وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ)([1])
(هل اتى: 8)
الآية حلقة من سلسلة آيات نزلت في امير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين (صلوات الله عليهم اجمعين) في حادثة مشهورة لدى الفريقين، وعدَّ المرحوم الاميني في كتاب الغدير[2](34) ممن أوردها من علماء السنة، والف الحافظ أبو محمد العاصمي كتاباً في مجلدين اسماه( زين الفتى في شرح سورة هل اتى) ووصف الالوسي في روح المعاني خبر الواقعة بانه مشهور.
وخلاصة الحادثة في مصادر العامة كما أوردها العلامة الاميني (قده) عن ابن عباس قال إن الحسن والحسين مرضا فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس معه فقالوا:
يا أبا الحسن؟ لو نذرت على ولدك. فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام.
فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض علي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد؟ مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة.
فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فأثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال: ما أشد ما يسوئني ما أرى بكم؟! وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساء ذلك فنزل جبريل وقال: خذها يا محمد؟ هنأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة.
وحاول البعض التشكيك في نزولها في علي واهل بيته (عليهم السلام) رغم شهرتها وكثرة مصادرها، ومما قالوه: ان السورة مكية والحادثة وقعت في المدينة بعد زواج امير المؤمنين وولادة الحسنين (عليهما السلام) وجوابه: عدم الوثوق بما دل على مكية السورة بل الدليل على العكس أي مدنية السورة، لوجود ذكر الأسير فيها، ولم يكن للمسلمين اسرى في مكة بل كانوا قلة مستضعفين وانما قويت شوكتهم واصبح لديهم اسرى في المدينة، ولو تنزلنا فان مكية السورة لا ينافي كون بعض آياتها مدنية وهي 18 اية من قوله تعالى {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان : 5] الى الآية 22 ({إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان : 22].
وقد دلت عدة روايات من الفريقين على ان السورة مدنية ومنها ما دل على خصوص الآيات المذكورة كرواية للمفيد في الاختصاص بسنده الى رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) وفيها قوله مخاطباً امير المؤمنين (عليه السلام) (هل عملت شيئا غير هذا فان الله قد انزل عليَّ سبع عشر اية يتلو بعضها بعضاً، من قوله (ان الابرار)الى قوله ( وكان سعيكم مشكوراً)[3].
ولشهرة الخبر فقد نظمها الشعراء في قصائدهم، ومنها قول الوزير الصاحب بن عباد:
وسائلٍ هل أتى نص بحق علي قـــلت (هل أتى) نص بحق علي
ونحن لا نريد بهذا الحديث الاكتفاء بالتذكير بهذه المنقبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) واهل بيته في ذكرى نزول هذه السورة في 25/ذي الحجة وانما نريد ان نستلهم بعض الدروس والعبر.
1- كرامة الانسان في الإسلام والإحسان اليه حتى لو كان مشركا محاربا كأسير الحرب مع الدولة النبوية الكريمة فلم يتخذ النبي (صلى الله عليه واله وسلم) سجناً لاسراه وانما كان يوزّع الاسرى على المسلمين ليحافظوا عليهم ويحسنوا اليهم حتى يجعل الله تعالى لهم فرجاً وورد في ذلك قوله (صلى الله عليه واله وسلم) (استوصوا بالأسرى خيراً )[4]، (وقد كان يؤتى الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) بالأسير فيدفعه الى بعض المسلمين فيقول: احسن اليه فيكون عنده اليومين والثلاثة فيؤثره على نفسه)[5] واذا لم يجد الأسير ما يحفظ كرامته عند مضيفه فتعطى حريته ويذهب لينال ما يريد، ويختار ومنها ما في هذه الحادثة لذا قصد هذا الأسير دار علي وفاطمة (عليهما السلام) لما بلغهُ من ايثارهما على انفسهما وتكريمهما السائل والمحتاج .
2- الأولوية والاهمية التي يحظى بها اطعام المحتاجين والمعوزين من بين اعمال البر الكثيرة، وقد اشير اليه في الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة كثيرا، قال تعالى (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد: 11 - 16] روي عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قوله (من اطعم ثلاث نفر من المسلمين اطعمه الله من ثلاث جنان في ملكوت السماوات) والحديث مطلق ولم يقيّد المدعوّين للطعام لكونهم فقراء أو محتاجين وهذا يعني أن الاطعام مستحب بغض النظر عن كون الاكلين ذوي حاجة لما فيه من تقوية أواصر المحبة والموّدة وانفتاح النفوس على بعضها وزوال ما بينها من شحناء وبغض.
وعن الامام الصادق (عليه السلام) قال : ( من اطعم مؤمنا حتى يشبعه لم يدري احد من خلق الله ماله من الاجر في الاخرة لا ملك مقرب ولا نبي مرسل الى الله رب العالمين )[6].
وعنه (صلى الله عليه واله وسلم) قال : ( من افضل الاعمال عند الله ابراد الكباد الحارة واشباع الكباد الجائعة )[7] وهو حديث مطلق يشمل كل ذي كبد حتى الحيوانات، وتعززه روايات أخرى ففي بعضها ان أمراءه فاسقة غفر لها لأنها سقت قطة عطشى ماءاً، تضمنت تتمة الحديث تهديد المقصر في ذلك قال (صلى الله عليه واله وسلم) (والذي نفس محمد بيده لا يؤمن بي عبد يبت شبعاناً واخوه- او قال جاره- المسلم الجائع) .
ولو ألتزمت البشرية بهذه التوصيات لما مات ملايين البشر جوعاً بينما تتلف دول الغرب المترفة الاف الاطنان من الأغذية للمحافظة على الأسعار ونحو ذلك.
3- ويمكن ان يتوسع معنى الأسير ليشمل كل محتاج الى رعاية غيره واعالته مادياً، كالمروي عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في المديون لغيره: (غريمك اسيرك فأحسن الى اسيرك) [8]ومنهم عيال الرجل وأسرته عن الامام الكاظم (عليه السلام) (ينبغي للرجل ان يوسع على عياله لئلاّ يتمنوا موته وتلى هذه الآية {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} قال : الأسير عيال الرجل ينبغي له اذا زيد في النعمة ان يزيد اسراءه في السعة عليهم )، ثم قال (ان فلاناً انعم الله عليه بنعمة فمنعها اسرائه وجعلها عند فلان فذهب الله بها، قال الراوي : وكان فلان حاضرا)[9].
وروي عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) قوله: ( اتقوا الله في النساء فأنهن عندكم أعوان)[10] آي اسراؤه، وهكذا تشمل التوصية بالأسرى خيراً كل من كان راعياً لغيره في مؤسسة أو دائرة او كيان ونحو ذلك.
ويتوسع المعنى الى الحاجة المعنوية أيضاً فيشمل من هو في حاجة اليه فكرياً وعقائدياً واجتماعياً وهذا المعنى قد ورد في اليتيم في الاحاديث الشريفة وقد تناولناها في كلمة سابقة[11].
4- ان الاطعام حصل (على حبّه) أي رغم وجود الحب للطعام لا من جهة نهم الاكولين والميّل الشهوي والتلذذ به فهم ابعد ما يكونون عن ذلك وهم المخلصون لله تبارك وتعالى، بل لحاجتهم اليه بحسب ما وصفتهم الروايات في الحادثة كما ذكرناها، ولأنهم يريدون التقّوي به على الصوم وسائر طاعة الله تعالى. ولكنهم آثروا الثلاثة على أنفسهم وقدّموا ما يريده الله تعالى على ما تريده نفوسهم لانهم يرون انفسهم عبيداً خالصين لله تبارك وتعالى ولا يملكون لها خيارا ولا إرادة ولا فعلاً الا لله تعالى فاخلصوا العبودية لله تعالى مما اكسب فعلهم قيمة اكبر.
ويمكن ان يكون معنى حبّه: حسنه وافضليته وطيبه ليكون ادعى للقبول قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] أي من أفضل ما عندكم واحسنه الذين تحبّونه لأنفسكم.
وقد ارجع بعضهم الضمير في حبه الى الله تبارك وتعالى وكأنه لم يستسغ ارجاعه الى الطعام لكنه تصرف بعيد بحسب السياق ولان هذا المعنى سيأتي في الآيات اللاحقة ولان الضمير لو كان عائدا الى الله تعالى لكان الأولى التعبير (في حبّه) ولعدم الغرابة في عودة الضمير الى الطعام بعد الذي ذكرناه، وقد روى البرقي في المحاسن بسند صحيح عن الامام الرضا 0عليه السلام) في هذه الآية قال الراوي ( قلت : حب الله او حب الطعام؟ قال : حب الطعام) [12]، فهذا الايثار الذي صاحب فعلهم (صلوات الله عليهم أجمعين) هو المنشأ الأول لإعطائه هذه القيمة الكبرى بحيث تنزّل فيهم سورة مباركة تتلّى الى نهاية الدنيا، مع أنه فعل بسيط في نفسه لا يعدو إنفاق خمسة أرغفة من شعير وليس من حنطة.
5- والمنشأ الثاني والاهم الذي اعطى فعلهم (صلوات الله عليهم اجمعين) القيمة العظمى ان اطعامهم كان خالصاً لله تعالى {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] فهم لم يبتغوا شكر المعطى وثناءه ولا جزاء منه ولو كان العطاء مشروطاً بالجزاء لحرم كثيرُ من المحتاجين لعدم امتلاكهم الجزاء، ولو كان مشروطاً بالشكر للزم منه توهين المعطى واذلاله.
فلكي يكون الاطعام طيباً هنيئاً لابد ان يكون مجردا من طلب الجزاء او الشكر، كإطعام عليٌ (عليه السلام) واهل بيته فقد كان اطعامهم خالصا لوجه الله لا يبتغون عليه جزاء بجلب ثواب او دفع عقاب حتى من الله تبارك وتعالى. لان عبادتهم عبادة احرار وليست فعل التجار الذين يعبدون الله طمعاً في جنته ولا العبيد الذين يعبدون الله خوفاً من ناره بحسب تقسيم امير المؤمنين (عليه السلام) لعبادة الناس، ومن كلماته المشهورة (إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)[13].
وقد حصر القصد بإرادة وجه الله تعالى خالصاً باستعمال أداة الحصر (انما) أما ما ورد في الآية التالية (إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (الإنسان:10) فهو لا ينافي قصد وجه الله تعالى لأنه خوف من آثاره ورشحاته وليس مستقلاً عنه حتى يدخل في عبادة العبيد، بل خوف البعد عنه تبارك وتعالى وعدم نيل رضاه وبلوغ كمال معرفته.
6- لم يسبق قولهم (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) (الإنسان:9) بكلمة ((قالوا)) وهذا يعني أنهم لم يقولوا هذا الكلام للثلاثة المطعمين وهذا الاستظهار يناسب مقامهم السامي وكون إطعامهم لوجه الله، أما التفوّه بهذه الكلمات أمام المطعمين فأنه لا يخلو من توهين وترفّع عنهم، فالظاهر ان هذا التعبير من الله تبارك وتعالى لبيان حالهم ومقامهم الذي علمه الله تعالى منهم والروايات تدل على ذلك، فقد روى الشيخ المفيد في الاختصاص (عليهم السلام) (أما ان علياً لم يقل في موضع: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً، ولكن الله تعالى علم من قلبه أن ما أطعم لله، فأخبره بما يعلم من قلبه من غير أن ينطق به( [14].
7- إن هذه القيمة الكبرى التي اكتسبها الاطعام بالإخلاص لله تعالى لا تختص به بل يمكن أن تكتسبها أي طاعة لله تعالى فالآية نموذج للتربية القرآنية للإنسان على ان يبادر الى فعل الخير ويسارع اليه لا لشيء إلا لأن فيه رضا الله تبارك وتعالى لا ينتظر جزاءاً ولا شكوراً من أي أحد ولا يثبطه ولا يشعره بالإحباط واليأس عدم حصوله على الثناء والشكر والإشادة بعمله بل ربما يتعرض للإساءة من نفس الذين يحسن اليهم لؤماً منهم وهو يمضي في معروفه وإحسانه متأسياً بربّه الذي يغدق على عباده بالنعم وهم يعصونه ويتمردون عليه ويشركون به ويعبدون غيره (مني ما يليق بلؤمي منك ما يليق بكرمك).
8- وهذا السلوك القرآني والسير على منهجه ثابت في سيرة أهل البيت (عليهم السلام) – وهم القرآن الناطق – فقد روت كتب التاريخ والمقاتل أن الحر الرياحي وكتيبته البالغة ألف فارس من جيش الأمويين لما خرجوا لاعتراض ركب الامام الحسين (عليهم السلام) في الطريق بلغ بهم العطش والاعياء أقصاه فتلقاهم الامام (عليه السلام) وسقاهم ثم سقى خيولهم بيده الشريفة، ولما حاصره القوم في كربلاء ومنعوه واصحابه حتى الرضع من الماء حتى قضوا عطشى لم يروِ أحد أن الامام الحسين (عليه السلام) ذكرهم بموقفهم ذاك أو قال لهم اسقوني كما سقيتكم في الطريق، لأنه من أولئك الذين قال الله تعالى (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً).
فسلام الله عليك يا أبا عبد الله يا رمز الإباء والسمو والإنسانية.
[1] ) كلمة سماحة المرجع الشيخ اليعقوبي (دام ظله) في جمع من الزوّار يوم الأربعاء 26/ ذي الحجة/ 1437 الموافق 28/9/2016 بمناسبة ذكرى نزول سورة (هل آتى) في حق أهل البيت (عليهم السلام).
[2] ) الغدير: 3م107-111 من الطبعة الاصلية، و 4/154-161 من طبعة دار الغدير.
[3] ) البرهان في تفسير القرآن: 10/79 ح 5 عن الاختصاص :150
[4] ) الأمثل: 14/524 عن الكامل لابن الاثير: 2/131
[5] روح المعاني للألوسي: 29/155 عن الحسن
[6] ) أصول الكافي: 2/200 – 302 باب اطعام المؤمن
[7] ) بحار الانوار: 74:369
[8] ) روح المعاني للألوسي: 29/156
[9] ) فروع الكافي: 4/11 كتاب الصدقة باب 7: كفاية العيال والتوسيع عليهم، ح3
[10] ) الفرقان في تفسير القران: 29/236 عن تفسير الرازي :30/245
[11] ) خطاب المرحلة: (250) ... هل تريد أن تكون مع الصديقة الزهراء (عليها السلام) في درجتها؟
[12] ) المحاسن: 397 ح71
[13] ) البحار:41/14.
[14] ) البرهان في تفسير القران ك 10/79 ح 6 عن الاختصاص :151 ورواها الشيخ الصدوق في الامالي عن الامام الصادق عن ابيه (عليهم السلام)