ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها بلا تردد
بسمه تعالى
ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها بلا تردد([1])
روى جابر قال: (رجعت الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مهاجرة البحر) وهم المسلمون الذين أمرهم النبي (صلى الله عليه وآله) بالهجرة الى الحبشة تخلصاً من تعذيب قريش وملاحقتهم برئاسة جعفر بن أبي طالب ومكثوا هناك أكثر من عشر سنوات وعادوا في السنة السابعة من الهجرة الى المدينة (قال: (الا تحدثوني بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة؟) قال فتية منهم: بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس، مرّت بنا عجوز من عجائز رهابينهم - أي رجال الدين المسيحيين - تحمل على رأسها قلّة من ماء، فمرّت بفتى منهم) وهو طائش ومغرور بشبابه وقوته قد أسكره الشباب والقدرة ونسي قدرة الله عليه، وبدل ان يشكر الله تعالى على هذه النعم فانه يستعملها في المعصية والظلم وهكذا يغتر الكثير بقوتهم وقدرتهم ويظهرونها على ضعاف الناس ومن لا حول لهم ولا قوة (فجعل احدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها، فخرَّت على ركبتيها، فانكسرت قُلّتها، فلما ارتفعت، التفتت اليه فقالت: سوف تعلم يا غُدَر! - يوم القيامة - اذا وضع الله الكرسي وجمع الاولين والآخرين وتكلمت الايدي والارجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غداً) فتأثر النبي (صلى الله عليه وآله) ورقّ لحال العجوز وهي ليست على دينه وغضب من فعل الشاب الظالم (قال: يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (صَدَقَت صَدَقَت، كيف يُقدِّس الله أمة لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم)[2]
والحديث مروي في كتبنا عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: (ما قدست أمة لم يؤخذ لضعيفها من قويِّها غير متعتع)[3]
فاذا أرادت الأمة أن تحيا كريمة عزيزة قوية مهابة فلابد ان تنتصف للمظلوم وتأخذ بحقه من الظالم، ولكي تصل الأمة الى هذا المستوى لابد ان تكون القوانين السائدة عادلة منصفة والجهة التي تشرّعها خبيرة تراعي المصالح العليا للعباد والبلاد وتعمل ضمن الشريعة الإلهية، وأن تكون السلطة التنفيذية مهنية مخلصة نزيهة كفوءة يكون همها وهدفها خدمة الانسان وسعادته وكرامته.
وأن تكون السلطة القضائية حافظة للحقوق العامة والخاصة لا تفرط فيها تحت ضغط التهديد او الترغيب او الميل او الهوى او المجاملة والمداهنة والصفقات المتبادلة ولا غير ذلك.
وان يكون الاعلام بصيراً دقيقاً متابعاً يرشّد العمل ويشخص الخلل ويثني على الاحسان، فكم من قضية إنسانية او مظلومية او فساد غضّ المسؤولون الطرف عنه وعقدوا الصفقات لتقاسم الكعكة لكن الاعلام لما فضحهم اضطروا لأنصاف المظلوم وتقويم الاعوجاج بمقدار ما.
وقبل هذا وذاك لابد ان تسود المجتمع ثقافة نصرة المظلوم والضرب على يد الظالم لتشكل هذه الثقافة حصانة من الانحراف ولان السلطات المذكورة نتاج هذا المجتمع وثقافتها وسلوكها منه، وأهم قنوات هذه الثقافة والمعرفة: الدين الذي هو منظومة من العقائد والأخلاق والاحكام والسنن التي تعصم الانسان من الوقوع في الخطأ والخطيئة والضلالة والانحراف والظلم.
ولا نقصد بالدين مجرد الشكليات الظاهرية بل حقيقته وجوهره الذي يظهر على شكل سلوك عفيف وقلب سليم ونظرة بصيرة وحكيمة، والا فان كثيراً من الموصوفين بالتدين الظاهري على مستوى المظاهر وإقامة الشعائر الدينية الا انه في سلوكه ابعد ما يكون عن الدين، سواء في علاقته مع أهله او في عشيرته او في وظيفته او في عمله او علاقاته وغير ذلك، ولا يكون محضره خيراً ولا يأمر بمعروف ولا ينهي عن منكر بل يجامل ويداهن على حساب الحق.
روى صاحب كتاب المناقب انه (رجع علي عليه السلام الى داره في وقت القيظ - والصيف حار شديد الحر في الكوفة والامام عليه السلام شيخ تجاوز الستين من العمر وقد أثقلته الهموم والمسؤولية - فإذا امرأة قائمة تقول: إن زوجي ظلمني وأخافني وتعدى علي وحلف ليضربني، فقال: يا أمة الله اصبري حتى يبرد النهار ثم اذهب معك إن شاء الله، فقالت: يشتد غضبه وحرده علي، فطأطأ رأسه - وكأنه يفكّر في إيجاد سعة ومخرج لنفسه - ثم رفعه وهو يقول: لا والله أو يؤخذ للمظلوم حقه غير متعتع - فلا مجال للصبر على الظلم الا بالسعي لإزالته - اين منزلك؟ فمضى الى بابه فوقف فقال: السلام عليكم، فخرج شاب) وهو لا يعرف علياً وتعجب من مثل هذا الشاب يسكن الكوفة ولا يعرف علياً ويعني ذلك انه لم يصلِ خلف علي ولا استمع الى شيء من خطبه ولا خرج تحت امرته للجهاد (فقال علي عليه السلام: يا عبدالله اتق الله فإنك قد أخفتها وأخرجتها) وبدل ان يقبل النصيحة ويشكر الناصح على سعيه في الإصلاح استكبر وطغى (فقال الفتى: وما أنت وذاك؟) فأنكر تدخل أمير المؤمنين وكأنه لا يعرف وظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وقابله بالتهديد (والله لأحرقنها لكلامك) وتمادى في غيّه وزاد من تهديداته (فقال أمير المؤمنين عليه السلام:) وهو مغضب وقد استّل سيف (آمرك بالمعروف وانهاك عن المنكر تستقبلني بالمنكر وتنكر المعروف؟ قال: فأقبل الناس من الطرق ويقولون: سلام عليكم يا أمير المؤمنين) وهنا عرف الشاب ان المتكلم هو أمير المؤمنين ورئيس الدولة فخاف من عقوبته (فسقط الرجل في يديه فقال: يا أمير المؤمنين أقلني - في - عثرتي، فوالله لأكونن لها أرضاً تطأني) ومثل هذا كثيرون يخافون من العقوبات الدنيوية المعّجلة ولا يتقون الله تعالى في أفعالهم ولا يخشونه (فأغمد علي عليه السلام سيفه) ثم توجّه الى المرأة وأمرها بحسن التصرف والصبر وعدم استفزاز الرجل (فقال: يا أمة الله ادخلي منزلك ولا تلجئي زوجك الى مثل هذا وشبهه.)[4]
فتلاحظ ان امير المؤمنين (عليه السلام) استحضر نفس كلمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكذا الامام الصادق (عليه السلام) في حديثه السابق.
[1] - من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع جمع من الطلبة والشباب العاملين في المنظمات الإنسانية يوم 17/رجب/1438 الموافق 15/4/2017
[2] - سنن ابن ماجة: 4/186، كتاب الفتن باب 20 ح 4010 ، 4011 ،4012
[3] - وسائل الشيعة: 16/120 كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باب وجوبهما، ح9
[4] - بحار الانوار: 41/57 ح7 عن مناقب آل أبي طالب: 2/106 فصل: السابقة بالتواضع