وصية الامام الحسن السبط (عليه السلام) عند وفاته
بسمه تعالى
وصية الامام الحسن السبط (عليه السلام) عند وفاته[1]
للإمام الحسن السبط المجتبى (عليه السلام) وصايا جليلة قالها قبيل وفاته (عليه السلام) رواها في كتاب كفايةالأثر[2] بسنده عن جنادة بن ابي أمية قال (دخلت على الحسن بن علي ابن أبي طالب (عليهما السلام) في مرضه الذي توفي فيه وبين يديه طست يقذف عليه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة من السم الذي أسقاه معاوية لعنه الله فقلت: يا مولاي مالك لا تعالج نفسك؟ فقال: يا عبد الله بماذا اعالج الموت؟ قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم التفت إلي فقال: والله لقد عهد إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماما من ولد علي وفاطمة، مامنا إلا مسموم أو مقتول، ثم رفعت الطست وبكى صلوات الله عليه واله. قال: فقلت له: عظني يا ابن رسول الله، قال: نعم) ولم يبخل الامام (عليه السلام) بالنصيحة وهو في ذلك الحال المؤلم على من أراد أن يستثمر اللحظات الأخيرة من وجوده المبارك فقال (عليه السلام).
(استعد لسفرك) فنحن في هذه الدنيا على جناح سفر الى الآخرة لا نعلم متى يعلن ملك الموت عن الرحيل كالمسافرين المنتظرين في قاعة المطار وينادى بهم تباعا. بحسب الرحلات المتوجهه الى مختلف الدول، فيقوم من يحين موعد طائرته ليغادر وقد شبّه الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) الموت بالسفر عندما جاء لتعزية ذوي ميت فقال (عليه السلام) ما مضمونه (ان صاحبكم هذا الميت كان يسافر في حياته فاجعلوا رحيله هذا مثل احدى السفرات فان لم يعد من سفره هذا فأنتم تمضون اليه)
(وحصِّل زادك قبل حلول أجلك) فان السفر يحتاج الى زاد ومؤونة مناسبة له وهكذا جرت سيرة العقلاء في اسفار الدنيا فانهم يجهزون كل ما يحتاجونه في السفر الى مقصدهم وإن كانت الحاجة اليه ضئيلة، فكيف بسفر الآخرة الذي لا رجوع بعده وفيه من الاهوال والشدائد ما لا يعلمه الا الله تعالى، فالعاقل لا يفرّط بأي لحظة من غير الاستعداد لهذا السفر، وقد نبأنا الله تعالى عن الزاد النافع في هذا السفر، قال تعالى (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) (البقرة:197) وفي رواية ان أمير المؤمنين (عليه السلام) لما رجع من صفين واشرف على القبور بظاهر الكوفة خاطبهم بكلمات منها ((يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة والقبور المظلمة)) الى أن قال ((هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم؟!)) ثم التفت الى أصحابه فقال ((اما لو أُذِن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى))[3].
(واعلم انك تطلب الدنيا والموت يطلبك) وسيدرك الموت طلبه ((أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)) (النساء:78) فعليكم ان لا يشغلكم طلب الدنيا عن الاستعداد له قبل أن يصلكم، في دعاء ليلة 27 من شهر رمضان (( اللهم ارزقني التجافي عن دار الغرور والانابة الى دار الخلود والاستعداد للموت قبل حلول الفوت)) فأجعل طلبك للدنيا وما يحصل لديك منها في ما يرضي الله تعالى فان الدنيا مزرعة الآخرة.
(ولا تحمل همّ يومك الذي لم يأت على اليوم الذي انت فيه) هذا منطق عقلائي فلا تقلق ولا تحزن لأمور لم تحصل بعد وهي مجرد احتمالات وعش يومك الذي انت فيه، وكذلك على صعيد الطاعة فلا تستكثر مؤونتها فتضعف ارادتك وتترك العمل، كمن يستثقل صوم شهر رمضان لان الجو حار وعلى مدى ثلاثين يوماً، ولكنه لو التفت الى أنه حقيقة وفعلاً يلزمه مؤونة اللحظة التي هو فيها. لان ما قبلها قد انتهى وما بعدها لم يتحقق لذا ورد في الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) (الشجاعة صبر ساعة)[4] أي الساعة التي أنت فيها فلا تجمع على نفسك همّ الماضي والحاضر والمستقبل فتنهار.
(واعلم أنَّك لا تكسب من المال شيئا فوق قوتك إلا كنت فيه خازنا لغيرك) لان أموال الانسان مهما كثرت فانه لا يصله منها الا ما أنفق على نفسه أو قدّمه لآخرته اما الباقي فهو مجرد خازن له سيتركه الى ورثته ليهنأوا به ويتحمل هو تبعته واوزاره. وهذه حقيقة دامغة لكل من يكون همّه جمع المال وزيادة ارصدته من دون الالتفات الى مشروعية كسبه أو اخراج حق الله تعالى منه وإنفاقه في وجوه البر والإحسان ليكون ذخراً له في آخرته (وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ) (البقرة:110)، روت عائشة: (أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم (ما بقي منها؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلُّها غير كتفها)[5]، لانه بإنفاقها يكون قد ابقاها وعزّز رصيده عند الله تعالى بها.
(وأعلم ان في حلالها حساب وفي حرامها عقاب وفي الشبهات عتاب) هذه هي الاحتمالات المتصورة في وصف ما نكسبه من هذه الدنيا وفي أحسن حالاته يكون حلالاً وهو لا عقوبة عليه لكن الحساب عليه يطول كلما ازداد ماجناه وطول الحساب بحد ذاته فيه مشقة وعسر في يوم القيامة المهول، اما اذا كان شبهة فلا يعاقب أيضاً لكنه يعاتب لأنه كان عليه التثبت قبل اقتحام الشبهات، والعتاب من الرب الرحيم الكريم الودود له وقع قاسي على العبد الفقير المحتاج المضطر، اما اذا كان حراماً فالويل والثبور له.
ثم يوجه الامام (عليه السلام) نصيحته في كيفية التعامل مع الدنيا (فانزل الدنيا بمنزلة الميتة: خذ منها ما يكفيك، فأن كان ذلك حلالاً قد زهدت فيها، وإن كان حراماً لم يكن فيه وزر، فأخذت منه كما أخذت من الميتة، وإن كان العتاب فان العتاب يسير) فليكن تعاملك مع الدنيا كما تتعامل مع الميتة فانك تستقذرها وتتجنّبها ولا تنال منها الا عند الاضطرار وبمقدار الضرورة.
وهذه النصيحة تكون أأكد لمن لا يثق من نفسه أنه يؤدي لله تعالى حقه فيما يصل اليه، اما الواثق المطمئن – ووجوده نادر – فان زيادة الدنيا تكون خيراً له ولغيره لانه سيضعها في محلّها وسيكون شيئاً لسعادة الآخرين وإعزاز الدين ففي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ( الدنيا مزرعة الآخرة)[6].
(واعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا) فعليك ان تحقق هذا التوازن في حياتك فلا تفهم من المواعظ السابقة على أنها تدعوك الى اعتزال الحياة والمجتمع والانغلاق على نفسك لان المطلوب منك ان تؤدي دورك في اعمار هذه الحياة مادياً ومعنوياً وكأنك باقٍ فيها (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) (هود:61) وفي الحديث الشريف: (إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل)[7] لكن من دون ان يشغلك عملك عن الاستعداد للآخرة لأنك لا تعلم متى يفاجئك الموت وتنتهي فرصة اكتساب الحسنات.
(واذا اردت عزاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذل معصية الله الى عز طاعته الله عزوجل) هذه هي الحقيقة وما عداها وهم فان العزة والهيبة لله ولرسوله وللمؤمنين، وليست بالمال او السلطة او الجاه أو كثرة الاتباع فان عزتها وهيبتها وهمية مرتبطة بوجود هذه العناوين وتزول بزوال تأثيرها عند المتملقين والمنافقين وذوي الاطماع وحادثة الامام السجاد (عليه السلام) أوضح شاهد على ذلك عندما تقدم نحو الحجر الأسود ليلثمه فانفرج الحجيج سماطين وتقدم بكل عزة وهيبة بينما حاول الملك الأموي المتفرعن هشام بن عبد الملك بكل جهده وجيشه واعوانه أن يشق له طريقاً نحو الحجر فلم يستطع، وحينئذٍ تفتقت قريحة الشاعر الفرزدق عن قصيدته الميمية المشهورة.
ثم بدأ الامام السبط (عليه السلام) بذكر اوصاف الصديق الصدوق الذي تتخذه لنفسك (وإذا نازعتك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدق قولك وإن صلت شد صولك وإن مددت يدك بفضل مدها، وإن بدت عنك ثلمة سدها، وإن رأى منك حسنة عدها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتداك وإن نزلت إحدى الملمات به ساءك. من لا تأتيك منه البوائق، ولا يختلف عليك منه الطرائق، ولا يخذلك عند الحقائق، وإن تنازعتما منقسما آثرك) أي اذا اردت تقسيم شيء مشترك بينكما كميراث أو مال شركة تجارية فضلّك على نفسه عند الاختلاف في مقدار منها.
(قال: ثم انقطع نفسه واصفر لونه، حتى خشيت عليه، ودخل الحسين عليه السلام والأسود بن أبي الأسود فانكب عليه حتى قبل رأسه وبين عينيه، ثم قعد عنده فتسارا جميعا، فقال أبو الأسود: إنا لله إن الحسن قد نعيت إليه نفسه.)
[1] - موعظة تحدث سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه يوم السبت 29 / رمضان / 1438 المصادف 24 / 6 / 2017
[2] - وأوردها عنه المجلسي في بحار الانوار: 44/138
[3] - نهج البلاغة، قصار الكلمات، رقم 130
[4] - البحار: ٧٨ / ١١ / ٧٠.
[5] - رواه الترمذي شرح كتاب رياض الصالحين 60- باب الكرم والجود والإنفاق في وجوه الخيرثقة بالله تعالى
[6] - أورده الغزالي في كتابه احياء علوم الدين
[7] - رواه البخاري في الأدب المفرد (1/168) عن أنس بن مالك