وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ/ ضع الله تعالى نصب عينيك عندما تكون في خلاف مع الآخر
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (ص: 24)
ضع الله تعالى نصب عينيك عندما تكون في خلاف مع الآخر[1]
قال الله تبارك وتعالى (وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) (ص : 24).
تشخّص الآية الكريمة ظاهرة اجتماعية خطيرة وحالة لا إنسانية متفشية في المجتمع، وقد وردت الكلمة في سياق قضية الخصمين اللذين احتكما إلى نبي الله تعالى داود (صلوات الله عليه وعلى نبينا) (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) (ص : 22) والخلطاء الاشخاص الذين بينهم نحو من انحاء الاختلاط ولا يختص بالشركة المالية حتى يقال انه لا دلالة في الآية على وجود شراكة بينهما فيمكن أن يكون اختلاطهما بسبب الرعي المشترك أو تجاورهما أو أي سبب آخر، ويمكن أن تكون نفس هذه المنازعة اختلاطاً بينهما.
والقرآن الكريم يشخّص هذه الحالة المذمومة التي تحصل بين الخلطاء وهي بغي بعضهم على بعض ومحاولة كل منهما الاستئثار بالكل وانتزاع ما في يد الآخر بشتى الوسائل كالدعوى الباطلة وتزوير الشهادات والوثائق والكلام المعسول وقد يتوسل بالقوة لتحقيق ذلك (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) (ص : 23) أي طلب مني ضم نعجتي إلى نعاجه وغلبني بكلامه و حججه وخدعه.
ولعل تسجيل هذا المورد من الظلم والبغي مع أن مواردهما كثيرة لالفات النظر إلى خطورة هذه الظاهرة ولؤم الباغي فيها لان المفروض أن خلطتهما وتواصلهما المستمر يكون سبباً لتبادل الثقة والمودة بينهما وأن يكون كل منهما أميناً على حق الآخر وحافظاً له وان لا يتوقع كل منهما صدور الظلم والبغي من الآخر.
وقد استثنت الآية المؤمنين ذوي السيرة الصالحة لكنهم الاقلّون عدداً فانهم يصمدون بايمانهم امام اهواء النفس وانانيتها وطمعها وحبّها للغلبة والاستعلاء وحسدها، وهذا يعني ان ما يعصم من الوقوع في هذا البغي والظلم هو الايمان الصادق الذي يتمظهر في العمل الصالح والسيرة الحسنة، ومراعاة حقوق الاخوة والمعاشرة، هذه الرقابة الداخلية من الضمير الحي والقلب المفعم بالحب والرحمة وتقوى الله تعالى هو ما يجعل صاحبه لا يفكّر الا بالخير للآخرين اما أي رقابة أخرى كالسلطة والقانون والعقوبات فانها يمكن التخلص منها والتحايل عليها والاحتماء منها، وهذا الفرق يظهر لنا أحد مميزات الدين والالتزام به ودور الدين في حياة الانسان.
ونذكر هنا حديثين نبويين شريفين لردع من تسوِّل له نفسه التجاوز عل حق خليطه ومن له نزاع او اختلاف معه مستخدماً شتى الوسائل والذرائع.
1- روى الشيخ الطوسي في كتابه الآمالي عن عدي قال (اختصم امرؤ القيس ورجل من حضرموت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أرض، فقال: ألك بينّة ؟) باعتبار ان القاعدة المعمول بها في حل النزاعات هي بأن يقدّم المدّعي بينّة واضحة على ما يدعيه (قال : لا، قال (صلى الله عليه وآله ): فيمينه) لان المدعي اذا لم تكن لديه بيّنة يحلف المدّعى عليه وهو المنكر للدعوى على نفسها فيحكم له بالحق (قال : إذن والله يذهب بأرضي) أي ان المدعي خاف من ان خصمه لا يتورع عن الحلف كذباً فيحكم له بالأرض (قال: إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة، ولا يزكيه، وله عذاب اليم، قال : ففزع الرجل وردّها إليه)([2])
2- صحيحة هشام بن الحكم، عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : إنما اقضي بينكم بالبينات والايمان وبعضكم ألحن بحجته – أي افطن لها - من بعض، فأيما رجل قطعتُ له من مال أخيه شيئا، فإنما قطعت له به قطعة من النار([3])
ومن الواضح ان هذه الظاهرة لها مدى واسع في حياة المجتمع فيمكن ان تكون بين زوجين مختلفين فيحاول كل منهما ان يثبت انه على الحق وان الاخر هو المخطئ ويكشف من اسراره وخصوصياته ويسعى لتسقيطه وتشويه صورته، ويبالغ كل منهما في تحميل الآخر مبالغ واستحقاقات كبيرة بالاستفادة من القانون الوضعي الحاكم.
او بين متنازعين في السوق وما أكثر الاختلافات بين المتعاملين، او النزاع بين ورثة او أي شركاء فيعمل كل منهما على كسب الشيء له بلا وازع من دين او ضمير او اخلاق .
وتتوسع الأمثلة الى الشركاء السياسيين او حكومات الدول المختلفة فأنها مبنية على الاستئثار والهيمنة وتجريد الاخر من حقوقه وليس على أساس العدالة والانصاف والمرؤة والحقوق المتبادلة الا من عصم الله تعالى كما ذكرت الآية.
فالدرس الذي نستفيده من الآية أنه يجب على الانسان أن يضع الله نصب عينيه حينما يكون في نزاع مع الآخر فلا يكون همه الا إحقاق الحق لا الغلبة على الآخر، وتقرّر الآية أن من يكونون كذلك قليلون.
ولأجل هذا كُرهت الشركة الا اذا وجدت مُبررّاتها وضماناتها، روي عن امير المؤمنين ( عليه السلام ) قوله ( الشركة في الملك تؤدي الى الاضطراب) ([4])
نعم تستحب الشركة في الرأي أي المشاورة واستمزاج الرأي (الشركة في الرأي تؤدي الى الصواب ) ([5])
[1] - كلمة القاها سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه يوم السبت 30 / جمادي الأول / 1439 الموافق 17 / 2 / 2018.
[2] ) وسائل الشيعة: 27/235، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم/ باب 3/ح7
[3] ) وسائل الشيعة: 27/232، باب 2/ح1
[4] ) غرر الحكم: 1941
[5] ) غرر الحكم: 1942