فريضة الحَجّ
فريضة الحَجّ
الطبعة السادسة 1445
يلبي ملايين المسلمين دعوة ربّهم لزيارة بيته الحرام التي أبلغهم إياها على لسان خليله أبيهم إبراهيم([1]) (عليه السلام) بعد أن حدد تبارك وتعالى له مكان البيت والمناسك التي يؤدّونها لتعود عليهم بالنفع في الدنيا والفلاح في الآخرة فقال تعالى: [وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ، ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ] (الحج: 26-30).
ثم أكّد هذه الدعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأوجبَ تلبيتها على من استطاع إليه سبيلاً بعد أن بيّن عظمة البيت الحرام وبركته، قال تعالى: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ] (آل عمران:96-97). وقال تعالى: [وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ] (البقرة: من الآية 196)، ووصف السعي بين الصفا والمروة -وهو من مناسك الحج- أنه من شعائر الله التي يكون تعظيمها من تقوى القلوب فقال تعالى: [إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ] (البقرة: 158).
وبيّن تعالى بعض آداب الحج فقال عزّت أسماؤه [الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا واللهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ] (البقرة: 197-202).
وقد واصل الأئمة المعصومون (عليهم السلام) التأكيد على وجوب هذه الفريضة والإسراع إلى أدائها عند حصول الاستطاعة والعقوبة على من تقاعس عنها؛ عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (كان علي بن الحسين عليهما السلام يقول: حجّوا واعتمروا تصحّ أجسامكم وتتسع أرزاقكم ويصلح إيمانكم، وتكفوا مؤونة الناس ومؤونة عيالاتكم)([2])، وورد في نهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (فرض عليكم حجَّ بيته الذي جعله قِبلةً للأنام يرِدونه ورود الأنعام ويألهون إليه ولوه الحمام، جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزّته واختار من خلقه سُمّاعاً أجابوا إليه دعوته، وصدّقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبّهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته، جعله سبحانه للإسلام علماً، وللعائذين حرماً، فرضَ حجه وأوجب حقه، وكتب عليكم وفادته، فقال سبحانه: [وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ])([3]).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا قدر الرجل على الحج فلم يحج فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام)([4]) وعنه (عليه السلام): (من مات ولم يحج حجّة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق فيه الحج، أو سلطان يمنعه فليمت يهودياً أو نصرانياً)([5]).
إنها معجزة أنَّ دعوةً عمرها آلاف السنين تحرّك الملايين من أكثر من (160) دولة (هي مجموع الدول التي تكوّن المعمورة) في كل سنة ليقطعوا المسافات البعيدة ويفارقوا الأهل والأموال والأحبة ويتجشموا المعاناة والمصاعب وهم لا يلتفتون إلى ذلك لأن قلوبهم وعقولهم ونفوسهم مشدودة إلى بيت ربّهم لينقطعوا إلى ربّهم عن كل علقة ويتجردوا عن كل شيء سواه ويعيشوا تلك الأجواء القدسية، وقد ورد عنهم عليهم السلام: (إن إبراهيم خليل الله أذَّن في الناس بالحج، فقال: أيها الناس إني إبراهيم خليل الله، إن الله يأمركم أن تحجّوا هذا البيت فحجّوه، فأجابه من يحج إلى يوم القيامة)([6])، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (إن الله لما أمر إبراهيم ينادي في الناس بالحج قام على المقام فارتفع به حتى صار بإزاء أبي قبيس، فنادى في الناس بالحج، فأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى أن تقوم الساعة)([7]).
لقد ربط الأئمة (عليهم السلام) مصير الدين بوجود الكعبة لأنها رمز وحدة المسلمين وعلامة توحيدهم ولأنها تشدّهم إلى خالقهم ورسوله العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) وشريعته المباركة قال الإمام الصادق (عليه السلام): (لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة)([8]).
وحذّر (عليهم السلام) الأمة من ترك هذه الشعيرة المباركة؛ فعن الصادق (عليه السلام) قال: (لو ترك الناس الحج لما نُوظروا العذاب، أو قال: أنزل عليهم العذاب)([9]).
ويجعل الأئمة (عليهم السلام) من واجب الحكومات إجبار الناس على أداء فريضة الحج إن تقاعسوا جميعاً عن أدائها فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (لو عطّل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج إن شاؤوا وإن أبوا فإن هذا البيت إنما وضع للحج)([10]).
وقد التفت أعداء الإسلام من الداخل والخارج لعظمة هذا البيت وأثره في حفظ توحيد المسلمين ووحدتهم وبالتالي عزّتهم وكرامتهم ومنعتهم لذا سعوا إلى تدمير هذا الرمز مادياً بنسفه وإحراقه ومحو آثاره –وهذا ما حصل في مرات عديدة عبر التأريخ-، ومعنوياً بتفريغه من محتواه التوحيدي الخالص وتحويل شعائره إلى طقوس شكلية ونشر الشبهات التي أوجدت أناس متحجرين متعصبين لا يفقهون شيئاً غير لذّاتهم الجسدية ويرفضون أن يعلن المسلمون براءتهم من شياطين الإنس والجنّ عند بيته المحرم رغم أن الله تبارك وتعالى يقول: [وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] (التوبة:3).
وبالمقابل فقد حفلت الروايات الشريفة بآثار مباركة جليلة لمن حج البيت الحرام؛ فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إذا أخذ الناس منازلهم بمنى نادى منادٍ: لو تعلمون بفناء مَنْ حَللتم لأيقنتم بالخَلَف بعد المغفرة)([11])، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الحاج ثلاثة: فأفضلهم نصيباً رجل غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخّر، ووقاه الله عذاب القبر، وأما الذي يليه فرجل غفر له ذنبه ما تقدّم منه، ويستأنف العمل فيما بقي من عمره، وأما الذي يليه فرجل حُفِظَ في أهله وماله)([12]).
([1]) قال تعالى: [مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا باللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ] (الحج: من الآية78).
([2]) وسائل الشيعة: مج8، كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب1، ح20.
([3]) وسائل الشيعة: مج8، كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب 1، ح21.
([4]) المصدر السابق، باب6، ح10.
([5]) المصدر السابق، باب7، ح1.
([6]) وسائل الشيعة: مج8، كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب1، ح4.
([7]) المصدر السابق، باب1، ح19.
([8]) المصدر السابق، باب4، ح5.
([9]) المصدر السابق، باب4، ح1.
([10]) وسائل الشيعة: مج8، كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب5، ح1.
([11]) وسائل الشيعة: مج8، كتاب الحج، أبواب وجوب الحج وشرائطه، باب38، ح4.
([12]) المصدر السابق، باب38، ح23.