فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ
بسمه تعالى
(فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ)[1]
(مريم:59)
قال الله تبارك وتعالى (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59) أي جاء من بعد (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) (مريم:58) أجيال غير صالحين لذا قرأت (خَلْفٌ) بالسكون اما الذريات الصالحة فتقرأ بالتحريك (خَلَفَ) كما عن المشهور.
وذكرت الآية صفتين لهم وعلامتين لانحرافهم عن خط اسلافهم الصالحين بينهما ارتباط وثيق وهما ((إضاعة الصلاة)) و ((اتباع الشهوات)) وقد ترجعان الى واحدة أي ان كلاً منهما تؤدي الى الأخرى، فقد يكون الأصل في الانحراف إضاعة الصلاة، اما الثانية وهي اتباع الشهوات فهي نتيجة للاولى لان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر فاذا اضاعوها فقدوا المناعة التي تحصّنهم فوقعوا فريسة تزيين الشيطان واغرائه وسقطوا في اتباع الشهوات عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (لا يزال الشيطان يرعبُ من بني آدم ما حافظ على الصلوات الخمس، فاذا ضيعّهن تجرأ عليه واوقعه في العظائم)[2] وعن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: (الصلاة حصن من سطوات الشيطان) فذكر تضييع الصلاة دون غيرها من الواجبات لأنها عمود الدين وعنوان صحيفة المؤمن والعاصمة للإنسان من الانجرار نحو التسافل.
لذا ورد في الحديث الشريف عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (ما بين المسلم وبين الكافر الا ان يترك الصلاة الفريضة متعمداً أو يتهاون بها فلا يصليها) لانه بترك الصلاة يبقى مكشوفاً للاعداء ـ وهم شياطين الجن والانس والشهوات واهواء النفس ـ لا يملك ما يحميه منهم فيبدأ سلوكه بالانحدار ولا يقف السقوط الى حد معين حتى يستقر في قعر جهنم، وهذا مجّرب وله أمثلة كثيرة في الواقع لا تخفى عليكم لأشخاص تركوا الصلاة اولاً ثم انحدروا و أوغلوا في الموبقات.
وعلى العكس من الانحدار فان الترقي في درجات الكمال يبدأ من هذه الصلاة وعن طريق هذه الصلاة بحسب مراتب أدائها، ففي الحديث النبوي الشريف قال (صلى الله عليه وآله): (إن الصلاة قربان المؤمن)وفي تعبير اخر (الصلاة معراج المؤمن) وفي آخر ( الصلاة قربان كل تقي)
و(إضاعة الصلاة) لها مراتب عديدة، اوضحها تركها من اصلها وهي المرتبة التي جعلتها الاحاديث الشريفة المتقدمة قرينة لبعض مراتب الكفر.
وتليها حالة عدم الالتزام بتأديتها في اوقاتها المخصّصة لإدائها أي عدم الاكتراث بفواتها، وفي مجمع البيان عن أبي عبدالله (عليه السلام) في تفسير الآية قال: (اضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير ان تركوها اصلاً). وروي عنه (عليه السلام) قوله في الصلاة: (واذا لم يصلِّها لوقتها ولم يحافظ عليها رجعت سوداء مظلمة تقول: ضيّعتني ضيّعك الله)
وفي الكافي بسنده عن داود بن فرقد قال: (قلت لأبي عبدالله عليه السلام قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً) (النساء:103) قال (عليه السلام): (كتاباً ثابتاً وليس أن عجلت قليلاً أو أُخّرت قليلاً بالذي يضُّرك ما لم تضّيع تلك الاضاعة فان الله عز وجّل يقول لقوم (أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم:59).
وتليها حالة اتيانه بالصلاة لكن ليس على وجهها الصحيح من حيث اجزائها وشرائطها واقوالها وافعالها فلا يتم له ركوع أو سجود أو طهور أو قراءة واشباه ذلك من الصلاة التي وصفها النبي (صلى الله عليه وآله)بأنها نقر كنقر الغراب، وقال البعض بأن الآية تنطبق على أهل هذه المرتبة اكثر من المرتبتين السابقتين لان معنى ضياع الشيء تلفه و خرابه أو افتقاده بسبب سوء تدبير الذي بيده ذلك الشيء فوضعه في غير موضعه، فالإضاعة لا تصدُق الا مع التفريط بالشيء بعد وجوده اما من لا يوجد عنده الشيء اصلاً فقد لا تصدق عليه الاضاعة، فهذا الخلْف المُضِّيع للصلاة ورث الصلاة من اسلافه الصالحين الا انه فرّط فيها وضّيعها ولم يعتنِ بها وغيَّر فيها واستهان بها فلم يحسنوا الخلافة فيها كما سيأتي ان شاء الله في رواية البخاري، ولا أرى مانعاً من دخول جميع المراتب المتقدمة في عنوان إضاعة الصلاة فأن من تركها اصلاً يصدق عليه التضييع لأنه اعطي هذه الصلاة لكنه لم يؤّدِها.
وتوجد مرتبة أخرى لإضاعة الصلاة تخفى الا عن أهل المعرفة وهي إضاعة حقيقتها وجوهرها وثمرتها وهي المعراجية الى الله تبارك وتعالى والنهي عن الفحشاء والمنكر فهو يؤدي الصلاة في اوقاتها ويدقق في الاتيان بأجزائها وشرائطها الا انه لا يتكامل بها ولا ترتقي احواله وعلاقاته بربه بها. عن النبي (صلى الله عليه وآله): (لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، وطاعة الصلاة ان تنهى عن الفحشاء والمنكر) وعن الامام الصادق (عليه السلام) قال: (اعلم ان الصلاة حجزة الله في الأرض، فمن أحَّب أن يعلم ما ادرك من نفع صلاته، فلينظر: فان كانت حجزته عن الفواحش والمنكر فانما ادرك من نفعها بقدر ما احتجز).
وقد يؤدي الإنسان خلال عمره آلاف الصلوات[3] من دون ان تحصل له حالة الارتقاء والسمو في درجات المعرفة والكمال، روى الشيخ الصدوق بسنده عن حّماد بن عيسى ـ ويعلم اهل الاختصاص أن حّماد من ثقات الرواة عن الصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام) ـ قال: (قال لي أبوعبدالله (عليه السلام) يوماً تُحسن أن تصلّي يا حّماد؟قال: قلت: يا سيدي أنا أحفظ كتاب حريز في الصلاة،قال: فقال (عليه السلام) لا عليك قم فصلِّ قال فقمت بين يديه متوجهاً الى القبلة فاستفتحت الصلاة وركعت وسجدت فقال: يا حّماد لا تحسن ان تصلّي؟! ما أقبح بالرجل أن تأتي عليه ستون سنة او سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة؟!)[4] ثم قام الامام (عليه السلام) وصلى أمامه الصلاة القربانية الخاشعة فالتوبيخ لم يصدر لترك الصلاة أو عدم الالتزام بها وإنما لعدم الوصول الى حقيقتها، ولعدم تحقق الاستفادة التامة من ثمرتها.
والصفة الثانية للخلَّف غير الصالح ((اتباع الشهوات)) وهو له صور عديدة بحسب عمر الانسان وعمله وموقعه الاجتماعي والسياسي والديني وغير ذلك من المؤثرات، فالشباب يغريهم اللهو واللعب والمتعة الجنسية وهوس المودة في الملبس والمظهر الخارجي وتقليد الأجانب ولربما الانخراط في جماعات العنف والقتل والابتزاز والاختطاف.
والسياسيون تسكرهم السلطة والنفوذ والاستيلاء على المال العام وكثرة المؤيدين وتسليط الاعلام. والنساء يستهويهنَّ التجمل وإظهار الزينة حتى لغير من أحلّ الله تعالى ونصب الفخوخ للرجال. والتجار في السوق يلهثون وراء الأموال باي طريقة حصلت ولو كانت عن طريق الغش والظلم والبخس والتطفيف وغير ذلك كثير من اشكال اتباع الشهوات.
وتذكر الآية الكريمة العاقبة الوخيمة لإضاعة الصلاة واتباع الشهوات (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) والغي مقابل الرشد الذي هو إصابة الحق قال الله تعالى: (قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة:256) كالضلال في مقابل الهدى الذي يعني الوصول الى الغاية المقصودة ، فهؤلاء سوف يلاقون الغي، وقد اطلق لفظ الغي أي سواء في الحياة الدنيا وحين الموت وما بعده وفي الآخرة، ففي الدنيا يقعون في الجهل والضلال ويفقدون البصيرة والرشد والحكمة وفي الآخرة يلقون جزاء ذلك (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً) (الفرقان:68) لأنهم اوقعوا انفسهم في الغي والضلال فيلاقون جزاءه (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (النمل:90).
لكن لا ينبغي لمن اغراه الشيطان وغلبته اهواؤه وشهواته أن ييأس من روح الله تعالى ورحمته والرجوع اليه لذا جاءت الآية التالية مباشرة لتزرع هذا الأمل (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (مريم:60)
والآية تبين بوضوح ظاهرة اجتماعية وسلوكاً عاماً يحصل عند غياب كل القادة العظام من الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم أجمعين) أو قادة الثورات الإصلاحية وهو الانقلاب عن التعاليم الإلهية ووصايا الأنبياء والرسل والرجوع الى حالة الانحطاط من خلال إضاعة حقيقة الصلاة واتباع الشهوات والانخداع بالدنيا.
فلم يكن ما حصل بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله)من انقلاب بدعاً من السلوك وانما هي نسخة متكررة من الأمم السابقة، تلك الحالة التي يبدي الله تعالى آسفه عليها (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (يس30) وكأن هذه الآية المكية وامثالها تنبه الامة الى هذا الخطر المترقب لئلا يقعوا فيه، وليس لهم عذر في ذلك لان النبي(صلى الله عليه وآله) حذرهم منها في مناسبات عديدة كقوله (صلى الله عليه وآله ): فيما رواه عنه الامام الباقر (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ ) (الانشقاق:19) قال (صلى الله عليه وآله) (لتركبن سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل والقُذَّة بالقُذَّة ولا تخطئون طريقهم قال (عليه السلام) قالوا: اليهود والنصارى تعني يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله): فمن أعني؟ لتنقض عرى الإسلام عروة عروة، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الامامة و اخره الصلاة)[5]
روى البخاري في صحيحه عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: (أنا فرطكم على الحوض ليُرفعنَّ إليَّ رجالٌ منكم حتى إذا أهويتُ لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي ربِّ أصحابي، يقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك)
وفي نفس المصدر بسنده عن الزهري قال: (دخلت على أنس بن مالك بدمشق وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: لا أعرف شيئاً مما أدركتُ إلا هذه الصلاة وهذه الصلاة قد ضُيِّعت)
ويبدو ان هذه الظاهرة متكررة في جميع الأجيال وعند كل انعطافة تاريخية ومفترق طريق يحصل عند غياب أصحاب الرسالات والمشاريع الإلهية، او عند اقبال الدنيا وتوسع خيراتها كما حصل للمسلمين الأوائل عند نجاح الفتوحات الإسلامية وهزيمة الامبراطوريتين الفارسية والرومية، أو ما حصل لساسة العراق الجدد بعد عام 2003، فكم من القادة العظام يتعبون ويضحون وقد يستشهدون ثم ترثهم وتخلفهم جماعات تدعي الانتساب اليهم وترث الامتيازات عنهم لكنها تضيّع مشروعهم العظيم، قال تعالى في موضع آخر (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) (الأعراف : 169)
امام هذه الحقيقة التي يكشف عنها القرآن الكريم ويؤكد تكرارها عبر الأجيال لا يحقّ للمؤمنين الرساليين ان يكتفوا بتحريك السنتهم بقول انا لله وانا اليه راجعون أو لا حول و لا قوة الا بالله العلي العظيم ونحو ذلك بل لابد من العمل بما تقتضيه هذه الكلمات المباركة و التحرك لحث الناس على إقامة الصلاة ووعي حقيقتها والاستفادة من آثارها المباركة في الدنيا و الآخرة وتعليمهم احكامها التفصيلية ومقدماتها وسننها وآدابها وغير ذلك وتحذّر الناس في جميع مستوياتهم وعلى اختلاف مواقعهم من الانخداع بالدنيا والاغترار بمظاهرها البرّاقة الخادعة واتباع الشهوات والتأثر باهل المعاصي.
ولكي تحقق الحركة أفضل النتائج ينبغي ان تقوم بهذه المسؤولية مؤسسة وجماعة تأخذ على عاتقها احداث هذه النهضة المباركة بأذن الله تعالى قال تعالى (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ) (آل عمران104) وهذه دعوة صريحة لإقامة مثل هذه المؤسسات و الجماعات لكل باب من أبواب الخير ولكل مورد من موارد الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فلاقامة الصلاة مؤسسة ولايتاء الزكاة مؤسسة ولتشجيع الزواج وتكثير النسل مؤسسة ولاصلاح ذات البين ورفض الطلاق مؤسسة وللعفاف مؤسسة وللتشجيع على القراءة ونشر الكتاب مؤسسة وللشعائر الدينية مؤسسة وغير ذلك كثير (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) (النحل128)
[1] - القيت بتاريخ الجمعة 25/ج2/1438 الموافق 24/3/2107
[2] - راجع مصادر الاحاديث المذكورة هنا في ميزان الحكمة:5/107 وما بعدها.
[3] - الصلوات المفروضة في اليوم والليلة خمسة غير المستحبات ففي السنة 1800 وفي عشر سنوات ثمانية عشر الف صلاة
[4] - من لا يحضره الفقيه: ج1/ح915/باب وصف الصلاة
[5]- تفسير القمي:2/412