المواجهة الاستباقية للغزو الثقافي
بسمه تعالى
المواجهة الاستباقية للغزو الثقافي([1])
من كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يحث اصحابه على الخروج للجهاد ويوبّخ المتقاعسين قال (عليه السلام) (أَلَا وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَيْلًا وَنَهَاراً وَسِرّاً وَإِعْلَاناً وَقُلْتُ لَكُمُ اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَ اللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَتَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الْغَارَاتُ)(([2].
اقول : موضوع الخطاب وإن كان القتال والعمل العسكري وهو يقدّم نظرية معتمدة الآن ومعروفة بعنوان (الهجوم خير وسيلة للدفاع) إلا انه يمكن تعميم معناها الى كل أشكال الغزو كما ان عنوان الجهاد لم يقتصر على القتال العسكري بل توسع الى (جهاد النفس) الذي وصف في الاحاديث بأنه (الجهاد الاكبر).
فالغزو كذلك يمكن ان يكون أخلاقياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً أو فكرياً وثقافياً وغير ذلك، وعلى جميع هذه الصُعُد فان القاعدة التي ذكرها أمير المؤمنين (عليه السلام) صحيحة وفاعلة.
ومحل كلامنا الغزو الفكري والثقافي، فما لم نبادر نحن ونوصل فكرنا وثقافتنا الى عمق الآخرين افراداً ومؤسسات ومجتمعات، فأن الآخر سيغزونا في عقر دارنا وينشر شبهاته وضلالاته وافكاره المنحرفة في أوساطنا ويشغلنا بالرد عليها، وما إن نرّد على واحدة حتي يأتينا بأخرى او اكثر حتى يتسع الخرق فلا ينفع معه أي رتق ونخسر أهلنا ومجتمعنا إلا من عصم الله تعالى.
وهذا هو وجه التشبيه بالغزو العسكري فأن الجيش الذي يتخاذل ويبقى متقوقعاً في مدينته وبين أهله يعطي زمام المبادرة لعدوه الذي سيحاول اختراقه المرة بعد الأخرى ومن هذه الثغرة او تلك فيشتت جهوده ويشغله بنفسه واهله ويربكه ويحبط معنوياته حتى يتآكل وجوده وتلحق به الهزيمة القاسية.
وعلينا ان نتعرف على أساليب الغزو الفكري التي يخترقنا بها العدو ومنها:
1- التشكيك وإثارة الشبهات التي تستهدف ضرب عناصر القوة في المجتمع كالقيادة الصالحة والنظام الاسلامي المبارك ومصادره اعني القرآن والسنة بصنع المغالطات وخلط الاوراق وقلب الحقائق وتعميم السلبيات حتى يشتبه الحق والباطل وتضيع البصيرة والرؤية الصحيحة ويجدون أرضية لتلقي هذه الشبهات والضلالات بسبب الجهل والتخلف وعدم الرجوع الى مصادر العلم والمعرفة.
2- تشويه الثقافة الأصيلة من خلال دس الاكاذيب والاختلاف والتحريف كالذي فعله الامويون ومن يعيش على فتاتهم من وعّاظ السلاطين فيحصل تشوّه او تلوث فكري وثقافي قال تعالى (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) (عبس/24) أي الى علومه ومعارفه وثقافته ممن يأخذها والى أي مصدر يرجع.
3- تسويق مشاريعهم وأجنداتهم الخبيثة عبر مصطلحات جذابة ومحبّيه كالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والمساواة وأمثالها التي جعلوها أصناماً مقدسة لا يجوز المساس بها ، وهم يستعملونها بازدواجية فاضحة فيطالبون مثلاً بإلغاء عقوبة الاعدام لأنها منافية لحقوق الانسان فيتحول الارهابي الى ضحية، ويتغافلون عن انصاف الضحايا الذين قتلهم هذا الارهابي وسرق حياتهم، وتتحول المرأة الى سلعة تباع في سوق الشهوات وتلبية الغرائز الجامحة بأسم الحرية والمساواة ويمنعون علينا ممارسة أي عملية تصحيحية باعتبار حرية التعبير عن الرأي وتحت تأثير هذا الصنم المقدس لا يحق لنا ونحن أكثر من مليار مسلم أن نعترض على صحيفة او قناة تلفزيونية تنشر صوراً مسيئة لرسول الله (صلى الله عليه واله) أو كلمات بذيئة عن القرآن الكريم، لكن الويل كل الويل لمن ينفي حصول مذبحة اليهود المعروفة بالهولوكوست على يد النازيين.
وعندما نطالب بحقوقنا نُتهم بالطائفية وممارسة العنف ونحو ذلك كما حصل في المطالبة بالقانون الشرعي للأحوال الشخصية.
4- استعمال وسائل الحرب الناعمة كالإعلام والفن والرياضة لتوجيه الرأي العام وصنع الثقافة التي يريدونها واستئصال ما لا يريدونه، ويدعمون هذه الوسائل بكل ما يوجب الاثارة والانجذاب والتأثر والمتابعة ويخلقون سلوكاً جمعياً قاهراً لا يستطيع الخروج عنه إلا من عصم الله تعالى.
إذا عرفنا ذلك فعلينا أن نأخذ زمام المبادرة قال تعالى (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل/125) فبادر أنت للدعوة الى الله تعالى والتحرك على الآخر بالطريقة التي ذكرتها الآية أي الحكمة وحسن التصرف في إيصال التوجيه الى الآخر من دون تعنيف أو اكراه أو مكر وخداع ولا تنتظر أن يأتيك الآخر فربما لا يأتيك ولا يدرك انه بحاجة الى السؤال أو الاستفهام، وفي الحديث عن أبي الصلت الهروي عن الأمام الرضا(عليه السلام) قال : (رحم الله عبداً أحيا أمرنا، قلت كيف يحيي أمركم؟ قال (عليه السلام) : يتعلم علومنا، ويُعلمها الناس، فان الناس لو علموا محاسن كلامنا لأتبعونا)([3]) .
فمسؤوليتنا الدينية والاخلاقية تقتضي أن نتحرك بعلوم أهل البيت (عليهم السلام) التي منَّ الله تعالى علينا بتحملها ونوصلها الى الناس جميعاً، وليس من المقبول أن تغزونا كتب الإلحاد والضلال والانحراف في عقر دارنا هنا في النجف وفي مكتبات مجاورة لحرم أمير المؤمنين (عليه السلام) ولا نكترث ولا نحرك ساكناً ونحن نرى سقوط شبابنا ومثقفينا في شباك شياطين الجن والانس، ويسيطر المنحرفون على أغلب الفعاليات الثقافية في بلدنا العزيز من دون تصدي حقيقي لإعادة الامور الى نصابها بتوفيق الله تعالى.
والأهم من ذلك كله أن نحصّن أنفسنا ونغلق ثغورها التي ينفذ منها الشيطان ليوسوس للنفوس الأمارة بالسوء ويزيّن لها المعاصي تارة من جهة إثارة الشهوات وأخرى من جهة استفزاز الغضب والانانية والعزة بالإثم وأخرى من القلق من الانفاق والخوف على المستقبل ونحو ذلك، وهذه المواجهة تتطلب معرفة دقيقة بالعدو (إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) (الإسراء/53) وآليات عمله وكيفية استثارته لجنوده، ومعرفة جنود الرحمن التي تواجهه وكيفية التغلب عليه وهذا يحتاج الى بحث مفصّل باذن الله تعالى.
[1] - كلمة لسماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) بمناسبة قرب حلول يوم المبعث النبوي الشريف 27/رجب/1437 الموافق 5/5/2016 الذي أعلنه سماحة المرجع (دام ظله) (يوم القراءة العالمي) لنزول أول كلمة من القرآن الكريم فيه وهي (اقرأ) أي ان البيان رقم (1) – كما في المصطلح السياسي – للرسالة الإسلامية كان خطاب (اقرأ).
[2] - نهج البلاغة، خطبة 27.
[3] ) وسائل الشيعة : 27/92 : كتاب القضاء، ابواب صفات القاضي / باب 8 ح52 عن عيون أخبار الرضا ومعاني الاخبار.