصادق (×) في تفسير هذه الآية قال (هو العبد يذنب الذنب فتجدد له النعمة معه، تلّهيه تلك النعمة عن الاستغفار عن ذلك الذنب)(([3])).
والذي يوقعهم في هذا الاستدراج ما ذكرته الآية التالية في الموضعين (وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) أي اغترارهم بالإمهال والاملاء وعدم التعجيل بالعقوبة على الذنوب (وَأُمْلِي لَهُمْ) الذي هو رحمة وشفقة وإعطاء مزيد من الفرص للتوبة وليس عجزاً أو ضعفاً لأن الاستعجال ديدن من يخاف الفوت فيتوهمون أنهم على خير ولم يصدر معهم شيء سيء وإنهم يستحقون من الله تعالى إغداق النعم كقول قارون لما نصحه قومه بالإحسان كما أحسن الله تعالى إليه وعدم البغي والفساد في الأرض (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي) (القصص:78).
فيتملكهم الغرور وتستولي عليهم الغفلة حتى ينتهوا إلى سوء المصير، قال تعالى (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (آل عمران:178).
وسنة الاستدراج تأتي بعد الموعظة والتذكير والانذار والتحذير والتعريض لبعض الابتلاءات لعله يصحو من غفلته وينتبه إلى نفسه فاذا استمر بعصيانه وتمرده تواترت عليه النعم فينسى ربه وينسى نفسه (نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ) (الحشر:19) .
ومن الآيات الكريمة التي اشارت إلى هذه المراتب قوله تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) (الأعراف:94-95) وفي كتاب الكافي عن الامام الصادق (×) قال (ان الله اذا أراد بعبد خيراً فأذنب ذنباً أتبعه بنقمة ويذكره الاستغفار، واذا أراد بعبد شراً أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار ويتمادى بها وهو قول الله عز وجل (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ) بالنعم عند المعاصي)([4]).
في الحديث عن الامام الصادق (×) قال ( إذا أحدث العبد ذنباً جدّد له نعمه فيدع الاستغفار، فهو الاستدراج)([5]).
لذا يجب على الانسان العاقل أن يكون حذراً عندما تقبل النعم عليه قال امير المؤمنين (×) (أولى الناس بالحذر اسُلمُهم عن الغيَر)([6]) أي من لا يتعرض للابتلاءات والصعوبات ويرفل بالنعم وعنه (×) ( اذا رأيت ربَّك يتابع عليك النعم فاحذره ) ([7]) بأن لا تبطره النعمة ولا يشعر بالعجب والزهو وان يتعاهد نفسه بالمحاسبة دائماً ولا يغفل عن أداء حق الله تعالى عليه في هذه النعم، فنعمة الايمان عليها حقوق ونعمة العقل عليها حقوق، ونعمة الصحة والعافية عليها حقوق، ونعمة المال عليها حقوق، ونعمة الجاه والوالدين والأولاد والعلم وغيرها فيها حقوق لله تعالى ((راجع رسالة الحقوق للإمام السجاد (×) لتعرف تفصيلاً عن هذه الحقوق)).
روي عن أمير المؤمنين (×) قوله في نهج البلاغة (أنه من وسع عليه في ذات يده فلم يَر ذلك استدراجاً فقد أمن مخوفاً)([8]).
ومن كلماته (×) (كم من مستدرج بالإحسان إليه، ومغرور بالستر عليه، ومفتون بحسن القول فيه، وما أبتلى الله أحداً بمثل الاملاء له)([9]).
وعن الامام الحسين (×) قال (الاستدراج من الله سبحانه أن يسبغ عليه النعم ويسلبه الشكر)([10]).
وعن الامام الصادق (×) قال (كم من مغرورٍ بما قد أنعم الله عليه، وكم من مستدرج يستر الله عليه، وكم من مفتون بثناء الناس عليه)([11]).
وكان أصحاب الائمة (^) واعين لهذه الحالة وحذرين منها فروي أن أحد أصحاب الامام الصادق (×) قال (إني سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني مالاً فرزقني، وإني سألت الله تبارك وتعالى أن يرزقني ولداً فرزقني، وسألته أن يرزقني داراً فرزقني، وقد خفت أن يكون ذلك استدراجاً؟ فقال (×): (أما مع الحمد فلا)([12]) والمقصود بالحمد العملي منه وليس فقط القولي، و( أقل ما يلزمك لله تعالى ان لا تستعينوا بنعمه على معاصيه )([13])
هذا هو المعنى المعروف للاستدراج، ويستشف من القران الكريم معنى آخر له، بأن يكون الاستدراج على شكل تزيين المعصية وتيسيرها بحيث تضعف مقاومة النفس عن تجنبها كما يحكي القرآن عن أصحاب السبت من اليهود، حيث حرم الله تعالى عليهم صيد السمك يوم السبت فكانت تأتي بكثرة يوم السبت وتكون في متناول أيديهم ولا يجدونها في غير السبت، فعملوا حيلة لحجزها يوم السبت ثم اصطيادها يوم الاحد فقال تعالى (واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) (الأعراف:163). فمسخوا قردة وخنازير([14]) .
ومثل الصيد الذي حرمه الله تعالى على المحرم واذا به يكثر حولهم وهم محرمون ليبتلي صبرهم على الالتزام بالحكم الشرعي للمحرم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (المائدة:94).
فالمستفاد من الآية عدة دروس:
1- عدم الاغترار بالنعم والأمن من العقوبة لأن ذلك امهالاً وليس اهمالاً وأن العاقبة السيئة قد تحل به في أي لحظة في الدنيا والآخرة، مثلا الزعماء السياسيون عليهم أن لا تغرّهم الرئاسة والقدرة وكثرة الاتباع وضجيجهم وتداول وسائل الاعلام فتتضخم الانا عند احدهم ويتصور أنه قادر على كل شيء وأنه بمتناول يده أن يفعل ما يشاء فيتخلى عن مبادئه وينسى واجباته تجاه شعبه وبلده وينحرف مبتعداً عن جادة الصواب ويصمّ اذنه عن سماع النصيحة ويغفل عن قدرة الله عليه، او أصحاب الأموال يرون أموالهم تتكاثر بسرعة وتأتيهم من حيث لا يحتسبون، فيغتروا بها ويغضوا الطرف عن مصادرها وإخراج الحقوق الشرعية منها ويبقون في هذا الوهم حتى تذهب لذتها وتبقى تبعتها .
2- أن لا ننساق وراء شهوات النفس واطماعها فنسقط في المعصية مهما بدت لذيذة وسهلة ومغرية وفي متناول اليد كالأموال الطائلة التي يبذلها الفاسدون من أجل تمرير باطلهم أو السكوت عنه، فيغتر بها ضعاف النفوس ويسقطون في فخوخهم أو كالعلاقات الجنسية التي تبذل بيسر للشباب في المجتمعات المختلطة أو على وسائل التواصل الاجتماعي والتقنيات الحديثة أو أي مجال آخر، فالحذر من كل ذلك لأن القدم اذا زلَّت فأن الانحراف يزداد بمرور الوقت وتصعب العودة إلى جادة الصواب.
3- الثقة بوعد الله تعالى وأنه لا يضيّع أجر المحسنين ولا يسكت عن ظلم او جور وأنه ينصر عباده المؤمنين ولكننا لا نستطيع توقيت ذلك وما يفعله الله تعالى هو الخير.
4- أن نعي هذه السنة الإلهية (الاستدراج ) حتى لا يتحول الاغترار بها إلى ظاهرة خطيرة حينما ينخدع المجتمع ببعض المظاهر الجذابة المبهرة التي يتنعم بها المستدرجون فيتمنى أن يكون مثلهم ولا يعلم العاقبة الوخيمة التي تنتظرهم كما ابتلي الكثير من أبناء المجتمع اليوم بهوس السلطة والصراع على المغانم ونيل الثراء الفاحش بسرعة، قال تعالى (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران:196-197)
ويحكي القرآن الكريم حادثة قارون من بني إسرائيل للتحذير من هذه الظاهرة الخطيرة حيث آتاه الله تعالى أموالا عظيمة (وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ) فنصحه قومه فلم يستجب(قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص : 78) أي ان هذه النعم حصلت عليها بقدراتي وامكانياتي الشخصية وهنا ترد الإشارة الى هذه الظاهرة (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ * فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَن مَّنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص:76-83)، فلنحذر من السقوط في مقولة (ياليت لنا مثل ما اوتي قارون إنه لذو حظ عظيم) لان عاقبته الندم الكبير حيث لا ينفع الندم.
ويقدّم السيد الطباطبائي + تحليلاً لاستدراج هؤلاء ووقوعهم في العذاب الدنيوي قبل الآخرة، قال + ((ومن وجه آخر لما انقطع هؤلاء عن ذكر ربهم وكذبوا بآياته سُلبِوا اطمئنان القلوب وأمنها للتشبث بذيل الأسباب التي من دون الله، وعذبوا باضطراب النفوس وقلق القلوب وقصور الأسباب وتراكم النوائب، وهم يظنون انها الحياة ناسين معنى حقيقة الحياة السعيدة فلا يزالون يستزيدون من مهلكات زخارف الدنيا فيزدادون عذاباً وهم يحسبونه زيادة في النعمة حتى يردوا عذاب الآخرة وهو أمر وأدهى، فهم يستدرجون في العذاب من لدن تكذيبهم بآيات ربهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون))([15]).
([1]) ( الخطبة الأولى لصلاة عيد الأضحى المبارك لسنة 1438 الموافق 2/9/2017
([2]) ) نهج البلاغة: قصار الكلمات: 116
([3]) الكافي: 2/452 ح 3
([4]) نور الثقلين: 5/397 عن كتاب علل الشرائع
([5]) مجمع البيان: 10/340
([6]) غرر الحكم : رقم 3096
([7]) غرر الحكم : رقم 4082
([8]) نهج البلاغة: قصار الكلمات رقم 358، بحار الانوار: 5/220
([9]) نهج البلاغة: الحكمة 116
([10]) بحار الانوار: 78/117 ح 7
([11]) الكافي: 2/452 ح 4
([12]) أصول الكافي: 2/97 ح 17
([13]) كلمة لأمير المؤمنين (×) في غرر الحكم : رقم 3330
([14]) ) في تفسير العسكري: عن الامام علي بن الحسين (× ) قال : (ان الله تعالى مسخ هؤلاء لاصطياد السمك فكيف ترى عند الله عز وجل يكون حال من قتل أولاد رسول الله (صلى الله عليه واله) وهتك حريمه، ان الله تعالى وان لم يمسخهم في الدنيا فان المعدَّ لهم من عذاب الاخرة اضعاف اضعاف هذا المسخ) (تفسير البرهان : 4/129)
([15]) الميزان في تفسير القرآن: 8/351 تفسير الآية 182 من سورة الأعراف.