خطبتا صلاة عيد الفطر المبارك 1437
بسم الله الرحمن الرحيم
الاربعاء 1-شوال-1437هـ
الموافق 6-7-2016م
خطبتا صلاة عيد الفطر المبارك 1437
اقام سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) صلاة عيد الفطر المبارك بمكتبه في النجف الاشرف.
و القى سماحته (دام ظله) خطبتي صلاة العيد في جموع المؤمنين المصلين .
وكانت الخطبة الاولى بعنوان (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ )
اما في الخطبة الثانية فكانت بعنوان (فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)
وبعد انتهاءه من القاء الخطبتين استقبل سماحة التهاني من جموع المؤمنين والمريدين .
وفيما يلي النص الكامل للخطبتين :
الخطبة الاولى :
بسمه تعالى
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ )[1]
(فاطر /5)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ) (فاطر /5-6)
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ) نداء لكل البشر وليس فقط الكافرين او الفاسقين او الذين اسلموا او الذين امنوا لان الناس كلهم معنيون بهذا النداء ومن المتعارف ان من يصيح يا أيها الناس فان الناس يلتفتون اليه ويصغون لما يقول لان مثل هذا النداء يتبعه امر مهم او تحذير من شيء خطير او نحو ذلك، فكيف اذا كان المنادي رب العزة والجلال على لسان مئة وأربعة وعشرين الف نبي ومرسل .
( إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) هذه هي القضية المنادى بها وقد تكرر ذكرها في غير موضع من كتاب الله كقوله تعالى (إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (لقمان /33) وحاصلها ان ما وعدكم الله به من انتهاء حياتكم الدنيا بالموت و وجود حياة بعد الموت يكافأ فيها المحسن على أساس احسانه ويعاقب المسيء على اساءته ولكل من المثوبة والعقوبة درجات ودركات، كله حق لابد ان يقع والا كان ظلماً (وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (آل عمران/182) لانه يعني مساواة الظالم والمظلوم والجلاد والضحية والمسيء والمحسن وهذا باطل وخلاف الحكمة والعدالة (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران/ 191) (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ)(الأنبياء/ 16) .
وهذا الاعلان عن الوعد الحق فيه تحذير للعاصين والظالمين حتى يرتدعوا، وفيه تطمين المظلوم والمحروم بانه سيأتي اليوم الذي يعوضه الله تعالى فيه ويرد اليه الحق فيستقر ويهدأ .
ومادام الموت حق ومنكر ونكير حقاً والنشور حقاً والحساب حقاً والجنة والنار حقاً وكل ما اخبر به الأنبياء والرسل، اذن (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) فلا تخدعكم الدنيا بزينتها ومظاهرها الخلابة من مال وبنين وعشيرة وجاه وزعامة ومواقع في السلطة واي شيء اخر فأنها كلها تزول لذتها وتبقى تبعتها فالمظاهر الدنيوية التي تبعدكم عن الله تعالى عدو لكم فاحذروها وعليكم ان توظّفوا ما خولكم الله تعالى به من أمور الدنيا للفوز بالأخرة واكتساب الجنان ( الدنيا مزرعة الاخرة)[2] .
(وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) وهذا هو العدو الآخر، أنه الشيطان (الْغَرُورُ) وهي صفة مشبهة او صيغة مبالغة من الغرور أي إن التغرير بالأخرين صفته اللازمة لذاته ووظيفته التي لا يتوقف عنها، ويواجه الانسان مع هذين العدوين العدو الأول والاكبر وهي النفس الامارة بالسوء الميالة الى اللهو واللعب وارتكاب المعاصي والمليئة بالشهوات والغرائز النهمة التي لا تشبع في الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك)([3])، وكل ما يقوم به العدوان الاخران (الشيطان والدنيا) هو استثارة هذه الشهوات والغرائز وتزيينها والتعمية على العقل والفطرة بالخداع والتغرير وخلط الأوراق وتشبيه الباطل بالحق ونحو ذلك، أي انها كالعامل المساعد في علم الكيمياء الذي يساعد على التفاعل ويسرّعه كوجود النفط او البنزين على الخشبة المحترقة َ((وقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم )) (إبراهيم/22)
وتغرير الشيطان يكون من طريقين:
1- تزيين مشتهيات النفس واهوائها كالشهوة والغضب والعصبية والحسد وغيرها وكذلك تزيين زخارف الدنيا وبهارجها بغضّ النظر عن موافقتها لما يرضي الله تبارك وتعالى وعدمها.
2- الاغترار بحلم الله تعالى وطول اناته عن الظالمين وعفوه وكرمه فيدعوه ذلك الى تسويف التوبة والتمادي والاستمرار على المعصية، والا ما الذي يدعو العاصي الى ارتكاب المعاصي وهو يعلم انها معصية وفيها غضب الله تبارك وتعالى وسوء العاقبة في الدنيا والاخرة لولا هذا الاغترار وفي دعاء ابي حمزة الثمالي عن الامام السجاد ( إِلهِي لَمْ أَعْصِكَ حِيْنَ عَصَيْتُكَ وَأَنا بِرُبُوبِيَّتِكَ جاحِدٌ وَلا بِأَمْرِكَ مُسْتَخِفٌ وَلا لِعُقُوبَتِكَ مُتَعَرِّضٌ وَلا لِوَعِيدِكَ مُتَهاوِنٌ، لكِنْ خَطِيئَةٌ عَرَضَتْ وَسَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وَغَلَبَنِي هَوَايَ وَأَعانَنِي عَلَيْها شِقْوَتِي وَغَرَّنِي سِتْرُكَ المُرْخَى عَلَيَّ)([4]) وقد يستغل الشيطان حالة الاستدراج والاغراق بالنعم التي يملي بها الله تعالى العاصين ليوهمه بأنه على صواب وان الخير كل الخير هو في الاستمرار على هذا المنهج الذي هو باطل ومنحرف، مادام يجلب له هذه السعادة الموهومة فيستمر على عصيانه ويتسافل اكثر في جهنم.
وتعلل الآية التالية هذا الفعل من الشيطان وسببه (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) وقد أعلن هذا العداء منذ بدأ الخليقة حينما لعن وطرد من زمرة الملائكة عقب استكباره عن السجود لآدم، وقد شهر سلاحه ونصب فخوخه لكم بجميع الاتجاهات (َقالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف/16- 17)
فعداؤه لكم دائم ودائب من حيث تتوقعون ومن حيث لا تتوقعون (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف /27) وهذا الخفاء يعقد المواجهة ويصعبّها، تصوروا ان واحد من فخوخه وخدعه وهو الشرك الخفي كالرياء يوصف خفاؤه في باطن الانسان في الحديث النبوي الشريف ( ان الشرك اخفى من دبيب النمل على صفاة- أي صخرة- سوداء في ليلة مظلمة )([5]) أذن كيف يمكن معرفة كل فخوخه وخدعه لولا لطف الله تعالى .
وامام هذا الهجوم الشرس والمستمر بكل الوسائل والخدع والمكائد فعليكم ان تقابلوه بالمثل (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) وليس من العقل والحكمة أن تغفلوا عنه وتتسامحوا مع خططه وأساليبه فضلاً عن اتباعه والانسياق وراء تسويلاته وتزيينه (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (الكهف/50) ولعله اليوم أكثر خبرة وتقنية مما سبق وقد استطاع في أول محاولة مخادعة آدم (عليه السلام) (فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ) (الأعراف/22) فكيف اليوم وقد كثرت أدواته وتفنن فيها شياطين الانس والجن (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ* وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلّاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) (يس/60-62)
وهذا الشيطان لا يرضى من الناس إلا ان يرميهم في السعير (إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ) (فاطر6) واتباعه والحزب الجماعة الذين يوحدّهم هدف معين ولهم تأثير وفاعلية (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) كما ان شياطين الانس ودوائر الاستكبار والماسونية لا ترضى من الناس الا ان ينحّطوا الى اخّس درجات الهمجية التي تترفع حتى الوحوش عن ممارستها بحيث يُسنًّ الشذوذ الجنسي المسمى بزواج المثليين بقانون رسمي تُباركه الحكومات التي تدعي التحضّر .
اما سلاح الانسان في هذه المواجهة الشرسة والمعقدة والمفتوحة على الجميع الاتجاهات فانه أولا بعد التوكل على الله تعالى وطلب العصمة والتسديد والتأييد ففي دعاء نهار شهر رمضان (اَللّـهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد، وَاَعِذْني فيهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجيمِ وَهَمْزِهِ وَلَمْزِهِ وَنُفْثِهِ وَنُفْخِهِ وَوَسْوَسَتِهِ وَتَثْبيطِهِ وَبَطْشِه وَكَيْدِهِ وَمَكْرِهِ وَحبائِلِهِ وَخُدَعِهِ وَاَمانِيِّهِ وَغُرُورِهِ وَفِتْنَتِهِ وَشَرَكِهِ وَاَحْزَابِهِ وَاَتْباعِهِ واَشْياعِهِ وَاَوْلِيائِهِ وَشُرَكائِهِ وَجَميعِ مَكائِدِهِ)
وثانيا :الحذر والحيطة والتحفز والانتباه الى كل اشكال المكر والخداع حتى وإن اُلبست ثوب الخير والطاعة والدين والنصيحة، فان الشيطان يأتي لكل فرد أو جماعة من الجهة التي يخدعهم بها فعنده أدوات لعلماء الدين وأخرى للتجار وأخرى للسياسيين وأخرى للزعماء والوجهاء وأخرى للنساء وأخرى للشباب وهكذا مما يتطلب ذكرها الى تفصيل، ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ان من وصايا الله عز وجل الى موسى بن عمران (عليه السلام) التي أوصاها بحفظها (ما دمت لا ترى الشيطان ميتاً فلا تأمن مكره)([6])، والجزء الاخر من الأمور كلها على ميزان العقل والفطرة والدين واتباع من أمر الله تعالى باتباعه.
وثالثا: كان المرحوم الشيخ جعفر الشوشتري صاحب كتاب الخصائص الحسينية (توفي سنة 1303هـ) واعظاً مؤثراً وله منبر وعظ في الصحن الحيدري الشريف يحضر عنده العلماء والفضلاء وعامة الناس، وذات يوم قال للحاضرين بلغني من مخبرين ثقات ان سراقاً تخللوا صفوفكم ليقتنصوا الفرصة ويسرقون ما في جيوبكم فأوصيكم بالحذر والانتباه، وهنا هاج الناس ولملموا ثيابهم وصاروا يراقبون كل حركة ولما سكن المجلس قال لهم: ألا تعجبون من غفلتنا وتقصيرنا إذ نهتم كل هذا الاهتمام بدرهم نخشى سرقته وهو متاع زائل ولا نكترث لنداء الله تعالى وانبيائه ورسله بأن الشيطان لكم عدو متربص بكم ويريد أن يسرق منكم دينكم وتقواكم وهو أثمن ما يجب المحافظة عليه لأنه سبب نجاتكم وفوزكم في الآخرة فكيف نغفل عنه وتسقط في تسويلاته.
الخطبة الثانية :
بسمه تعالى
(فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً)[7]
(الأنفال/36)
من لا يقّدم ما عليه في طاعة الله تعالى يعطي اكثر منه في معصيته
قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) (الأنفال/36)
وردت الآية في سورة الانفال ضمن سياق الحديث عن معركة بدر وملابساتها ونتائجها، وتشير الى حماقة وجهل وسوء عاقبة مشركي قريش الذين كفروا وتمردوا واستكبروا عن الايمان بالله تعالى وطاعته ورفضوا تكاليفها لكنهم أصروا على عبادة الاصنام وأنفقوا اموالاً ضخمةً لتجهيز المقاتلين([8]) للقضاء على النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وأصحابه المؤمنين وانهاء دعوته المباركة.
فالأموال التي بخلوا بها ولم ينفقوها في طاعة الله تعالى لم ينتفعوا بها فقد انفقوها في الصد عن سبيل الله تعالى سواءاً بالحرب على المؤمنين او بمنع إقامة شريعة الله تعالى او بإبعاد الناس عن الدين ونحو ذلك من اشكال الصد عن سبيل الله تعالى فكانت عليهم حَسْرَةً في الدنيا لأنهم صرفوها في مضرتهم وجلب العار لهم او تركوها لذريتهم ولم تنفعهم إذ غُلبوا وهزموا ثم الحسرة الأكبر والعاقبة الأفظع في الاخرة حيث يساقون الى جهنم بكل إهانة وتعذيب.
وظاهر الاية ان كونهم كافرين يدفعهم الى هذا الفعل وكما قالوا ان تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية، فان كفرهم هذا سبب وعلة تدعوهم الى هذا الظلم والفسق ويؤدي بهم الى جهنم التي هي حصاد افعالهم (وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) والحشر لغةً (إخراج الجماعة عن مقرهم وإزعاجهم الى الحرب ونحوها ولا يقال الحشر إلا في الجماعة) كما عن الراغب في المفردات
فتجمّعهم في الدنيا ضد الحق وأهله وخروجهم حاشرين لمحاربة الله ورسوله تجسّم بخروجهم حاشرين الى جهنم افعالهم يوم القيامة.
فالآية تكشف عن حقيقة مهمة في حياتنا لو التفتنا اليها بعمق ووعي لأثّرت في توجيه الناس نحو الصلاح وخلاصتها ان من يمتنع عن بذل ما يتطلبه الايمان وطاعة الله تعالى فأنه سيضطر الى ان يعطي أزيد من ذلك راغماً في معصية الله تعالى فتجتمع عليه الحسرة والعقوبة لكن هذه الحسرة لا قيمة لها ولا ثمرة فيها لأنها جاءت في غير وقت العمل والتدارك.
هذه الحقيقة القرآنية لا تختص بالكافرين، فقد يبخل المتدين الذي يصلي ويصوم لكنه لا يدفع الحقوق الشرعية فيبتلى بصرف ماله في أمور عبثية أو لهوية او كمالية او ربما محرمة فتكون الحسرة عليه مضاعفة لتقصيره في إداء الواجب عليه من جهة ولإنفاق المال في ما يوجب له حسرة وعقوبة بالنار من جهة أخرى عن الصادق (عليه السلام) قال: ما من رجل يمنع درهماً في حقه إلا أنفق اثنين في غير حقه، وما من رجل يمنع حقاً في ماله إلا طوّقه الله به حية من نار يوم القيامة)([9])، وعنه (عليه السلام): (من منع حقاً لله عز وجل أنفق في باطل مثليه)([10])..
او انه يتركه لورثته فيكون سبباً لحسرته على نحو اخر، روي عن الامام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله عز وجل [كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ] (البقرة:167)، قال (عليه السلام): (هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله عز وجل بخلاً ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو بمعصية الله، فإن عمل فيه بطاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرةً وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله عز وجل)([11]).
وقد وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل هذا الرجل بقوله: ( إن أعظم الحسرات يوم القيامة حسرة رجل جمع مالاً بمعصية الله فمات فورثه رجل دخل به الجنة)([12]).
ويُفهم من بعض الروايات ان ما يتعرض له المال احياناً من سرقة او تلف انما هو بسبب عدم اخراج الزكاة والخمس ونحوهما من الحقوق الشرعية، وورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله (قد يبتلي الله المؤمن بالبلية في بدنه او ماله او أهله، ثم تلى هذه الآية (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) (الشورى/30).
كما لا تختص هذه الحقيقة بالأموال وانما تتعداها الى ما تتطلبه طاعة الله تعالى من أصغر شيء كالتكاسل عن أداء عمل عبادي معين او حضور في مجلس ذكر أهل البيت (عليهم السلام) او السعي لقضاء حاجة مؤمن فانه يبتلى بإمضاء ذلك الوقت والجهد في غير طاعة الله تعالى في أمور عبثية ومُضيعة للوقت او ما هو أسوء من ذلك فتجتمع عليه الحسرة في الدنيا لاضاعته فرصة الهداية وإكتساب الجنان المتاحة لهم والندامة والعقوبة في الأخرة وهكذا في كل امر راجح شرعاً او عقل، خذ مثلاً بعض الأمهات بعض الأمهات يتثاقلن عن ارضاع اولادهن الصغار تكاسلاً او حفاظا على رشاقتها ونحو ذلك وتعطيه حليبا صناعيا فيبتلى الطفل بآثار سلبية كالمغص ونحو ذلك ما تتمنى معه الام لو ارضعت طفلها وارتاحت من هذا البلاء.
وتمتد تطبيقات هذه الحقيقة الى كل المستويات فعلى صعيد الزعامات والقيادات المتبعة رأينا كثيراً من الناس يتبعون قيادات ما انزل الله بها من سلطان وربما تصل الى مستوى اتباع يزيد والمقبور صدام وأمثالهما من أجل فتات دنيا زائلة وتترك طاعة الله ورسوله والحجج المعتبرة والنتيجة خسران الدنيا والأخرة قال تعالى (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ) (البقرة/165-167) فالآية تقول: ليت هؤلاء الذين ظلموا انفسهم ولم يتبعوا الحق وظلموا الحق نفسه إذ خذلوه ولم ينصروه يرون عاقبتهم السيئة والمؤلمة حين يجتمع الاتباع مع القادة الظالمين يوم القيامة حيث يتبرأ هؤلاء القادة من اتباعهم وتنقطع بينهم الاواصر والعلاقات ولا يجدون عندهم نفعاً ولا يدفعون عن انفسهم عذاب جهنم وكل عذاب فضلاً عن اتباعهم فيكتشف الاتباع عجز قادتهم وزعاماتهم وضلالهم وستصيبهم حسرةٌ بسبب اتباعهم وطاعتهم لقادة مزيفين وسيتأكدون من حقانية ما كان يقوله الله تعالى ورسوله (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) ولم يكن لهم إلا تمني العودة الى دار الدنيا للعمل بما اكتشفوه من الحقيقة (لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا) (البقرة/167) لكنه تمني باطل لا يتحقق لانهم أعطوا الفرصة الكافية في الدنيا وقد كانت هذه الحقيقة ماثلة امامهم بما اخبر به الله تعالى ورسله لكنهم حجبوا بصائرهم عن رؤيتها بغفلتهم وجهلهم واتباع شهواتهم وتضليل شياطين الانس والجن، ومع ذلك فهم غير صادقين في تمنيهم هذا (وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ) (الأنعام/28)
هذا على صعيد الزعامات والقيادات الباطلة وأتباعهم من غير المؤمنين لكن هذه الحقيقة لها مستويات داخل المتدينين ايضاً، فقد يفضل الشخص الرجوع الى الجهة التي تحافظ على راحته ومصالحه وتداهنه او لأنها تعطيه ما يشتهيه ويوافق هواه ويدغدغ عواطفه، اولانها لا تكلفه جهداً أو حركة، ويترك القيادة الحقة التي تذكره بالله تعالى وتعمل على إعلاء كلمة الله تعالى وصلاح الأمة والارتقاء بها لأنها تتطلب جهاداً للنفس وحركة وعزيمة، ونتيجةُ اختياره هذا نسيان ربه شيئاً فشيئاً وميله الى الدنيا والانشغالات التافهة ونقصان وعيه ودينه حتى يتحول الى شكليات وطقوس فارغة من المحتوى فتكون حسرة عليهم لانهم لم يستثمروا فرصاً كانت ستكسبهم درجات عالية في الجنة.
وترتقي تطبيقات الآية حتى تصل الى مستوى بذل النفس فأن الأمة لما تخاذلت عن نصرة أمير المؤمنين (عليه السلام) وتقاعست عن نصرة الامام الحسن(عليه السلام) أُبتليت بإمارة معاوية الذي جاء الى الكوفة بعد صلح الامام الحسن (عليه السلام) فخطب في أهلها الذين قاتلوه في صفين وأُزهقت أرواح عشرات الألاف من الفريقين فقال في كلامه (والله اني ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا، ولا لتحجوا ولا لتزكوا، انكم لتفعلون ذلك، وانما قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد اعطاني الله ذلك وانتم له كارهون)([13]).
ولما لم تفي الأمة للإمام الحسين (عليه السلام) بوعود النصرة وبخلت بالنفوس عليه وانقلبت لتقاتله فكتب عليها الذلة والخنوع وتسلط الأشرار من أمثال يزيد وابن زياد والحجاج وغيرهم من الطواغيت فقتلوا من خيرة ابناءها ما زاد على الثمن الذي كانوا سيدفعونه لو نصروا الحسين (عليه السلام) وازالوا حكم الطواغيت وتنعموا بعدالة حجة الله تعالى ودولته الكريمة، وقد حذرهم الامام الحسين (عليه السلام) من هذه النتيجة وألقى الحجة عليهم في خطابه يوم عاشوراء وكان مما قاله (عليه السلام) (فأصبحتم إلباً لأعدائكم على اوليائكم بغير عدلٍ أفشوه فيكم ولا أملٍ أصبح لكم فيهم، أهؤلاء تعضدون وعنها تتخاذلون؟ ويلكم! أتطلبوني بدم أحد منكم قتلته، أو بمال استملكته، أو بقصاص من جراحات استهلكته)([14]).
وقال (عليه السلام) (اما والله لا تلبثون بعدها الا كريثما يركب الفرس حتى يدور بكم دور الرحى ويقلق بكم قلق المحور)([15]) اذن لما امتنعوا عن القيام بواجب النصرة للإمام الحق لم يحصلوا على ما أرادوا من الدعة والراحة وسرعان ما دفعوا الثمن الذي حذرهم منه غالباً.
وقال زهير بن القين في خطبته (فأنكم لا تدركون منهما – يزيد وابن زياد – الا بسوء عمر سلطانهما كله ليسّملان اعينكم ويقطعان ايديكم وارجلكم، ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل ويقّتلان اماثلكم وقراءكم أمثال حجر ابن عدي واصحابه وهاني ابن عروة واشباهه).
لاحظ كيف تحول بخلهم بالتضحية الواجبة في سبيل الله الى نصرة للأشرار وسقوط مريع في تلك الجريمة البشعة والعاقبة المرعبة.
وخذ مثالا نعيشه اليوم وهو التصدي البطولي للمجاهدين والمتطوعين لصد الهجمة الهمجية للدواعش والإرهابيين الذين أعلنوا بصراحة انهم قادمون لنقض العتبات المقدسة في النجف وكربلاء واحتلالها وغرّهم سقوط الموصل وتكريت في يومين بأيديهم، فنهض المؤمنون الغيارى في وجوههم واسترجعوا منهم ما اغتصبوه وطهرّوا الأرض من رجس وجودهم وكلّفنا ذلك شهداء كرام وجرحى اعزاء لكن الثمن سيكون اضعافه لو تقاعسنا ولم نقم بهذا الواجب.
والآية أيضا بصيغة المضارع الذي يعني استمرارية الحالة أي ان الذين كفروا وأعداء الإسلام من الطواغيت والقوى المستكبرة وذيولهم واتباعهم ومنفذي خططهم سيستمرون في انفاق أموالهم للصد عن سبيل الله بكل الأساليب التي اشرنا الها اختصارا، وشواهده كثيرة في زماننا لكن النتيجة تكون واحدة دائما وقطعية وهي خسارة وحسرة ونشاهد هزيمتهم باستمرار بأذن الله تعالى .
كما ان هذه الحقيقة التي استفدناها من الآية جارية مدى الزمان فلا يقصّر احد في القيام باي عمل راجح شرعاً او عقلاً وليس فقط فعل الواجبات وترك المعاصي، بل المستحبات أيضا وكل عمل انساني، لأنه ان قصّرَ خسر هذه الفرصة للكمال والسمو والفلاح وسوف لا يحصل على النتيجة التي أرادها بل يقع في عكس ما كان يريدهُ، هذه النتيجة اخبرنا عنها الامام الحسين (عليه السلام) بقوله: (مَنْ حاوَلَ أَمْراً بِمَعْصِيَةِ اللهِ تَعالى كانَ أَفْوَتَ لِما يَرْجُو، وَأَسْرَعَ لِمَجئ ما يَحْذَرُ)([16]).
وبالعكس فأن من يجاهد نفسه ويتخلى عن مشتهياتها وما تمنيه به من السعادة والراحة الموهومة فان الله تعالى يعّوضه عن صبره ومجاهدته بما يُقرّ عينه حقيق وليس زيفاً كالذي ورد في النظر الى المحرمات، روي عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم) وهو يحدث عن ربه (النظرةُّ سهم مسموم من سهام أبليس، من تركها من مخافتي أبدلته ايماناً يجدُ حلاوته في قلبه)[17] فلاحظ التعبير بالابدال الذي يعني الحقيقة التي ذكرناها .
(إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(ق/37)، (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) (الحاقة/12)
[1] ) الخطبة الأولى لصلاة عيد الفطر السعيد لسنة 1437 الموفق 6/7/2016
[2] ) غوالي اللآلي 267:1 / ح 66
[3] ) المجلسي- محمد باقر- بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة- ج67 ص36.
[4] ) دعاء أبي حمزة الثمالي للإمام علي ابن الحسين زين العابدين.
[5] ) بحار الانوار: 72/93 ح2.
[6] ) الخصال: 1/217.
[7] ( الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر السعيد لسنة 1437 الموفق 6/7/2016
[8] ) في تفسير البرهان: 4/164: (وما بقي من عظماء قريش إلا اخرجوا مالاً وحملوا ووقروا).
9) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه الزكاة، باب 6 ح1 .
10) نفس الباب، ح2 .
11) وسائل الشيعة: كتاب الزكاة، أبواب ما تجب فيه، باب 5 ح5 .
12) نهج البلاغة، باب الحكيم، رقم 429 .
[13] ) حياة الامام الحسن 2 / 254.
[14] ) تاريخ الطبري: 5 / 425، ينابيع المودّة للقندوزي: 3 / 64.
[15] ) الصحيح من مقتل سيد الشهداء واصحابه : 656، 664، 665
[16] ) الكافي 2 : 373 ح 3 ، تحف العقول : 177 ، بحار الأنوار 78 : 120 ح 19 وفيهما اسرع لما يحذر و 73 : 392 ح 3 ، معادن الحكمة 2 : 45 ح 101 ، وسائل الشيعة 11 : 421 ح 3 .
[17] ) ميزان الحكمة: 9/46.