(قبس 91 ) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)
[آل عمران : 110]
الآية الثانية): قوله تعالى: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ] (آل عمران : 110).
أقول: دلّت الآية على وجوب الوظيفة على الأمة حيث جعلتها أهم صفة تتميز بها، ولإبراز أهميتها فقد قُدّمت على الإيمان بالله تعالى.
و (كان) هنا تامة تفيد الوجود ولزوم الاتصاف وأن من شأنها ذلك فيكون المعنى وجدتم وفيكم شأنية أن تكونوا خير أمة، واستعمل الماضي لتأكيد الحصول والوقوع وأنه مستمر إلى المستقبل، كلزوم الأسماء الحسنى للذات المقدسة في مثل قوله تعالى: [وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً] (النساء : 158).
ويمكن أن تكون بمعنى أنتم خير أمة أخرجت للناس نظير قوله تعالى: [كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً] (مريم:29) أي من هو في المهد، وليست كان الناقصة التي تقبل انتفاء الصفة وانفكاكها عن الموصوف، ولو اعتبرناها ناقصة فمعناها سبْق ذلك في علم الله تعالى والتعبير عنه بالماضي لتأكيد تحققه.
أما استعمال لفظ (كان) بالماضي فلا يخلو من تكريم لهذه الأمة لأنه أخذ بنظر الاعتبار مقارنتها بكل الأمم السابقة وأن ذلك ثابت وواقـع لا محالــة كوقــوع
أحداث الزمن الماضي.
ثم أفادت الآية شرط هذه الخيرية بأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، فخيريتها على جميع الأمم مستمرة ما دامت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فالآية ظاهرة في الممارسة الفعلية لهذه الوظيفة والتحرك بها، وليس في شأنية الاتصاف أي أن خيريتها ليست من جهة أنها مأمورة بهذه الوظيفة، وأن من شأنها القيام بها، وأن هذه الوظيفة مشرعة ومجعولة لها.
وهذا وجه أفضليتها على سائر الأمم؛ لأن هذه الوظيفة مجعولة في جميع الديانات السابقة كما تشير إليه جملة من الآيات الكريمة [لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ] (المائدة:63) [كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ] (المائدة:79) وغيرها، وكذا الأحاديث الشريفة كمخاطبة قوم شعيب وغيرها مما يأتي إن شاء الله تعالى، ولو لم تكن تلك الأمم مأمورة بها لما كان هناك وجه لأفضلية أمة الإسلام عليها، فخيريتهم على سائر الأمم أنهم يواصلون التحرك بهذه الوظيفة الإلهية على مر الأجيال، وإن كان بمستويات متفاوتة من القوة والضعف، وبحسب كثرة العاملين وقلتهم.
والوجوب هنا موجه إلى الأمة بما هي أمة على نحو ما قلناه في الآية السابقة، ولا يضر باتصافها بهذا الوصف إذا تحقق الغرض بقيام البعض؛ لنفس البيان هناك. نعم الخيرية على مستوى الأفراد تحصل بأداء هذه الوظيفة، ولو على نحو الشأنية بمعنى أنه إذا كان صادقاً وجاداً في الامتثال، لكن الموضوع انتفى بقيام البعض، فلا يبعد شموله بالخيرية بلطف الله تعالى، وهو معنـى موجــود فـــي
الأحاديث الشريفة بخصوص عدد من الموارد.
والتعبير بـ[أخرجت] فيه إشارة لطيفة لقيام اليد الإلهية بصنع هذه الأمة بهذه الأوصاف وإظهارها وتقديمها للبشرية لتكون خير أمة، والواقع يشهد أن ما تنعم به الأمم المتحضرة اليوم من رقي وازدهار وأخلاق إنسانية هو من بركات هذه الأمة المرحومة ووجودها حتى في الأزمنة التي عاشت اندحاراً، فعلى الأمة أن تلتفت إلى قيمتها هذه لتقوم بمسؤولياتها وتتفهم دورها الريادي والقيادي من الأمم الأخرى.
حل التنافي بين الآيتين:
وفي ضوء ما استظهرناه من كون (من) بيانية يتضح التطابق بين هذه الآية وسابقتها، إلا أن الأكثر لما بنوا على كون (من) تبعيضية في الآية السابقة فقد أوردوا إشكالية عدم التوافق بينهما، ونحن لا نرى الإشكال وارداً حتى على هذا الاحتمال؛ لأن آية [وَلْتَكُنْ] ليس لها مفهوم ينفي خطاب آية [كنتم]، ولا مانع من كون التكليف موجهاً للأمة جميعاً، وتفهمه جماعة معيّنة على أنها مخاطبة أكثر من غيرها لخصوصية فيها كالحوزة العلمية أو الوجهاء المتنفذين أو السلطات التنفيذية ونحوها، فيكون خطاب [ولتكن] تذكيراً وتأكيداً للوجوب العام وإشعاراً لهذه الجماعة بالوجوب الخاص عليها.
هذا على الفرض المشهوري من وجود إشكال في اجتماع وجوبين على موضوع واحد، وإلا فإننا لا نرى مانعاً من توجه خطاب بالوجوب لعموم الأمة، وخطاب لجماعة خاصة بالوجوب؛ لتذكيرها بالمسؤولية الخاصـة، ومــوارده فـــي
الفقه كثيرة.
وعلى تقدير التنافي بين آية [ولتكن منكم] وآية [كنتم]، فقد بُذلت عدة محاولات لرفع هذا الإشكال، وما قيل أو يمكن أن يقال منها:-
1- إن الآية [كنتم] بلحاظ توجه التكليف إلى مجموع الأمة، أما آية [ولتكن] فهي بلحاظ الامتثال لما قلناه من أن من غير المتوقع تمكن الكل من الامتثال للأسباب التي ذكرناها فتقوم به الأمة القادرة من دون أن يؤثر على توجه الخطاب بالوجوب إلى الجميع، وهكذا كل الواجبات كالصوم والحج والزكاة فإن الخطاب بها موجه إلى الجميع، لكن القادر على الامتثال جماعة من المسلمين فيصحّ توجيه التنفيذ وامتثال الواجب إلى الجماعة المعينة خاصة([1])، كأن يأمر خصوص المستطيعين للحج بتهيئة جواز السفر ولوازم الرحلة ونحو ذلك، ومن أمثلته قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ } [البقرة : 183] مع أن غير المؤمنين مكتوب عليهم الصيام أيضاً وإنما خوطب خصوص الذين آمنوا تشريفاً لهم أو لأنهم الجماعة التي يُتوقع منها الامتثال.
2- إن آية [ولتكن] ليست بصدد بيان أصل التشريع حتى تتنافى مع آية [كنتم] بل هي تشير إلى تأكد هذه الوظيفة على فئة خاصة تكون مسؤوليتها عن أداء هذه الوظيفة ألزم من غيرها؛ لاجتماع الشروط فيها ولتوفر أدوات التأثير لديها كالمرجعية الدينية والحوزة العلمية أو جماعة معينة تُخصَّص لأداء هذه الفريضة كشرطة الخميس، ولا مفهوم لها حتى تنافي الأخرى نظير قوله تعالى: [لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ] (المائدة : 63)، وعن النبي (’) (إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه فمن لم يفعل فعليه لعنة الله)([2]) ومن المعلوم أن إظهار العلم يكون غالباً بصورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- ما قدمناه في البحث من أن آية [ولتكن] ناظرة إلى المعروف والمنكر الاجتماعيين أي التي تشكّل ظواهر عامّة لأنه لا يتيسر لأي أحد ممارسة الأمر والنهي المؤثرين فيهما إلا بانضمام الجهود الى بعضها، أما آية [كنتم] فهي بلحاظ الأعم من ذلك الشامل للفرديين وممارسته واجب عيني على الجميع([3]).
4- ما حكي عن المراغي ومحمد عبده وغيرهما من ((أن الآية الأولى –أي آية [ولتكن]- خطاب موجّه للمؤمنين كافة، بأن ينتخبوا منهم أمة تقوم بهذه الفريضة، وذلك بأن يكون لكل فرد منهم إرادة وعمل في إيجادها ومراقبتها ونقدها وتصويب حركتها، وبهذه الطريقة تساهم الأمة كلها في الأمر والنهي، ومعه يتم التوفيق بين هذه الآية وسائر آيات الأمر والنهي الظاهرة في نسبتها لمجموع الأمة))([4]).
وفيه:-
أ- إنه ينطلق من ظرف خاص وناظر إلى آلية محددة لأداء الفريضة من خلال سلطة سياسية ونحوها فهو يعالج جزءاً من المشكلة.
ب- لازمه سقوط الوظيفة عن عموم الأمة بعد انتخاب هذه الجماعة وهو معنى غريب عن الخطاب الشرعي والفهم المتشرعي، إذ المسؤولية مستمرة لذا يأثم الجميع إذا لم يتحقق الامتثال.
5- ما نقل عن الثعالبي وحاصله ((أن الآية الأولى هنا ناظرة إلى وظيفة الأمر والنهي العالمية، أي قيام المسلمين بالوظيفة في حق عموم غير المسلمين، فيما سائر الآيات ناظرة إلى قيام المسلمين بالوظيفة –عامتهم وجماعة منهم- داخل المجتمع الإسلامي))([5]).
أقول: يمكن أن نستشهد له بتقريبين:-
أ- تضمن الآية الأولى للدعوة إلى الخير وهو الإسلام وهـــي ثمـــرة
الجهاد الذي يكون خارج المجتمع الإسلامي لدعوة الأمم الأخرى إلى الإسلام، وقد ورد معها ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون الفئة المستهدفة بالخطاب هي نفسها لوحدة السياق مثلاً ونحوه.
ب- ما تقدم في الوجه الثالث من أن آية [ولتكن] ناظرة إلى المستوى الاجتماعي للفريضة، وما يوجد عند الأمم غير المسلمة أوضح مصاديق هذا المستوى، فتكون الآية ناظرة إليه.
6- إن آية [كنتم] تمثل الحكم الطبيعي الأصلي الموجَّه للأمة، ولما علم الله تعالى أن الأمة لا تمتثل كلها للأمر، تنزّل الخطاب ليلزم جماعة على الأقل بذلك فهو حكم ثانوي تنزلي على فرض عدم تحقق الامتثال العام على نحو الترتب، أو التخفيف كقوله تعالى: [الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً] (الأنفال:66) فقُلِّلت النسبة من واحد إلى عشرة إلى واحد إلى اثنين.
7- إن آية [كنتم] هو المطلوب النهائي الذي يراد أن تصل إليه الأمة بأن تكون كلها آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، والوسيلة لتحقيقه هي آية [ولتكن] بأن تؤدي كل جماعة ما عليها فإذا امتثلت هذه الجماعة وتلك الجماعة فإن الأمة كلها ستكون ممتثلة في النهاية، نظير ما أجبنا به على إشكال التنافي بين آية [فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ] (التغابن:16) وآية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ] (آل عمران:102).
8- إن آية [ولتكن] هي لاستثارة الهمة والتحفيز على السبق لامتثال هذه الفريضة، والخطاب موجه للجميع فلا تنافي الآية الأخرى، نظير قوله تعالى على لسان عيسى بن مريم (×): [مَنْ أَنصَارِي إلى اللَّهِ] (الصف:14) فالخطاب موجه إلى الجميع، وكما يقول قائد الجيش: من يبايعني على الموت ويتقدم معي، وهكذا.
9- أن تكون آية [وَلْتَكُنْ] كناية عن تحقق الغرض بفعل البعض وهم الأمة والجماعة فتكون إشارة لكون الواجب كفائياً، بمعنى كفاية قيام البعض بالامتثال وسقوطه بذلك عن الآخرين، قال المحقق الأردبيلي (+): ((إلا أن في الإيجاب على البعض إشعاراً بأن المقصود يحصل بفعل البعض، وأن العلم بأن الغير سيفعل الواجب الكفائي قبل فوت وقته كافٍ)) وأضاف (+) بما لا يخلو من النظر، قال (+): ((بل الظن المذكور أيضاً فيجوز التأخير))([6]).
([1]) هذا الوجه والذي يليه لخّصناه من كتاب (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للشيخ حسين النوري الهمداني: 15-18).
([2]) وسائل الشيعة: كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبواب الأمر والنهي، باب 40، ح1.
([3]) ذكر هذا الوجه أيضاً في الأمثل: 2/384.
([4]) فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 48، عن تفسير المراغي: 2/22، وتفسير المنار: 4/36، ودراسات في ولاية الفقيه للشيخ المنتظري (قدس سره): 2/227.
([5]) فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: 54، عن تفسير الثعالبي: 2/88، وقد وصف الناقل هذا الوجه بأنه لا دليل عليه.
([6]) مجمع الفائدة والبرهان: 7/534.

