خطاب المرحلة: (457) {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} اَللّـهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ
بسمه تعالى
{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}
[الرعد : 11]
اَللّـهُمَّ اَصْلِحْ كُلَّ فاسِد مِنْ اُمُورِ الْمُسْلِمينَ(1)
من الأدعية المستحبة في كل يوم من شهر رمضان دعاء (اللهم أدخل على أهل القبور السرور) ويتضمن عدة فقرات جليلة، أحببت التوقف عند أحدها وهي (اللهم أصلح كل فاسد من أمور المسلمين)، ومن الواضح أن إصلاح الفساد لا يتحقق بمجرد ترديد هذه الكلمات وان كان في نفس قراءة الادعية ثواب وان الدعاء مخّ العبادة كما في بعض الاحاديث، لكن بعض المطالب تحتاج الى سعي كمن يريد الرزق الحلال لا يكفيه أن يردد: (اللهم ارزقني) بل عليه أن يسعى في مناكبها ويبتغي من فضل الله تعالى، ومن يريد الذرية الصالحة عليه أن يتخذ زوجة صالحة، وهكذا، الا اذا شاء الله شيئا بدون ذلك كولادة عيسى (×) من غير أب.
فإصلاح الفساد في أحوال المسلمين وهكذا فقرات الأدعية لا بد لكل منها من سعي يناسبها [وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً] (الإسراء:19)، فكيف نصلح أحوال المسلمين الفاسدة التي لا تسرّ الصديق ويشفق لها العدو، ولم تبق حرمة إلا انتهكت، وماذا علينا أن نفعل لتحقيق هذا الغرض؟.
يجيب عن ذلك رسول الله (’) في حديث رواه عنه الشيخ الصدوق في الخصال يحدد فيه سبب فساد أحوال المسلمين وصلاحهم، قال فيه: (صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله، ومن هما؟ قال (’): الفقهاء والأمراء)([2]).
فالصلاح والفساد في أمور المسلمين يرجع إلى طريقة أداء هذين الصنفين وصفاتهم الذاتية، فنفس الجهة التي يأتي منها الفساد يأتي منها الصلاح؛ لذا قيل: (لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال) أي علينا أن نشخّص الجهة المسؤولة عن الفساد فتبدأ عملية الصلاح من هذه الجهة، فمثلاً التكفير وما تتبعه من القتل الوحشي والتدمير الشامل بدأ من فتاوى علماء التكفير فإذا أرادوا محاربة الجماعات الإرهابية التكفيرية حقيقة فعليهم أن يبدأوا بهؤلاء المشرّعين لفتاوى التكفير فيصلحون عقولهم ويطهرون قلوبهم من اغلال التعصب والحقد والانانية ويعيدوا تقييم تأريخهم والاشخاص الذين يقدسونهم ممن أسسوا لهذه الثقافة، وستتغير الأمور عندما يلتفتون الى القيادة الصالحة الحقّة التي ربّت الامة على رفض التكفير، روي عن الامام علي (×) انه سئل عن الذين خرجوا على إمامته الحقّة وقاتلوه: (أمشركون هم ؟ قال : من الشرك فرّوا ، فقالوا : أفمنافقون ؟ قال : إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً قيل : فما هم يا أمير ألمؤمنين ؟ قال : إخواننا بغوا علينا فقاتلناهم ببغيهم علينا)([3]) مشيراً الى الآية الكريمة (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (الحجرات9).
كما أن هذه الكلمة (لا ينتشر الهدى الا من حيث انتشر الضلال) يمكن فهمها على أساس الأدوات أي أن نفس الأداة التي سببت الفساد كالتلفزيون أو القوانين الظالمة المخالفة للشريعة أو مناهج التعليم علينا أن نصلحها لتساهم في صلاح الامة.
ويمكن ان نفهم هذه الكلمة على اساس الحالات والاوضاع التي انتجت الفساد فنعالجها كالفقر او الجهل او التخلف او العصبية، أو الاستبداد السياسي أو الانهيار الاقتصادي أو عدم الامن والاستقرار فاذا اريد نشر الهدى والصلاح فلا بد من اصلاح هذه الاوضاع والبيئة المنتجة، قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش3-4).
ومحل الشاهد أن صلاح الأمة يكون بصلاح هذين الصنفين كما أن فسادها بفسادهما.
أما الصنف الأول فقد بيّنَتْ الروايات أن فساد العلماء لا يتمظهر بشرب الخمر وممارسة الزنا ونحو ذلك فانهم لا يفعلون ذلك حفاظاً على مكانتهم الاجتماعية وإنما بحبهم الدنيا والتملق لأهلها والصراع على الجاه والزعامة ومجاملة اهل الباطل وكتمان الحق والبغي والحسد والتكبر والتعالي وتغليب انانياتهم والتخلي عن مسؤولياتهم في اقامة الدين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) (المائدة63 ) وعدم الانفتاح على الناس والاستماع الى همومهم وقضاء حوائجهم ومساعدتهم وانصافهم فيما لهم وما عليهم، روى الإمام الصادق (×) عن امير المؤمنين (×) قوله من حديث (اعرفوا.. اولي الامر بالأمر بالمعروف والعدل الاحسان)([4]) فاذا تخلى العلماء عن مسؤولياتهم اصبحت الامة خاوية روحياً وميته معنوياً وفاقدة البصيرة والرشد يتلاعب بها الاشرار، وتوجد شواهد كثيرة من التاريخ لفساد تسبّب فيه العلماء، فالإمام الحسين (×) قتل بفتوى شريح القاضي الذي افتى بجواز محاربة الامام (×) لانه خرج على ولي الامر، والامام الجواد (×) قتل بتحريض من قاضي قضاة الدولة العباسية ابن ابي داوود للمعتصم بعد اخذه برأي الامام (×) في قطع يد السارق.
أما الصنف الثاني، فمما لا يحتاج إلى بيان دور الزعامات السياسية في فساد البلاد من خلال الاستئثار بالمال العام واعتبار ما يقع تحت يده غنيمة، وهدره في امور عبثية ومشاريع وهمية وتغليب المصالح الشخصية على المصالح العامة وسوء التخطيط والإدارة بالاعتماد على ناس غير مؤهلين وانشغال البلاد والعباد بصراعاتهم السياسية، وإن كل الكوارث التي حلت بالبلاد هي نتيجة هذه الصراعات على المغانم والامتيازات حتى وإن ألبست بعناوين دينية أحياناً.
وهؤلاء الحكام لم يصلوا إلى مواقعهم إلا بدعم وتأييد جمع من الناس سواء من خلال الإدلاء بأصواتهم لهم في الانتخابات أو بنصرتهم وتمكينهم من السلطة في الانقلابات العسكرية وإدامة حكمهم وسلطتهم، او بأي نحو وصلوا به الى السلطة ولو تخلّى الناس عنهم والتفوا حول الصالحين الأكفاء لما وصل حال المسلمين إلى هذه الدرجة التعيسة، روي عن الإمام الصادق (×) قوله: (لولا أن بني أمية وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلا ما وقع في أيديهم)([5]).
فهذه هي المسؤولية المباشرة المنظورة التي يتحملها الناس إزاء هذا السبب من الصلاح والفساد، لكن الروايات دلّت على ان بعض الذنوب والتقصيرات هي العلل الحقيقية لتسلّط الأشرار والفاسدين والظالمين، فنبّهنا المعصومون (^) لها حتى نمنع أصل تسلّطهم وتسلّمهم الحكم، ولا نصل إلى مرحلة تمكنهم من الحكم والسلطة ثم نفكّر في كيفية إصلاح الحال، أي أن الإصلاح يكون على طريقة (الوقاية خير من العلاج)، وازالة الاسباب من أصلها.
ومن تلك الذنوب والتقصيرات المسبّبة لتسلط الاشرار والفاسدين:-
1- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد روي في الكافي والتهذيب عن الإمام الرضا (×) قال: (لتأمرُنَّ بالمعروف ولتنهنَّ عن المنكر، أو ليستعملن عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم)([6]).
وروى الشيخ المفيد في المقنعة والطوسي في التهذيب عن النبي (’) قال: (لا تزال أمتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر والتقوى، فإذا لم يفعلوا ذلك انتزعت منهم البركات وسلط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء).
2- عدم الاستفادة من توجيهات العلماء العاملين: روي عن رسول الله (’) أنه قال: (سيأتي زمان على الناس يفرّون من العلماء كما يفرّ الغنم من الذئب، فإذا كان ذلك ابتلاهم الله بثلاثة أشياء: الأول يرفع البركة من أموالهم والثاني سلّط الله عليهم سلطاناً جائراً والثالث يخرجون من الدنيا بلا إيمان)(7).
3- إفراغ الدين من مضمونه الحقيقي والاكتفاء بالشكليات الظاهرية منه، وتخلّي علماء الدين والربانيين عن مسؤولياتهم الحقيقية وهذا شكل من اشكال فساد العلماء الذي يؤدي الى فساد الأمة ، في حديث عن النبي (’) قال: (سيأتي على أمتي زمان لا يعرفون العلماء إلا بثوب حسن ولا يعرفون القرآن إلا بصوت حسن، ولا يعبدون الله إلا في شهر رمضان، فإذا كان كذلك سلّط الله عليهم سلطاناً لا علم له ولا حكم له ولا رحم له)(8).
أذن فتردي أخلاق الامة وضعف همتها وانحدار مستوى الوعي لديها سبب لتصدي هذين الصنفين الفاسدين، وفسادهما يؤدي الى مزيد من الفساد في احوال الامة .
لذا اشتهرت الكلمة المعروفة (كيفما تكونون يولى عليكم)، فصلاح احوال المسلمين يبدأ من اصلاح انفسهم وتمسكهم بدينهم وزيادة وعيهم في اختيار قياداتهم الدينية والسياسية وحينئذٍ تنصلح امورهم وتتغيرا احوالهم نحو الافضل بأذن الله تعالى
(1 ) الخطبة الثانية لصلاة عيد الفطر السعيد يوم 18/7/2015
(2) الخصال للشيخ الصدوق: باب الاثنين، ح12.
(3) البداية والنهاية : 7/300
(4) اصول الكافي: كتاب التوحيد: 51 باب انه لا يُعرف الا به، توحيد الصدوق: 286
(5)وسائل الشيعة: كتاب التجارة/ ابواب ما يتكسب به/ باب 47، ح1.
(6) وسائل الشيعة: أبواب الأمر والنهي، باب 1، ح4، 18.
(7) بحار الأنوار: 22/454 عن جامع الأخبار: 125-126، ف 22.
(8) بحار الأنوار: 22/454 عن جامع الأخبار: 125-126، ف 88.