الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى
بسمه تعالى
(الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى)[1]
من قصار كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في الموعظة قوله (عليه السلام) (الغنى والفقر بعد العرض على الله تعالى)[2] فالإمام (عليه السلام) يصحّح هنا بعض المقاييس التي نتعامل بها ونقيّم الأمور على أساسها ، ففي ثقافتنا واذهاننا ان الغني من ملك الأموال والعقارات والسيارات الفارهة ونحو ذلك وان الفقير من لا يوجد عنده ذلك حتى انه لا يستطيع سدَّ احتياجاته.
وهذا المفهوم صحيح بدرجة من الدرجات لكنه ليس حقيقياً لأن هذه الأموال زائلة والى نفاد فان صاحبها سيموت ويتركها خلفه، وبالعكس فقد تكون وبالاً عليه اذا جمعها من مصادر غير مشروعة أو صرفها في موارد غير مقبولة أو انه لم يخرج منها الحقوق المتعلقة بها لله تعالى كالخمس أو الزكاة أو للناس كردّ المظالم والديون وحينئذٍ سيتمنى دفع كل هذه الأموال مقابل تخليصه من العذاب الذي هو فيه، (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (الزمر:47) (لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ) (الرعد:18) و هذا ليس في الآخرة فقط، بل في الدنيا يشعر بعض الأثرياء بعذاب الباطن وألم الضمير لما اقترفت يداه من ظلم وغصب لحقوق الآخرين وقد يؤدي به هذا الى الانتحار.
وهنا يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) ان الغنى الحقيقي الدائم الذي يتعقبه الفوز والسعادة هو عندما تعرض اعمال العبد على الله تعالى يوم القيامة فيجد ميزانه ثقيلاً بالأعمال الصالحة الموجبة لرضا الله تبارك وتعالى، والفقير الحقيقي هو من خلت موازنية من اعمال تنجيه من النار وتوجب له الجنة (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ {6} فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ {7} وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ {8} فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ {9} وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ {10} نَارٌ حَامِيَةٌ {11}) (القارعة:6-11).
روي ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال يوماً لاصحابه (أتدرون من المفَّلس: إن المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى بها عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار)[3] .
والانسان العاقل اللبيب ذو البصيرة هو من يدرك هذه الحقيقة في الدنيا ويعمل على أساسها ولا تغريه أوهام الدنيا وإنما يعمل وفق المقاييس التي ترضي الله تبارك وتعالى، ولا ينتظر الآخرة ليكتشف هذه الحقيقة لأنه حينئذٍ لا يكون قادراً على تصحيح الأخطاء وإصلاح الخطايا والتبعات.
ويكون من توفيق الانسان ان يرزقه الله تعالى مالاً وفيراً من مصادره المحللة ويوفقه لإنفاقه في الموارد التي أمر الله تعالى بها وتوجب رضاه والجنة كمساعدة المحتاجين وتزويج الشباب المتعففين ونشر كتب الوعي والإصلاح والهداية وإعمار المساجد وغير ذلك فيكون قد جمع الله تعالى له خير الدنيا والآخرة، وادعية طلب الرزق تقيده بأن يكون من حلال (سعة في الحال من الرزق الحلال)[4] .
وإن بعض الذين يقومون بمشاريع كبيرة واسعة البركة قد لا يمتلكون مالاً كثيراً لكن الله تعالى يبارك لهم في انفاقهم والله ذو الفضل العظيم.
[1] - من حديث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) مع وفد من شباب البصرة ملتقى العلم والدين بتاريخ 16/ ذو الحجة / 1440 الموافق 18/8/2019
[2] - نهج البلاغة: الحكمة ٤٥٢
[3] - كنز العمال: 4/127 ح 10327 ، تاريخ بغداد: 4/242 ، تفسير القرطبي: 15/255 ، صحيح ابن حيان:16/359
[4] - من دعاء الامام السجاد (عليه السلام) ليوم الاربعاء