وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ / الاستعاذة بالله تعالى من شياطين الجن والانس
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (فصلت:36)
الاستعاذة بالله تعالى من شياطين الجن والانس [1]
ومثلها قوله تعالى (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأعراف:200) الا انهما تختلفان في ان الآية عنوان البحث ظاهرة في الحصر بأن الله تعالى وحده هو الذي يسمع استعاذتك واستجارتك وهو العليم الذي يعلم بحاجتك واضطرارك بينما اكتفت آية الأعراف بالوصف دون الحصر، ولذا يستحب [2] ذكر هذين الاسمين من الأسماء الحسنى في الاستعاذة فتقول مثلاً (اعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم).
والنزغ يعني الضغط بطرف قضيب او الاصبع بعنف مؤلم واستعمل هنا بمعنى الوسوسة الباعثة على الشر لذا عرّفه الراغب وغيره بأنه الدخول في الامر لإفساده قال تعالى (إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) (الإسراء:53) وقال تعالى (مِن بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) (يوسف:100).
فالآية الكريمة ترشد الانسان إلى انه اذا تعرض لتسويل من النفس الامارة بالسوء وتزيين من الشيطان او اغراء من الآخرين او هيجان للشهوة او غريزة الغضب فليستعذ بالله تعالى خاصة دون غيره ويطلب منه بصدق ان يحميه من الزيغ والانحراف والاستجابة لدعوة الشيطان, ولا يتهاون بالأمر ويترك الاستعاذة والاحتراز، وأن لا يتكل على قدراته الذاتية في الاعتصام من الذنوب والاخطاء كما يتصور بعض المعتًدين بأنفسهم ويجازف احياناً ويصل الى حدود الذنب ــ كمجالسة الفسّاق أو الخلوة بالأجنبية ــ ولا يمتنع من ان يحوم حول حدود المعصية معتمداً على ثقته بانه قادر على أن يملك زمام نفسه والامتناع من الوقوع فيها، ولا يعلم أنه بمفرده عاجز عن مواجهة الشيطان الخبيث الماكر الطامع، فيجب عليه بمقتضى الآية الكريمة اتخاذ اجرائين عندما تسوِّل له نفسه امراً ويزيّنه الشيطان ويتحرك فيه داعي المعصية والباعث نحو الشر: أولهما الاستعاذة (فَاسْتَعِذْ) وثانيهما أن تكون (بِاللَّهِ).
يضرب بعض أهل المعرفة مثالاً ليقرًب الفكرة فيقول لأحد تلاميذه لو أنك كنت في طريق زراعي وكان هناك قطيع من الغنم يرعاه صاحبه ومعه كلب الحراسة فنبح عليك الكلب وأراد مهاجمتك فماذا ستفعل؟ قال: ألتقط حجراً وأرميه به لزجره, قال المعلم فلو لم يرتدع الكلب وعاد الى النباح والمهاجمة قال الطالب أرميه بآخر قال المعلم فأن لم ينفع ذلك ثانيةً وثالثة , فسكت الطالب , وهنا قال المعلم : أما كان الاجدر بك أن تطلب من الراعي ليبعد الكلب عن طريقك فإنه قادر على توجيهه ويأتمر بأمره .
وتقريب الفكرة إننا لا نملك القدرة لوحدنا على مواجهة مكائد الشيطان وخدعه وتسويلاته ووسوسته إلا أن نستعيذ بالله تعالى القادر عليه والماسك بزمام أمره.
روي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) قوله ( اذا وسوس الشيطان الى أحدكم فليستعذ بالله وليقل : آمنت بالله مخلصاً له الدين )[3].
وروى الحاكم بسنده عن سليمان بن صرد قال (استبّ رجلان عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأشتد غضب احدهما فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب: اعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل: امجنون [4] تراني؟ فتلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ)[5].
ولابد ان نلتفت الى ان الاستعاذة المنتجة والمؤثرة ليست مجرد لقلقة لسان بل هي حالة معنوية لابد فيها من حضور الذكر في القلب والتقوى في النفس والإخلاص في العمل، اما من كان باطنه ملوثاً فلا ينفعه تحريك اللسان بالاستعاذة، لاحظ قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ) (الأعراف:201) أي ان ذهاب مس الشيطان متوقف على التذكر، فهذه الآية مشابهة لما نحن فيه وعبرت عن النزغ بالمس ومن المقابلة يعرف ان الاستعاذة تلزم التذكر بأن تذكروا نعمة الله عليهم واستحقاق الشكر عليها وتذكروا العاقبة الوخيمة لاتباع الشيطان في الدنيا والآخرة وتذكروا تفاهة ما يمنيهّم الشيطان به وان بدا مغرياً لذيذا فبهذا الذكر والحضور الوجداني لله تعالى وهذه القوة المعنوية الحاصلة له يعصمه الله تعالى من الشيطان والتي تنتجها الاستعاذة لكن ليس مجرد الكلمات الخالية من المعاني.
الا ترى ان من هاجمه حيوان مفترس فانه لا يتخلص منه بان يقف مكانه ويقول بلسانه اعوذ بهذا المكان الحصين من هذا الحيوان بل عليه ان يدخله ويغلق بابه بإحكام لينجوا، وقد وعد تعالى من يستعيذ به بالنجاة من مكائد الشيطان، قال تعالى (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (النحل:99-100) وقال تعالى (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص:82-83) وقال تعالى (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) (الإسراء:65).
ويظهر من هذه الآيات الكريمة أن أهم شروط الاستعاذة المؤثرة الإخلاص: وفي الحديث القدسي (لا إله الا الله حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي) [6] فالإخلاص في التوحيد ونفي سائر المعبودات غير الله تعالى فلا طاعة للهوى ولا للشهوة ولا لذوي النفوذ والجاه وأصحاب الأموال وانما لله تعالى وحده فهذا هو الحصن الذي يحمي من العذاب ومكائد الشيطان والإخلاص له مراتب فيتخلص من شر الشياطين بنفس مقدار إخلاصه
ومن شروطها: الايمان والتقوى والتوكل على الله تعالى وحده دون غيره من الأسباب واستشعار معنى العبودية لله تعالى وأداء استحقاقاتها كما نطقت به الآيات المتقدمة وغيرها.
هذا من جانب الأمور القلبية، وهناك إجراءات محصّنة على صعيد العملي ففي الحديث عن الامام الصادق (عليه السلام) قال (قال ابليس: خمسة ليس لي فيهنّ حيلة وسائر الناس في قبضتي: من اعتصم بالله عن نية صادقة، واتكلَّ عليه في جميع اموره، ومن كثر تسبيحة في ليله ونهاره، ومن رضي لأخيه المؤمن بما يرضاه لنفسه، ومن لم يجزع على المصيبة حين تصيبّه، ومن رضي بما قسم الله له ولم يهتمّ لرزقه) [7]. وروى الامام الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا أخبركم بشيء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كما تباعد المشرق من المغرب؟ قالوا: بلى، قال: الصوم يسوِّد وجهه، والصدقة تكسر ظهره، والحب في الله والمؤازرة على العمل الصالح يقطعان دابره، والاستغفار يقطع وتينه) [8].
فهذه الشروط والملكات الباطنية التي تبرزها مثل هذه الاعمال الصالحة تجعل الحالة المعنوية قويّة وعصيّة على اختراق الشيطان. لان الوساوس الشيطانية كالجراثيم الضارة لا تخترق الا الابدان الضعيفة ذات المناعة القليلة ولا تقدر على اختراق الابدان القوية ذات المناعة العالية.
أيها الأحبة:
اننا مطالبون بالاستعاذة من الشيطان على الدوام لأنه توعدّ البشر بالقعود على الصراط (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف:16) لحرفهم عن الاستقامة أو ردّهم ومنعهم من السير نحو الكمال كقطّاع الطرق ولا يدع الانسان حتى يجعله من اتباعه بلا فرق بين شياطين الجن والانس فان دأبهم صد البشر عن التقرب من الله تعالى (وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً) (النساء:60) (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ) (المائدة:91).
وتتأكد الحاجة إلى الاستعاذة اليوم اكثر، لأنّ زماننا اعقد من أي زمان مضى في كثرة ابتلاءاته وتحدياته وصعوباته وتنوع ادواتها واساليبها وقوة تأثيرها الفائقة، وقد توعدّ شياطين الأنس بإيصال آلات الافساد والضلال الى داخل غرف النوم ولا يوجد احد بمنأى منها الا من تحصّن بدرع الله تعالى الحصينة، لذا تركّز الادعية المباركة على طلب العصمة من الذنوب والقدرة على النجاح في تجاوز المحن والصعوبات من الله تعالى وعدم الاتكال على النفس والقدرات الذاتية، كدعاء الامام السجاد (عليه السلام) في صحيفته المباركة (اللهم احْصُرْنِي ــ أي امنعني ــ عَن الذُّنُوبِ، وَوَرِّعْنِي عَنِ الْمَحَارِمِ، وَلا تُجَرِّئْنِي عَلَى الْمَعَاصِي) وفي دعاء اخر قال (عليه السلام) (وَ أَوْهِنْ قُوَّتَنَا عَمَّا يُسْخِطُكَ عَلَيْنَا وَ لَا تُخَلِّ فِي ذَلِكَ بَيْنَ نُفُوسِنَا وَ اخْتِيَارِهَا، فَإِنَّهَا مُخْتَارَةٌ لِلْبَاطِلِ إِلَّا مَا وَفَّقْتَ، أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمْتَ) [9] تصوّروا ان الامام (عليه السلام) الذي يقول في دعاء آخر (لا تؤدّبني بعقوبتك) أي اجعل تأديبك ايايّ من دون بلاء وسلب للنعم كأن يكون بالموعظة والتعليم والتبصّر والاستفادة من تجارب الآخرين، لكن لما لم تفلح هذه الأساليب في الردع عن المعصية يطلب الاجتناب عنها ولو بسلب بعض القوى والأدوات التي يعصي بها الانسان ربّه المنعم.
لقد تفتقت الذهنيات الشيطانية عن خطط ماكرة وخبيثة لاستدراج الشخص وايقاعه في فخ المعاصي والخطايا والذنوب كالاتصال بأجهزة النقال مع نساء لا على التعيين وخداعهن بكلمات الحب والمشاعر العاطفية الجياشة التي تنطلي على المرأة الساذجة حتى تثق بهم وتلتقي بهم او تعطيهم صورا شخصية فيهددونها بالفضيحة او ابتزازها في اعمال منكرة او اغراء الشباب بمستقبل زاهر وحياة هنيئة ليكون جزءا من فسادهم واداة لتحقيق مآربهم.
ان الله تعالى يقدٍّر ضعف الانسان وعجزه عن مواجهة شياطين الجن والانس فجعل له ملائكة يحفظونه ويدافعون عنه [10]، وفي بعض الروايات [11] انه لو كشف لكم الغطاء لرأيتم العدد الكبير من الشياطين الذين يحيطون بكم ويتربصون بكم، لكن الله تعالى جعل الملائكة الحافظة لدفعهم.
وجعل بلطفه وكرمه شهر رمضان المبارك الذي تُغّلَ فيه الشياطين ففي خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في استقبال شهر رمضان (و ــ إن ــ الشياطين مغلولة ــ في هذا الشهر ــ فسلوا ربكم أن لا يسلطها عليكم) واذا استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا فقد فتح لهم باب التوبة ليعودوا إلى الحالة النقية الطاهرة خصوصاً في هذا الشهر الكريم حيث تغفر فيه الذنوب بدرجة لا يحرم منها الا الاشقياء ( فان الشقي من حُرِمَ غفران الله في هذا الشهر العظيم) [12] وفي رواية صحيحة عن الامام الصادق (عليه السلام) قال (من لم يغفر له في شهر رمضان لم يُغفر له إلى قابل الا أن يشهد عرفة) [13] .
[1] - كلمة القيت يوم الاحد 4 رمضان 1439 الموافق 20 / 5 / 2018
[2] - في تفسير العياشي: 2 / 270 ح 67 عن سماعه عن ابي عبدالله (عليه السلام) في قول الله (فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) قلت: كيف أقول: قال (عليه السلام) (تقول: استعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم)
( [3] كتاب الخصال : باب الاربعمائة
[4] ) ربما يقصد هل انه فيه مسّ من الشيطان حتى تعوذه فيه حيث كانوا يعتبرون المجنون مساً من الشيطان او انه يستنكر اعتراض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على غضبه ولا يرى سلوكه المتعصب خارجاً عن تصرف العقلاء.
[5] ) روح المعاني :24/ 125
[6] - التوحيد للصدوق: 25، بحار الأنوار: 3/13، 90/192
[7] - الخصال: 285 ح 37
[8] - أمالي الشيخ الصدوق: 117 ح 102
[9] ) الصحيفة السجادية: الدعاء التاسع
[10] ) راجع تفسير قوله تعالى ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد : 11]
[11] ) في الحديث عن الامام الباقر (عليه السلام) (اذا مات المؤمن خُلِّي على جيرانه من الشياطين عدد ربيعة ومضر كانوا مشتغلين به) (الكافي:2 / 251 ح 10) وعن الامام الصادق (عليه السلام) قال (إن الشياطين اكثر على المؤمنين من الزنابير على اللحم) (بحار الأنوار: 81 / 211 ح 27).
[12] ) مفاتيح الجنان: خطبة النبي (ص) في اخر جمعة من شعبان
[13] ) وسائل الشيعة: 10 / 305 أبواب احكام شهر رمضان، باب 18 ح 6.