العمل السياسي من الواجبات الشرعية خطاب المرحلة (55)
المرجعية وخطابات المرحلة
خطاب المرحلة (55)
العمل السياسي من الواجبات الشرعية
* ان اهمية العمل في الساحة الاسلامية تنسجم تماماً مع منطلقات ومبادئ الشريعة الاسلامية التي تؤكد - عقائدياً - على ان الله سبحانه هو الخالق وهو المستخلف للجماعة البشرية على الارض فانتمائها اليه يكون انتماءً الى محور واحد - وهو المستخلف سبحانه - بدلاً عن كل الانتماءات الاخرى وهذا هو التوحيد الخالص ((يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خيرٌ ام الله الواحد القهار )) (يوسف: 29)، هذا اولاً ، وثانياً: اقامة العلاقات الاجتماعية على اساس العبودية المخلصة لله وتحرير الانسان من عبودية الاسماء التي تمثّل الوان الاستغلال والجهل والطاغوت ((ما تعبدون من دونه الا اسماء سميتموها)) (يوسف: 40).
وثالثاً: تجسيد روح الاخوة الهامة في كل العلاقات الاجتماعية بعد محو الوان الاستقلال والتسلط ولا يقوم التفاضل في مقايس الكرامة عند الله سبحانه الا على اساس العمل الصالح فتوىً او علماً أو جهاداً ((وأن ليس للانسان الا ما سعى)) (النجم: 39).
رابعاً: ان الخلافة استئمان اي امانة وهي تفترض المسؤولية والاحساس بالواجب.
* وبما ان اقامة مجتمع التوحيد الخالص في كل انحاء الارض هو الغاية الحقيقية من خلق الناس (وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون) فان التأسيس للدولة العالمية هو رغبة كل مؤمن كما ورد في دعاء الافتتاح : ((اللهم إنا نرغب اليك في دولة كريمة ..)) وهو تأكيد لذلك الوعد الالهي بتحقيق دولة العدل في اليوم الموعود على يد منقذ البشرية العظيم الذي نعيش ذكرى ولادته الشريفة في الخامس عشر من شهر شعبان المعظم.
وفي اشارة جزئية للمرجعية الرسالية التي تمثل الامتداد الطبيعي بخط الامامة وهي المؤهلة حقاً للتمهيد لدولة العدل العالمية كان موقف سماحة آية الله الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) من العمل السياسي الذي اعتبره من الواجبات الشرعية تأكيداً على دور الامة في ممارسة دورها الفاعل في الحياة السياسية وحفظ مصالحها واقامة الحق والعدل في البلاد والذي علم من دون الشريعة اهتمامها البالغ بالوجبات الاجتماعية وأعطتها قيمة أكبر من الواجبات الفردية كتفضيل العالم على العابد بدرجات كبيرة وان اصلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة والصوم وحينما يوصي امير المؤمنين(ع) شيعته بالتقوى ونظم الامر فانما يقصد بتنظيم الامر هذه الواجبات الاجتماعية لا الفردية التي لا تحتاج الى تنظيم الامر.
ويضيف سماحة الشيخ اليعقوبي (دام ظله) فالعمل السياسي الذي جعلناه من الواجبات الشرعية هو ما كان في اطار الاسلام تشريعاً وتطبيقاً ، نعم قد تختلف آلياته بجسب الفرص المتاحة والشيء المناسب اليوم هو تشكيل التنظيمات الحزبية والثقافية والشعبية والاجتماعية ومؤسسات المجتمع المدني لا لتعيش الانانية الحزبية والعصبية المقيتة لها بل لتكون قنوات للعمل وواجهات وكيانات تدافع عن الفرد وتعبر عن مطالبه وتخوض باسمه ومن اجله العملية السياسية ، ويضيف سماحته قائلاً:
ودور الحوزة العلمية والمرجعية الشريفة هو احتضان هذا العمل ورعايته ودعمه وتوجيهه لاننا نعتقد ان الوقائع الاجتماعية التي تمس حياة الامة سواء وكانت اقتصادية او سياسية او فكرية او اخلاقية هي من اوضح واهم مصاديق (الحوادث الوقعة) التي قال عنها امام العصر وصاحب الزمان الحجة بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه الشريف) : ((واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله)) (وسائل الشيعة : كتاب القضاء ، باب 11) ويبقى على الامة مباشرة تفاصيل العمل بهمة وحماس واخلاص حتى لا تترك ثغرة يمكن ان ينفذ منها من لا وازع اخلاقي وديني وانساني له فيعيث في الارض فساداً ويهلك الحرث والنسل والامة بمجموعها آثمة لتقصيرها ووقوفها مكتوفة الايدي حتى ملك زمامها مثل هؤلاء.
وهنا علينا ان نلتفت الى نقاط:
1- ان العمل السياسي بالشكل المتقدم - اعني تشكيل الاحزاب والمنظمات ونحوها - لا يعني التخلي عن الخيار المرجعي في قيادة الامة لانه النظام الاكمل والاقدر على تصحيح مسار الامة وفق المنهج الالهي وقد خطط له ائمة اهل البيت(عليهم السلام) ووضعوا له اسسه وقواعده، روي عن الامام الحسين(ع) قوله: (مجاري الامور والاحكام بيد العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه) وروي عن الامام الصادق(ع): (فاما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً هواه مطيعاً لامر مولاه فللعوام ان يقلدوه). وامر الامام المهدي(ع) المتقدم بالرجوع الى الفقهاء العارفين بالكتاب والسنة بل ان عمل هذه التشكيلات انما يكتسب مشروعيته في نظر الجماهير حتى تندفع لتأييده ورفده بالعناصر المؤهلة للعمل اذا توفر له الغطاء الشرعي من المرجعية الرشيدة وقد اوضحنا ذلك في بيان بعنوان (الاسس النظرية لحزب الفضيلة الاسلامي).
2- ضبط اخلاق المهنة فللتعليم اخلاق وللطب اخلاق وللتجارة اخلاق حتى قال الامام(ع): (التاجر فاجر ما لم يتفقه في دينه) فللعمل السياسي اخلاق هي صمام امان له من الزيغ والانحراف عن اهدافه السامية فلابد من دراستها ومراقبة النفس باستمرار خلال التطبيق وقد حفلت جوامع الحديث بوصايا المعصومين(ع) في هذا المجال واذا تعذر استخلاص الدروس منها فيمكن مراجعة كتب بحثت هذا الموضوع ككتاب (السياسة من واقع الاسلام) للسيد صادق الشيرازي و(الراعي والرعية) للمرحوم توفيق الفكيكي وهو شرح عهد الامام علي (ع) الى مالك الاشتر لما ولاه مصر والفصل الرابع من كتاب (دور الائمة في الحياة الاسلامية) الذي عنوانه (هل كان الائمة (عليهم السلام) يحاولون استلام الحكم).
3- ان وظيفة هذه التشكيلات السياسية ليس الدوران في اروقة السياسة والاحتجاب عن الامة بل ان وظيفتها جماهيرية فمكانها ليس المكاتب الفارهة لكنها خاوية من الروح وانما مكانها قلوب الناس وعقولهم اماكن تجمعاتهم من خلال عطائها للجماهير فهي تعيش في وعي الامة وفكرها وهمومها ومشاكلها ومشاريعها الخيرية وقد نبهت الى جملة من هذه الخطوات العملية في بيان رقم (53) من سلسلة خطاب المرحلة عن كيفية استثمار العطلة الصيفية للطلبة.
4- ان وجوب العمل السياسي على الامة لا يعني انها كلها تترك اعمالها وتعمل بالسياسة فلكل انسان ما يناسبه وحاجات المجتمع متنوعة وكلها ضرورية لحياته وانما يتحقق - يعني امتثال هذا الوجوب - بتصدي النخبة المؤهلة لاداء هذا العمل، نعم، على الامة ان تمتلك وعياً سياسياً ويكونله حضور فاعل في قضاياها المصيرية ولا تبقى متفرجة ازاء الاحداث فساحة العمل ليست كساحة كرة القدم يلعب بها اثنان وعشرون ويبقى الالاف متفرجين بل الكل يشترك بحسب دوره المناسب.
5- على العاملين في الاحزاب والحركات وسائر التنظيمات ان يتجنبوا الانانية الحزبية فمن اهم علامات المؤمن الرسالي انه يعيش هم الامة والرسالة الالهية العظيمة ويذوب نفسه وحزبه وعشيرته وكل شيء في الله تبارك وتعالى فهو يقدّم الاكفأ وينتخبه ولو كان منتمياً لجهة اخرى وهذه الانانية هي التي اوجبت نفور شرائح اجتماعية واسعة من العمل التنظيمي وفي ذلك خسارة كبيرة للامة.
6- من الضروري للقائمين على العمل السياسي والفاعلين فيه انشاء المعاهد لتطوير المهارات والخبرات السياسية والاشعار باهمية ومسؤولية الامة عن القيام به حتى يكون الدافع ذاتياً ولا يتوقف على امر الآمر وتُدرّس فيها اخلاق المهنة التي اشرنا اليها.
7- اهتمام العاملين في هذا المجال باستماع الموعظة وقراءة القرآن وحضور الشعائر الدينية وعمل كل ما يحيي القلب لان هذا القلب مهما كانت نيته مخلصة لله تعالى فانه يبقى من امور الدنيا التي تقسي القلب كالكسب وغيره وهذه القساوة اذا استثمرت بلا جلاء وتنقية فانها تؤدي الى الطبع على القلوب فلا تسمع صوت الحق والهدى والعياذ بالله ويذهب نور الايمان وانما يكون جلاؤها بما ذكرناه قال امير المؤمنين(ع) موصياً ولده الامام الحسن(ع): (يا بني احيي قلبك بالموعظة وامته بالزهادة) وقال رسول الله (ص) يوما لاصحابه: (ان القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد) قيل وما جلاءها يا رسول الله (ص)، قال (ص): (ذكر الموت وتلاوة القرآن).
أسأل الله تعالى ان ينور قلوبنا ويثبتها على الهدى ويسدد خطانا ويجري الخير على ايدينا لعباده انه ولي النعم.