يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ - درس نبوي في المصالحة المجتمعية
بسم الله الرحمن الرحيم
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ
درس نبوي في المصالحة المجتمعية([1])
قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (الممتحنة:1).
هذه الآيات الأولى من سورة الممتحنة فيها بحوث مهمة تتعلق بالموالاة والبراءة لكننا نتحدث الآن عن درس مستفاد من الحادثة التي نولت بسببها هذه الآيات وتصرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أزائها، فقد روى علي بن إبراهيم في تفسيره سبب نزول الآيات قال (نزلت في حاطب بن ابي بلتعة([2])، ولفظ الآية عام ومعناه خاص، وكان سبب ذلك ان حاطب بن ابي بلتعة كان قد اسلم وهاجر إلى المدينة وكان عياله بمكة وكانت قريش تخاف ان يغزوهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فصاروا إلى عيال حاطب وسألوهم ان يكتبوا إلى حاطب يسألوه عن خبر محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهل يريد ان يغزو مكة؟ فكتبوا إلى حاطب يسألونه عن ذلك فكتب اليهم حاطب ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريد ذلك، ودفع الكتاب إلى امرأة تسمى صفية([3])، فوضعته في قرنها ومرت، فنزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاخبره بذلك فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) والزبير بن العوام في طلبها فلحقوها، فقال لها امير المؤمنين (عليه السلام): أين الكتاب؟ فقالت: ما معي، ففتشوها فلم يجدوا معها شيئا، فقال الزبير: ما نرى معها شيئا فقال امير المؤمنين: والله ما كذبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا كذب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على جبرئيل (عليه السلام) ولا كذب جبرئيل على الله جل ثناؤه والله لتظهرن لي الكتاب او لأوردن رأسك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت تنحيا حتى أخرجه فأخرجت الكتاب من قرنها فأخذه امير المؤمنين (عليه السلام) وجاء به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا حاطب ! ما هذا؟ فقال حاطب: والله يا رسول الله ما نافقت ولا غيرت ولا بدلت واني أشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حقا ولكن أهلي وعيالي كتبوا إلى بحسن صنيع قريش اليهم، فأحببت ان اجازي قريشا بحسن معاشرتهم فانزل الله جل ثناؤه على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون اليهم بالمودة - إلى قوله - لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة)([4]).
أقول: تضافرت روايات العامة في نقل هذه الحادثة ايضاً كالبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي والبيهقي وأبي نعيم وغيرهم([5]) وفي هذا التصرف النبوي الشريف مثل أعلى يستحق ان يدرسه القادة والحكام في المصالحة المجتمعية والعفو عن الذين تزلّ أقدامهم من أبناء المجتمع ويخرجون على الدولة ويخرقون النظام بسبب ضعف النفس او الجهل او سوء التقدير أو أي سبب آخر، بينما الجرم الذي ارتكبه حاطب يدخل فيما يسمى بالخيانة العظمى لتسريبه اسراراً عسكرية تتعلق بأمن الدولة الى أعداء في حالة حرب مع الدولة، والقوانين المعاصرة تحكم على مرتكب هذا الجرم بالإعدام، لكن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل عذره وزجر عمر بن الخطاب لأنه طلب من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمر بقتله.
ولم يكتفي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل قام بما يسمى اليوم بإعادة تأهيله ودمجه في المجتمع وإزالة كل المضاعفات الاجتماعية التي حصلت له بسبب إرتكابه لهذه الجريمة فأرسله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكتابه الى المقوقس حاكم مصر في الإسكندرية حينما بعث برسائله الى ملوك العصر يدعوهم الى التوحيد وطاعة الله تعالى ومنهم: كسرى ملك الفرس وهرقل ملك الروم والنجاشي ملك الحبشة وملوك اليمن وعمان والبحرين وغيرهم، وعاد الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه هدايا ومارية القبطية التي تزوجّها وولدت أبنه الوحيد إبراهيم.
وفي كتاب الاستيعاب([6]) ان بعثه كان في السنة السادسة من الهجرة بعد صلح الحديبية أي قبل أحداث فتح مكة وربما يظهر ذلك ايضاً من سياق حديث ابن هشام في السيرة([7]).
فعلينا ان نبرز هذه الصور المشرقة من رسالة الإسلام وقادته العظام لنعرف العالم بهذا الدين الرباني الذي هو أعظم هدية من الله تعالى خالق البشرية الى الانسان ليسعده.
ومضافاً الى هذا فأننا يمكن ان نستخلص عدة دروس أخرى من الآية الكريمة:
1- الانصاف والموضوعية حينما بدأ الخطاب بـ(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا) والخطاب وإن كان عاماً إلا انه نزل في حادثة حاطب فلم يخرجه عن الايمان بارتكاب هذه الجريمة الكبرى فالذين يكفرّون الناس لاختلافهم معهم في بعض الاحكام أو في فهم بعض العقائد الدينية مخالفون لمنهج القرآن وأدبه.
2- الطاعة والتسليم التام للقائد الذي تجلى في إصرار أمير المؤمنين (عليه السلام) على تنفيذ أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدم التهاون فيه كما حصل للزبير.
[1] ) من حديث سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) مع أساتذة وطلبة عدة مدارس قرآنية في بغداد والكوفة يوم السبت 3/ع1/1438 المصادف 3/12/2016.
[2] ) حاطب بن بلتعة اللخمي من اليمن كان حليفاً لقريش، هاجر الى المدينة وشهد بدراً والحديبية والمشاهد كلها، وفي الإصابة (ج1/ص300 رقم الترجمة 1538) عن المرزباني في معجم الشعراء أنه كان أحد فرسان قريش في الجاهلية والإسلام، وقد يبعّد ذلك ما ذكره في الإصابة انه مات سنة 30 وعمره 65 عاماً وقد أسلم في مكة وهاجر فعمره في الجاهلية لا يسمح باشتهار أمره، وفي الاستيعاب والموطأ انه كان شديداً على رقيقه وشكاه بعضهم الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
[3] ) وفي (سيرة ابن هشام: 4/29) أن اسمها سارة مولاة لبني عبد المطلب وقال في موضع أخر كانت ممن يؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة، وهي ممن أهدر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دمها حين فتح مكة ثم توسطوا لها وطلبوا لها الأمان فآمنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
[4] ) تفسير القمي: 2/361، تفسير البرهان: 9/279.
[5] ) الدر المنثور: 8/125.
[6] ) المطبوع بهامش الإصابة: 1/350.
[7] ) السيرة النبوية لابن هشام: 4/188.