الشهيد الصدر الأول (قده) بين الابداع العلمي والأخلاقي والمواقف الخالدة

| |عدد القراءات : 3199
الشهيد الصدر الأول (قده) بين الابداع العلمي والأخلاقي والمواقف الخالدة
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

بسمه تعالى

الشهيد الصدر الأول (قده) بين الابداع العلمي والأخلاقي والمواقف الخالدة

الاثنين 2/شعبان/1440هـ

          8/ نيسان/2019م

استّهل سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بحثه الخارج بكلمة أبّن فيها المرجع الديني والمفكر الاسلامي السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) بمناسبة الذكرى التاسعة والثلاثين لاستشهاده (قدس سره).

وقد ذكر سماحته بكلمته التي القاها بجمع من طلبته بمكتبه في النجف الاشرف جملة من السمات الشخصية لمدرسة الشهيد الصدر (قدس سره) وملامح منهجه وطريقة تعاطيه مع التحديات حيث قال: 

لا ينبغي أن تمر ذكرى السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) دون ان نقف عندها ونأخذ الدروس والعبر منها.. وان كان الائمة المعصومون (عليهم السلام) هم مثلنا الأعلى، ولكن لعل بعض التجارب المحسوسة والتي تجسد سيرة المعصومين (عليهم السلام) وتكون نموذجاً لسيرتهم وطريقتهم (سلام الله عليهم) تكون أكثر تأثيراً وأقرب للاستفادة ومنها تجربة الشهيد الصدر (قدس سره) التي نحن بصددها.

فقد أقدم (قدس سره) على التضحية بكل وجوده المادي والمعنوي والاعتباري، وقد عقد صفقةً مع الله وباع نفسه لله واشتراها منه (جل وعلا)، ( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) (التوبة/ 111) وهذا هو مضمون العبارة التي قالها لأحد طلبته المقربين الذي اعتقل معه عام 1979 وكان مقيداً معه يداً بيد في نفس الزنزانة عندما رآه مذعوراً مرتبكاً لأنه (قدس سره) يعتقد بأن الامة آنذاك قد دخلت التّيه وفقدان الارادة بل ماتت الارادة فيها فلا ينفع معها شيء ليستنهضها ويستثيرها ويوقظ ضميرها إلا الدماء الزاكية، وكانت الاجواء مصطبغة بنفس لون الأيام التي سبقت ثورة الامام الحسين (عليه السلام) حيث عمد السلوك الاموي الممنهج الى استعباد الأمة وسلب كرامتها وحريتها .. فكان العلاج هو الفداء والتضحية.. فعزم (قدس سره) على المضي في طريق الشهادة، وكان يشفق على العلامة الشيخ محمد رضا النعماني حينما وجده يكثر من الادعية والأوراد والزيارات (لشدة حبه وحرصه على مرجعه) أملاً بأن ينجيه الله تعالى من السلطّة الظالمة.. ألّا أنه كان عازما على التضحية بنفسه لإنعاش الحياة في جسد الامة وضميرها.

ولفت سماحته (دام ظله) الى ان الشهيد الصدر (قدس سره) عاش بكلّه للإسلام ولإعلاء كلمة الله تعالى وكان همّه المشروع الإلهي ونشر الدين الاسلامي ولم يعش لنفسه ابداً ولم يهتم بشؤونه الخاصة وكان مهتماً بإيصال صوت الاسلام الى اقصى بقاع العالم، وسعى (قدس سره) لأقناع كل العالم بالإسلام وتقديمه كنموذج لقيادة الامة وكمشروع متكامل لإدارة الحياة وتلبية كل احتياجات الانسان المشروعة ومعالجة تطورات الحياة فكتب في سنيّه الاخيرة كتابه (الاسلام يقود الحياة).. وكان مخلصاً لله تعالى ذائباً فيه (جل وعلا) فلم تكن للدنيا قيمة عنده بالرغم من اقبالها عليه وهو في ذروة مجده لأن مرجعيته قد اتسعت وتجاوزت حدود العراق وألتف حولها الشباب الجامعي والمثقفون ونخب المجتمع.. حيث نقل (قدس سره) مدينة النجف الى واجهة الاحداث وأصبحت محط أنظار الدولتين العظمتين اللتين تسيّدتا العالم بعد ان ألّف كتابيه (اقتصادنا) و(فلسفتنا) فلفت انظار المفكرين والفلاسفة والاقتصاديين.. لكنه زهد بهذا كله واستهان بهذه الدنيا حينما وجد ان واجبه يحتم عليه ان يضحي فأقدم على التضحية ولم يخلق لنفسه المبررات كي يتقاعس عن واجبه فكانت تضحيته بنفسه وكيانه الاعتباري ووجوده المعنوي وكل ما كان يتمتع به من امتيازات.

واضاف سماحته (دام ظله): لقد أُلّفت الكثير من الكتب عن الشهيد الصدر (قدس سره) واستوعبت الكثير من فصول سيرته المباركة ولا ادعي أني أستطيع ان أقدم شيئاً جديداً في كلماتي هذه وانما اقولها للتذكير ولنستشعر مسؤولياتنا ونذكّر أنفسنا بالمهام التي ينبغي ان نقوم بها.

فقد كان (قدس سره) يسبق الاحداث ويستشعر التحدي والخطر المحدق واراد ان يبين إن الاسلام ليس قادراً على مواجهة التحدّي فحسب بل قادراً على ان يقدم مشروعاً متكاملاً ليس فيه ثغرات ونقائص كما في المشاريع الاخرى المطروحة على الساحة لذلك إنبرى (قدس سره) في نهاية الخمسينيات حينما كان التحدي الايدلوجي في أوجه مع الفكر الشيوعي وكان المذهب المادي هو الطاغي على الاجواء آنذاك فانبرى (قدس سره) لتأليف كتابيه (فلسفتنا واقتصادنا).

 ولكي يبّين ان الاسلام قادر على تقديم نظرية متكاملة وليقنن العمل المالي والمصرفي كتب (البنك اللاربوي) وأرسله الى المؤتمر الذي دُعي للمشاركة فيه.

وعند تصاعد احداث الثورة الاسلامية في إيران كتب (المعالم العامة لدستور الجمهورية الاسلامية) ولم يكن السيد الخميني (قدس سره) قد وصل الى إيران بعد، فكان يسبق الأحداث فحينما يطالب المتظاهرون بحكومة الاسلام فلابد حينئذٍ يكون الدستور الاسلامي حاضراً بين ايديهم وتكون معالم المشروع الاسلامي واضحة لديهم.. لقد كان (قدس سره) بمستوى التحدي والموقف المطلوب.

وتابع سماحته: وهذه هي بعض مهام الحوزة العلمية فنحن حينما نقول ان الاسلام دين متكامل يصلح للبشرية في كل زمان ومكان الى قيام الساعة ـ وهذا المعنى صحيح اكيداً ـ لكنه ليس مجرد لقلقة لسان وانما ينبغي ان نستشعر المسؤولية ونعيش التحدي ونلحظه في مفاصل حياتنا وان نطرح رأي الاسلام، وحكم الاسلام في كل التحديات التي تواجهنا، وعلينا ان نبيّن موقف الاسلام إزاء كل مشكلة تواجه البشرية، فكرية كانت أو عقائدية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها من المشاكل.. وخاصة نحن الامامية باعتبار ان باب الاجتهاد مفتوح عندنا.

وهذه هي جملة من ملامح وخصائص مدرسة الوعي والاصلاح التي ينتمي اليها عدد من الجهابذة والاساطين وكان (قدس سره) ألمع اسم فيها حيث كان يصفه الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) بانه (اعلم الاولين والاخرين بعد الامام المعصوم (عليه السلام) هكذا كان يقيّمه (قدس سره).

وفي نفس السياق أكد سماحته ان الانتماء الى مدرسة الوعي والاصلاح لا يعني ان ننشغل بهما وننسى مسؤولياتنا الأخرى التي هي قوام الاجتهاد وقوام الحوزة والمسلك العلمي الرصين.. لأنه (قدس سره) كان رائداً مبدعاً في ميدان العلوم الحوزوية ايضاً.. ونظرياته العلمية لا زالت بكراً تحتاج الى الكثير من النظر والتحقيق وناقش اساطين العلم في المدرسة الاصولية (الاصفهاني والعراقي والنائيني قدست اسرارهم) ولم يكتف (بحسب مقتضى السيرة العلمية) بمناقشة آراء آخر جيل من الأساتذة المحققين أعني (السيد الخوئي قدس سره) والذي انتهت اليه المدرسة الاصولية بحسب التسلسل الزمني فتناول (قدس سره) كل المجالات الاخرى التي لها دخل في مسؤولية الحوزة العلمية.

ودعا سماحته (دام ظله) الحوزة العلمية الى استشعار مسؤولياتها والى التعاضد والتآزر لمواجهة التحديات وملئ الفراغ الذي تركه الشهيد الصدر (قدس سره) فأنه وان كان فذاً متفرداً في علمه وذكائه ونبوغه وتعذر علينا ان نكون مثله (قدس سره) بكل صفاته ومميزاته وخصائصه لكن نستطيع ان نكون بمجموعنا محمد باقر الصدر وان نؤدي دوره (قدس سره) فليملأ أحدنا هذه الجهة والآخر تلك الجهة ونتعاون على القيام بالدور المطلوب.. فلقد كان (قدس سره) متسامياً في اخلاقه ونكران ذاته يستشعر حاجتنا الى الوحدة والى ان يتكامل دورنا بدلاً من التقاطع.. فساحة العمل الاسلامي واسعة وتحتاج الى الكثير من العمل ولا نستطيع بمجموعنا وبأضعاف عددنا ان نملأها، فلماذا التقاطع اذن؟

في ذات السياق عبّر سماحته عن أسفه وألمه لما ينتاب العمل الاسلامي من منغصات ناتجة عن تقاطعات لا طائل دونها.. واستشهد (دام ظله) بالمحاضرة التي ألقاها الشهيد الصدر (قدس سره) وذكر فيها الموعظة عن الدنيا.. دنيا هارون فقال (قدس سره) :( من مّنا عُرضت عليه دنيا هارون ولم يقتل موسى بن جعفر (عليها السلام)). ومن الواضح انه لم يكن يقصد السياسيين والمسؤولين الموجودين في ذلك الوقت (ولم يكن قد ابتلى أحد من أوساطنا بالسلطة والحكم يومئذٍ) فقد كانت مقاليد السلطة بيد حزب البعث وصدام الملعون.. وانما كان يقصد الذين يخوضون في الصراعات المشار اليها وهم من داخل الإطار الذي نحن فيه.

وفي ختام كلمته أكد سماحته على وحدة الصف وان نربأ بأنفسنا عن الخوض بهذه الصراعات والولوج بهذه المتاهات.. وان نتخذه مثالاً وقدوةً كما كان (قدس سره) متسامياً على الجراح التي تنال منه وعلى التسقيط والتشويه الذي كان يعاني منه والافتراءات والتهم التي كانت تكال ضده.. فبالرغم من كل هذه الآلام تجده مترفعاً عن كل ذلك ولا يرد على احدٍ من الذين اتهموه والذين آذوه.. كان عارفا ً بمسؤولياته وبما يجب عليه فعله.. وكان ينشر المحبة والرحمة على الاخرين ولم يكن مهتماً بنفسه قط، وبرغم من مرور اربعة عقود تقريبا على استشهاده (قدس سره) فانه لا يمكن ان يموت او يندثر.. فلا زال حياً معطاءً بآثاره وعلمه واخلاقه ومواقفه وكأنه حاضراً بيننا وهذا الذكر الدائم والحياة المستمرة في عقول وقلوب المؤمنين ليس امراً اعتباطياً وانما هي مصداق لقوله تعالى{إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] والحمد لله رب العالمين وصل الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين