دروس من رواية سجّادية
بسمه تعالى
دروس من رواية سجّادية [1]
في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السلام): قال أبو محمد الحسن العسكري (عليه السلام) (جَاءَ رَجُلٌ يَوْماً إِلَى عَلِيِّ ابنِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) بِرَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُ أَبِيهِ فَاعْتَرَفَ، ــ والظاهر ان القتل عمدي واعترف الجاني على نفسه ــ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ، وَ سَأَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ ــ أي طلب الامام من ولي الدم العفو عن الجاني ــ لِيُعْظِمَ اللَّهُ ثَوَابَهُ، فَكَأَنَّ نَفْسَهُ ــ أي ولي الدم ــ لَمْ تَطِبْ بِذَلِكَ ــ أي ان نفسه لم تطاوعه لإسقاط حقه في القصاص ــ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) لِلْمُدَّعِي- وهو وَلِيِّ الدَّمِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْقِصَاصِ ــ : "إِنْ كُنْتَ تَذْكُرُ لِهَذَا الرَّجُلِ عَلَيْكَ حَقّاً فَهَبْ لَهُ هَذِهِ الْجِنَايَةَ، وَ اغْفِرْ لَهُ هَذَا الذَّنْبَ".
قَالَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله، لَهُ عَلَيَّ حَقٌّ، وَ لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْ (بِهِ) أَنْ أَعْفُوَ لَهُ عَنْ قَتْلِ وَالِدِي. قَالَ: "فَتُرِيدُ مَا ذَا"؟
قَالَ: أُرِيدُ الْقَوَدَ ــ أي القصاص ولم يتنازل عن حقه ــ، فَإِنْ أَرَادَ ــ أي الجاني ــ لِحَقِّهِ عَلَيَّ أَنْ أُصَالِحَهُ عَلَى الدِّيَةِ صَالَحْتُهُ وَعَفَوْتُ عَنْهُ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): "فَمَا ذَا حَقُّهُ عَلَيْكَ"؟
قَالَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): لَقَّنَنِي تَوْحِيدَ اللَّهِ وَنُبُوَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، وَإِمَامَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالْأَئِمَّةِ (عليهم السلام) ــ أي انه سبب هدايتي وصلاحي والتزامي بالدين وتعليمي العقائد والاحكام الشرعية ــ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): "فَهَذَا لَا يَفِي بِدَمِ أَبِيكَ! بَلَى وَاللَّهِ، هَذَا يَفِيَ بِدِمَاءِ أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ- مِنَ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ سِوَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ عليهم السلام إِنْ قُتِلُوا فَإِنَّهُ لَا يَفِي بِدِمَائِهِمْ شَيْءٌ ــ وفيه تعريض بطواغيت بني أمية ثم خاطب الجاني ــ أَوَ تَقْنَعُ مِنْهُ بِالدِّيَةِ"؟
قَالَ: بَلَى. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) لِلْقَاتِلِ ــ الذي لم يكن يملك مقدار الدية ــ "أَفَتَجْعَلُ لِي ثَوَابَ تَلْقِينِكَ لَهُ حَتَّى أَبْذُلَ لَكَ الدِّيَةَ فَتَنْجُوَ بِهَا مِنَ الْقَتْلِ"؟
قَالَ ــ أي القاتل رافضاً هذا العرض لحاجته إلى الثواب الذي ذكره الامام (عليه السلام) ــ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه و آله)، أَنَا مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا، وَ أَنْتَ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا فَإِنَّ ذُنُوبِي عَظِيمَةٌ، وَ ذَنْبِي إِلَى هَذَا الْمَقْتُولِ أَيْضاً بَيْنِي وَ بَيْنَهُ، لَا بَيْنِي وَ بَيْنَ وَلِيِّهِ هَذَا.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): "فَتَسْتَسْلِمُ لِلْقَتْلِ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ نُزُولِكَ عَنْ ثَوَابِ هَذَا التَّلْقِينِ"؟ قَالَ: بَلَى يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ.
فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ: "يَا عَبْدَ اللَّهِ قَابِلْ بَيْنَ ذَنْبِهِ هَذَا إِلَيْكَ، وَ بَيْنَ تَطَوُّلِهِ ــ أي فضله ــ عَلَيْكَ) ثم قارن الامام (عليه السلام) بين جريمة القاتل وثواب العفو عنه أداء لحق الهداية فقال (عليه السلام) (قَتَلَ أَبَاكَ فَحَرَمَهُ لَذَّةَ الدُّنْيَا، وَ حَرَمَكَ التَّمَتُّعَ بِهِ فِيهَا، عَلَى أَنَّكَ إِنْ صَبَرْتَ وَ سَلَّمْتَ فَرَفِيقُ أَبِيكَ فِي الْجِنَانِ، وَ لَقَّنَكَ الْإِيمَانَ فَأَوْجَبَ لَكَ بِهِ جَنَّةَ اللَّهِ الدَّائِمَةَ، وَ أَنْقَذَكَ مِنْ عَذَابِهِ الدَّائِمِ، فَإِحْسَانُهُ إِلَيْكَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ جِنَايَتِهِ عَلَيْكَ) ثم عرض (عليه السلام) على الجاني خيارين فقال (فَإِمَّا أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُ جَزَاءً عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْكَ! لِأُحَدِّثَكُمَا بِحَدِيثٍ مِنْ فَضْلِ (رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه و آله) خَيْرٌ لَكُمَا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا، وَ إِمَّا أَنْ تَأْبَى أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُ حَتَّى أَبْذُلَ لَكَ الدِّيَةَ لِتُصَالِحَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ أُحَدِّثُهُ بِالْحَدِيثِ دُونَكَ، وَ لَمَا يَفُوتُكَ مِنْ ذَلِكَ الْحَدِيثِ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا لَوِ اعْتَبَرْتَ بِهِ". فَقَالَ الْفَتَى: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ: قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ بِلَا دِيَةٍ، وَ لَا شَيْءٍ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ لِمَسْأَلَتِكَ فِي أَمْرِهِ، فَحَدِّثْنَا يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ بِالْحَدِيثِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (عليه السلام): "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه و آله لَمَّا بُعِثَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً[2]. إلى آخر الحديث المذكور في أبواب معجزاته (صلى الله عليه وآله وسلم) من كتاب البحار وفي تفسير العسكري.
وفي الرواية دروس عديدة نستلهمها من سيرة الامام السجاد (عليه السلام) لنعلم أن في حياته المباركة الكثير مما نستطيع التأسي فيه فندعوا الخطباء إلى تقديم هذا العطاء المبارك للإمام السجاد (عليه السلام) وعدم الاقتصار على ذكر مظلوميته والأذى الذي تعرض له وإن كان مما لا تصمد الجبال امامه، ومن هذه الدروس:
1- إشاعة ثقافة العفو والتسامح واسقاط الحقوق ما دام الجاني مستحقاً لذلك ويشمل العفو حتى قاتل أبيه، ما دام الجاني ليس ممتهناً للجريمة وإنما صدر الفعل منه بسبب غفلة أو عصبية أو استعجال ونحو ذلك اما الممتهن للجريمة والذي لا يبالي بحقوق الناس وكرامتهم فتكون العقوبة مفيدة لردعه وتأديبه وإقامة القانون والنظام (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ) (البقرة:179).
2- ان تكون منصفاً للآخرين وتشهد لهم بحقهم وان كانوا خصوماً لك وتسبّبوا في ايذائك، فولي الدم لم يتوقف عن الشهادة للجاني بالحق مع انه قاتل أبيه، قال تعالى (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة:8) وان تبقى دائماً متذكراً لإحسان الآخرين إليك ولا تتقاعس عن مجازاة احسانهم وفي الحديث الشريف (انسى اثنين : إحسانك إلى الغير وإساءة الغير اليك، واذكر اثنين: أساءتك إلى الغير وإحسان الغير اليك ) [3] .
3- السعي للإصلاح بين المتخاصمين بلا كلل ولا ملل وتقديم كل العروض والخيارات التي تجلبهم إلى الصلح حتى لو اقتضى الأمر بذل المال منك إن قدرت عليه كما فعل الامام السجاد (عليه السلام) فانه مما يعظم ثوابه عند الله تعالى وهو برُّ في موضعه، روي في الكافي بسنده عن ابي حنيفة سابق الحاج قال: مرَّ بنا المفضلّ وانا وختني ــ أي نسيبي ــ نتشاجر في ميراث فوقف علينا ساعة ثم قال لنا تعالوا إلى المنزل فأتيناه فأصلح بيننا بأربعمائة درهم فدفعها إلينا من عنده حتى إذا استوثق كل واحد منا من صاحبه، قال: أما إنها ليست من مالي ولكن أبو عبد الله ــ أي الصادق (عليه السلام) ــ أمرني إذا تنازع رجلان من أصحابنا في شيء أن أصلح بينهما وأفتديها من ماله، فهذا من مال أبي عبد الله (عليه السلام) [4] .
4- ان تتصف بعلو الهمة وطلب معالي الأمور ولا تقنع بالأمور المادية الزائلة فولي الدم كان ناوياً من أول الأمر العفو عن الجاني ابتغاء وجه الله تعالى ولتوسط الامام السجاد (عليه السلام) كما يظهر من جوابه الأخير الا أنه كان يريد عطاءاً معنوياً من الامام السجاد (عليه السلام) لذا أجلّ الاستجابة إلى حين وصوله إليه.
5- عظمة النعمة التي حبانا الله تعالى بها وهي الايمان بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتمسك بولاية أهل البيت (عليهم السلام) فلابد من الثبات عليها وعدم التخلي عنها مهما كانت الضغوط والمغريات، وبنفس الوقت نعرف عظمة ثواب تعليم الناس العقائد واحكام الشريعة وأخلاق الإسلام وهداية الناس إليها بحيث ان تعليم شخص واحد هذه الأمور توجب له اسقاط جناية قتل الناس جميعاً من الاولين والآخرين.