ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ
بسم الله الرحمن الرحيم
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ)[1] (محمد:11)
المولى بمعنى الولي الذي له ولاية ما خاصة كولاية السيد على العبد او عامة كولاية الله تعالى على خلقه في التصرف والتدبير وله سبحانه ولاية التشريع وهداية العباد إلى ما يصلح شؤونهم، والظاهر انها هنا تشير الى ولاية النصر والتأييد.
والآية تبين واحدة من ثمرات الايمان بالله تعالى وأحد الفروق بين المؤمنين وغيرهم وهو ان للمؤمنين مولى ورباً. يرعاهم ويدبر شؤونهم ويهديهم وينصرهم ويسدّدهم ويرشدهم ويشفق عليهم ويرحمهم بالرحمة والرعاية الخاصة (أما الولاية العامة فشاملة لجميع المخلوقات) قال تعالى (وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ) (يونس:30).
أما غير المؤمنين بالله تعالى سواء كانوا من المنكرين للخالق والملحدين والمشركين الذين يعبدون آلهة أخرى من دون الله تعالى - وهو عنوان يشمل في بعض مراتبه الذين هم مسلمون بحسب العنوان الا أنهم عملياً لا يعبدون الله تعالى وإنما يطيعون شهواتهم ونزواتهم وغرائزهم وما تدعوه إليه انانيتهم ويقدّسون رموزاً ويطيعونها من دون عرض أفعالهم على ما يريده الله تعالى ويرضاه - فهؤلاء قد يكون لهم مولى وناصر ومعين من سلطة أو عشيرة أو مال أو جاه أو حزب أو قوى خارجية يسمونها بالعظمى أو غيرها كقول المشركين للمسلمين يوم أحد (( لنا العّزى ولا عزى لكم)) فاجابهم المسلمون ( الله مولانا ولا مولى لكم )) الا أن الآية الكريمة تعتبر هؤلاء الموالي أوهاماً لا قيمة لها وتنفي وجودهم على نحو الحقيقة (وان الكافرين لَا مَوْلَى لَهُمْ) فكأنهم لاشيء وهم كذلك، قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ) (العنكبوت:41) واذا أثبتت آيات أخرى ولاية لهؤلاء فأنما هي ولاية الاغواء والاضلال والافساد (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:27) (وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ) (الأعراف:202) (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:257).
فمن لم يكن مولاه ومعبوده ومطاعه الله تعالى فان الهه هواه والشيطان شاء ام ابى (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) (الفرقان : 43) وان اعطى عناوين محببّه لها كأن يسمّون اتباع الاهواء الشخصية غير المنضبطة بالحرية وهي في الحقيقة عبودية للهوى. ويذكر القرآن الكريم الفرق بين المنهجين في الطاعة والاتباع كقوله تعالى (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة : 268]
ولتقريب هذا الفرق بين الولايتين تصوّر وجود أطفال لهم أب يربّيهم ويرشدهم ويصرف عليهم ويرعاهم ويدافع عنهم ويوفّر لهم أسباب الحياة الكريمة وأطفالاً آخرين أيتاماً ليس لهم من يعيلهم فهم في ضياع واحتياج وحرمان قد سقطوا في حبال عصابة شريرة مفسدة فاستخدمتهم لأغراضها الشيطانية، مع ان حاجتنا إلى رعاية الله تعالى لا تقارن بحاجة الأطفال إلى أبيهم أو أمهم.
وتبين الآية التالية محل البحث النتيجة التي سيؤول إليها أمر الفريقين (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) (محمد:12).
ومظاهر هذه الولاية الإلهية في حياة الانسان لا تعد ولا تحصى، نجد في دعاء الافتتاح بياناً لجوانب منها (فَكَمْ ياإِلهِي مِنْ كُرْبَةٍ قَدْ فَرَّجْتَها، وَهُمُومٍ قَدْ كَشَفْتَها، وَعَثْرَةٍ قَدْ أَقَلْتَها، وَرَحْمَةٍ قَدْ نَشَرْتَها، وَحَلْقَةِ بَلاٍ قَدْ فَكَكْتَها) [2].
ومن مظاهر هذه الولاية الإلهية للناس انه تعالى أنزل لهم شريعة سمحاء تتكفل بسعادتهم في الدنيا وفلاحهم في الآخرة، وهذه الولاية يتنعمون فيها وبها حتى وهم في أشد الظروف قسوة ولعلهم يجدون في أنفسهم شيئاً لأن الله تعالى لم يستجب لدعائهم (فَإنْ أَبْطاء عَنِّي عَتِبْتُ بِجَهْلِي عَلَيْكَ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَبْطَاءَ عَنِّي هُوَ خَيْرٌ لِي لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الاُمُورِ) فأنه تبارك وتعالى لم ولن يتخلى عنهم ولا يخلفهم وعده (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (الشرح:5) ولكن التأخير لمصلحتهم أما في الدنيا أو في الآخرة، بينما يتخبط غير المؤمنين بقوانين وأنظمة تجلب لهم الشقاء والتعاسة.
وهذه الولاية الإلهية مستمرة في الحياة الدنيا وفي الآخرة ما بعد الموت، قال تعالى (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) (إبراهيم:27) وقال تعالى (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51) وقال تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (يونس:63-64) .
واذكر لكم مثالا على ولاية الله الشفيقة بعباده بعد الموت (روي أن موسى عليه السلام لما دفن أخاه هارون عليه السلام ذكر مفارقته له وظلمة القبر فأدركته الشفقة فبكى فأوحى الله تعالى إليه ( ياموسى لو أذنتُ لأهل القبور أن يخبروك بلطفي بهم لأخبروك ياموسى لم أنسهم على ظاهر الأرض أحياء مرزوقين أفأنساهم في باطن الارض مقبورين ؟ ياموسى إذا مات العبد لم أنظر إلى كثرة معاصيه ولكن أنظر إلى قلة حيلته ) فقال موسى عليه السلام : يارب من اجل ذلك سُمّيت أرحم الراحمين ؟) [3]
وفي المناجاة الشعبانية لأمير المؤمنين (عليه السلام) (إِلَهِي لَمْ يَزَلْ بِرُّكَ عَلَيَّ أَيّامَ حَيَاتِي فَلاَ تَقْطَعْ بِرَّكَ عَنِّي فِي مَمَاتِي) أما البعيدون عن الله تعالى على اختلاف اشكالهم فأنهم حرموا أنفسهم من هذه الولاية الإلهية الخاصة (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل:118) ومع ذلك فان الله تعالى لم يتخلى عنهم ولم يمنعهم من رحمته الواسعة (يا من يعطيّ من لم يسأله ومن لم يعرفه تحنناً منه ورحمة) وبدلاً من ان يشعرهم هذا بالخجل والحياء من رب العالمين ويدعوهم إلى العودة إليه سريعاً فأنهم يتمادون في غيّهم وعصيانهم وابتعادهم عنه تبارك وتعالى (فَلَمْ أَرَ مَوْلىً كَرِيماً أَصْبَرَ عَلى عبْدٍ لَئِيمٍ مِنْكَ عَلَيَّ يارَبِّ، إِنَّكَ تَدْعُونِي فَأُوَلِّي عَنْكَ، وَتَتَحَبَّبُ إِلَيَّ فَأَتَبَغَّضُ إِلَيْكَ، وَتَتَوَدَّدُ إِلَيَّ فَلا أَقْبَلُ مِنْكَ، كَأَنَ لِيَ التَّطَوُّلَ عَلَيْكَ، فَلَمْ يَمْنَعْكَ ذلِكَ مِنَ الرَّحْمَةِ لِي وَالاِحْسانِ إِلَيَّ، وَالتَّفَضُّلِ عَلَيَّ بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ، فَأرْحَمْ عَبْدَكَ الجاهِلَ، وَجُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ إِحْسانِكَ إِنَّكَ جَوادٌ كَرِيمٌ) [4] فليعتز المؤمنون بهذه النعمة الإلهية العظيمة وليقولوا كما قال الامام الحسين ( عليه السلام) في دعاءه يوم عرفة مفتخرا برّبه العظيم ((ماذا وجد من فقدك وما الذي فقد من وجدك)) وليجدّوا ويجتهدوا في دعوة غيرهم إليها (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (الضحى:11) ولتكن دعوتهم برفق ولين وحجة وبرهان (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل:125).
[1] - الخطبة الأولى لصلاة عيد الفطر السعيد لعام 1439 الموافق 15 / 6 / 2018
[2] - فقرات من دعاء الافتتاح الذي يقرأ في ليالي شهر رمضان المبارك
[3] - لم نجد الرواية في مصدر معتبر في حدود ما بحثناه
[4] - فقرات من دعاء الافتتاح الذي يقرأ في ليالي شهر رمضان المبارك