خطاب المرحلة: (438) هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا
خطاب المرحلة: (438) هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ([1])
(هود 61)
قال تعالى (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأرض وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ) (هود61)
هذه الفقرة من الآية تبيّن واحدة من قواعد الرؤية القرآنية لدور الانسان في الحياة وعلاقته بما حوله، فتكون أساسا ومنطلقا لسلوكه وبرنامجه في الحياة.
(استعمر) على صيغة استفعل والمعروف في معناها انها طلب الفعل كقولك (استخرج) أي طلب الإخراج، ويمكن ان يكون لها عدّة معانٍ اخرى، فتأتي بمعنى الفعل الثلاثي المجرد نحو (استقرَّ) أي قرّ، وغير ذلك. فيكون معنى الآية أن الله تعالى خلقكم من الأرض واستعمركم فيها أي طلب منكم اعمارها وفوّض اليكم أمر إصلاحها والانتفاع بها، أو أنه تعالى عمّركم فيها أي جعل لكم أعماراً مديدة فيها لأن إعمار الأرض يحتاج الى عمر مديد، ولو كانت الأعمار قصاراً لما استطعنا إنجاز شيء، ويمكن أن يكون (استعمركم) بمعنى أنه تعالى اعطاكم قدرات وجعلكم بوضع تقدرون فيه على الإعمار.
والعمارة نقيض الخراب، وهي تعني جعل الشيء واستعماله على النحو الذي ينتفع به ويحقق الغرض منه، وهي لكل شيء بما يناسبه من ذلك، ((فالعمارة تحويل الأرض الى حال تصلح بها أن يُنتفع من فوائدها المترقّبة منها كعمارة الدّار للسُكنى والمسجد للعبادة والزرع للحرث والحديقة لاجتناء فاكهتها والتنزه فيها، والإستعمار هو طلب العمارة بان يطلب من الإنسان أن يجعل الأرض عامرة تصلح لأن ينتفع بما يطلب من فوائدها) ([2]).
ولان الغرض من وجودنا على هذه الارض إعمارها فان وظيفة كل فرد هو اعمار واصلاح ما يقع في دائرة مسؤوليته، فربّ الاسرة يعمر اسرته ومدير المدرسة يعمر طلابه، والقائد يعمر اتباعه ومريديه وهكذا القائد السياسي، لذا جعل امير المؤمنين (×) من الوظائف المهمة للحاكم عمارة الأرض، قال (×) في عهده الذي كتبه لمالك الأشتر لمـّا ولاّه مصر: (وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك الاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارةٍ أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقمْ أمرُه الاّ قليلاً)، وقال (×): (ولا يثقُلن عليك شيءٌ خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك وتزيين ولايتك)([3]).
ويمكن ملاحظة عدة امور في الآية:
1- إن الله تعالى يذكِّر عباده بنعمه العظيمة عليهم وذلك لأنه خلقهم من نفس هذه الأرض مباشرة –كخلقه لآدم (×)- أوانه خلق الانسان من نفس عناصر الأرض ومكوناتها وغذائها ومع ذلك فانه أعطاهم هذا التكريم العظيم وفضّلهم على مخلوقاته ومكّنهم من هذه الأرض ليعمروها واستخلفهم عليها كجنس بشري أو كأفراد باعتبار أنهم يخلفون من سبقهم في التملّك والاستيلاء والاعمار.
2- وفي الآية بيان لحقيقة اعتقادية وزجرٌ وتوبيخٌ وردع للذين تركوا عبادة الله تعالى وأطاعوا أهواءهم وزيّن لهم الشياطين عبادة آلهة وهمية من دون الله تعالى، فيلفت نظرهم الى أن فعلهم مثيرٌ للسخرية حين مكّنهم الله تعالى من الأرض واستعمرهم فيها والآية تفيد الحصر بـ(هو)أي أنه تعالى وحده الذي أنشاءكم وهيأكم لأن تنتفعوا بهذه الأرض بما ينفعكم في حياتكم وتحتاجون اليه ولا تحتاجون الى غيره تعالى، لكن المؤسف أن هؤلاء البشر يتسافلون ويجعلون مما صنعت ايديهم آلهة يعبدونها، ويعتبرونها اربابا تدّبر شؤونهم من الرزق والحياة والضر والنفع باعتبار انهم لا يناقشون حقيقة ان الله تعالى هو الخالق (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) ( لقمان25) لكنهم يعتقدون انه سبحانه فوّض تدبير شؤون الكون الى اولئك الارباب الوهميين، فالآية تدعوهم الى ان يثوبوا لرشدهم لان تلك الارباب لو كانت مدبرة لشؤونكم لكان لها دور في تهيئة مستلزمات الحياة في الارض والسماء والهواء والشمس وكل شيء، وانتم تعترفون بانها لا يد لها في ذلك كله لذا جاء بعد هذه الفقرة من الآية مباشرة الأمر بالاستغفار والتوبة من هذه الاوهام والخيالات الفاسدة.
3- إن الله تعالى فوّض أمر إعمار الأرض الى الانسان وهيّأ له الوسائل والظروف التي تعينه على ذلك وطلب أن يفكّر ويبحث ويسعى وينتج، وبدون ذلك لا يحصل إعمار ولا يستفيد من منابع الرفاه والسعادة الموجودة في هذه الأرض ويكون من الخاسرين، فلا اتكالية ولا تقاعس ولا كسل وإنما لابد من العمل والله تعالى يبارك فيه ويؤتي ثماره بلطفه.
4- بما أن الإنسان مأمور بان يتخلّق بأخلاق الله تعالى([4]) كما في الحديث الشريف وفي الآية الكريمة (وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ) (النحل60) ونحن مأمورون بأن نُقيم الدين والسنن الإلهية وهذا يوجب علينا أن نعطي الفرصة الكاملة لكل فرد أو مؤسسة أو مجتمع ونهيئ الأسباب والإمكانيات لكي يعمّروا الأرض بالحياة وينتفعوا من الخيرات المتاحة لهم على كلِّ الأصعدة سواء على الصعيد العلمي او الإقتصادي او السياسي أو الديني أو الإجتماعي وغير ذلك، بالتصويت لهم اذا توقفت المسالة على الانتخاب، او بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب بالتعيين او بتقديم الدعم المادي والمعنوي لأي مشروع مثمرٍ او فكرة مفيدة او مؤسسة نافعة ونحو ذلك.
5- إن الإستعمار مصطلح قرآني مثمر وإيجابي ويُغني الحياة بالخير، لكن الدول المستكبرة اختطفته وحوّلته الى معنى معاكس يتضمن القتل والتدمير والخراب والاستحواذ على ثروات الشعوب وتجويعهم والاستيلاء على زمام الامور في بلدانهم، ككثير من المصطلحات التي شوهوها كالحرية التي تعني الانعتاق من اغلال الاهواء والشهوات والتعصّب والعبودية الخالصة لله تعالى فأصبحت تعني عندهم الانفلات من كل الضوابط الاخلاقية أو السياسة التي تعني رعاية مصالح البلاد والعباد وصلاح امورهم ونصف أئمتنا (^) بها كما ورد في الزيارة (يا ساسة العباد) وهكذا، لكنهم وظّفوها لمآربهم الخبيثة المعادية للإنسانية.
6- ولابد من الإلتفات الى الجوانب المعنوية للإعمار لأن الله تعالى أنشأ لنا هذه الأبدان لتكون وسيلة لتكامل النفس والعقل وسمو الرّوح، فالبدن هو أرض النفس الذي أنشأه الله تعالى لإعمارها بطاعة الله تعالى وعلى هذا فان إعمار الأرض لابد أن يكون مقترنا بنية التقرب الى الله تعالى لأن الإعمار الحقيقي هو ملئ القلب بحب الله تعالى وذكره وتحلية النفس بالفضائل وتهذيبها من الرذائل والأغلال والآصار، فالأمر بالإعمار إنما يُراد منه تهيئة أسباب الطاعة والتمكين منها. أذ كلّما كانت الأسباب المساعدة على الطاعة متوفرة كان إقبال النفس عليها أكثر فعوالم الإنسان مترابطة، كما قيل في المثل المشهور: (العقل السليم في الجسم السليم)0
7- وكما ان الارض مستودع لكثير من الخيرات وعلى الانسان ان يستصلحها ويستعمرها ليستخرجها، فكذلك طاقات الانسان لا حدود لها لو احسن تفجيرها، وتشهد وقائع كثيرة بذلك كقلع امير المؤمنين (×) لباب خيبر التي عجز اربعون شخصا عن حملها. وخذ مثالا قريبا من مسيرة الموالين لأهل البيت (^) حين يقطعون مسافة اكثر من 500 كيلومترا مشيا في ظروف جوية قاسية وتهديدات ارهابية جديّة من دون اصطحاب طعام او فراش، فحبّهم للحسين (×) وولاؤهم للنبي (’) واله فجّر طاقات يجدونها مستحيلة التحقق في غير هذا الحافز، وكسير بعض الاخوة 2000 كيلومترا من الامامين الكاظمين (‘) الى مشهد الامام الرضا (×) في ارض مجهولة لهم وظروف جوية صعبة ويمرّون بمناطق فيها وحوش مفترسة.
8- إن الله تعالى خلقنا من الأرض، فالأرض سابقة بوجودها علينا، وقد سخّرها الله تبارك وتعالى لنفعنا (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأرض جَمِيعاً) (البقرة29) فنِعمُ الله تعالى سابقةٌ على وجودنا وهو جلّت آلآؤه المبتدئ بالفضل وبالنعم، والدرس الذي نستفيده هو أن نبادر نحن بالعطاء للأخرين قبل أن نتوقع منهم تقديم شيء من الخير.
9- ما دام معنى اعمار الارض يتحقق بجعلها على نحو مثمر ينتفع به، كما تقدم في التعريف فإذن هو يشمل كل نواحي الحياة لكلٍ بحسبه، فهناك الإعمار السياسي والإقتصادي والإجتماعي والزراعي والعلمي وغير ذلك، لأنها كلها تساهم في تحقيق هذا المعنى فكأن الإعمار مرادفٌ للإصلاح أو هو نتيجته.
الإمام الحسين (عليه السلام) وارث الاعمار الشامل:
لذلك فان شريعة الاسلام وهي خاتمة الشرائع الالهية واكملها لم تكتف بالإعمار والاصلاح الديني وانما عمّت بقوانينها واحكامها كل شؤون الحياة وقضايا الناس، وقد عبَّر الامام الحسين (×) وارث الانبياء وحامل رسالاتهم كلها عن هذا المشروع الإعماري الشامل وأشار في كلماته الشريفة الى كل هذه المجالات.
ففي مجال الاعمار والاصلاح الديني قال (×)( وإنِّي لم أخرج أشِراً ولا بَطِراً ، ولا مُفسِداً ولا ظَالِماً ، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جَدِّي ( ’ ) . أريدُ أنْ آمُرَ بالمعروفِ وأنْهَى عنِ المنكر ، وأسيرُ بِسيرَةِ جَدِّي ، وأبي علي بن أبي طَالِب ‘) ([5]).
وفي مجال الاعمار القانوني قال (×) (وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنة قد اُميتت والبدعة قد اُحييت، وإن تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد)([6]). أي ان هؤلاء الطغاة عطّلوا العمل بالدستور والقانون فالامام (×) يدعوهم الى العودة الى العمل بالدستور –وهو القرآن- والقوانين المبيّنة له –وهي السنة الشريفة-.
وفي مجال الاعمار السياسي وبيان صفات المستحقين للإمامة والقيادة وولاية امور الأمة قال (×) (فلعمري ما الامام الا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات لله)( [7]).
واعتبر (×) سبب الخراب والفساد الاقتصادي والاجتماعي والاخلاقي والديني وضياع الحقوق والعدالة يرجع الى ولاية القادة غير الشرعيين لأمور الناس قال (×) بعد ان حمّله كل افراد الامة مسؤولية التغيير: (مَن رأى سُلطاناً جائِراً مُستحلاً لحرم الله، أو تاركاً لعهد الله، ومُخالِفاً لسنّةِ رسولِ الله(’)، فََعَمِلَ في عبادِ الله بالإثمِ والعدوانِ، ثم لم يُغيّرْ عليهِ بقولٍ ولا فعلٍ، كان حَقّاً على الله أن يُدخِله مَدخلَه) قال (×) في تحليله (وقد عَلمتُم أنَّ هؤلاء لَزِموا طاعةَ الشيطانِ وتَولَوا عن طاعةِ الرحمنِ، وأظهرُوا الفسادَ وعطلّوا الحدودَ واستأثَروا بالفيء، وأحَلّوا حرامَ اللَّهِ وحَرَّموا حلالَهُ، وأنا أحقُّ من غيري بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله (’)([8]).
وفي رواية اخرى (وأنا أولى من قام بنصرة دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا) ([9]).
وهذا بعينه هو مشروع الامام المهدي المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف) وقد ادخره الله تعالى لإقامة الحق والعدل وارساء قواعد الدولة الكريمة العامرة بالخيرات والبركات والعزة والكرامة، كما ورد في دعاء الافتتاح لليالي شهر رمضان المبارك (اَللّـهُمَّ إِنّا نَرْغَبُ اِلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة) ، ولا تكون الدولة كريمة الا اذا سادها الاعمار والاصلاح في جميع المجالات.
اقول: ونحن ننهي الموسم الحسيني لشهري محرم وصفر لابد ان نقف ونراجع ونحلل مقدار استفادتنا من اقامة الشعائر الحسينية، كما امرنا الائمة المعصومون (^) في كل طاعة، كالصلاة حينما جعل الامام (×) مقياسا لقبولها والانتفاع بها وهو مقدار نهيها عن الفحشاء والمنكر .
فدرجة استفادتنا من النهضة الحسينية المباركة يحددها مقدار نجاحنا في انجاز الرسالة الحسينية المباركة وتحقيق الاعمار في نواحي الحياة الانسانية الكريمة.
وهي نفس الدرجة التي نستحقها في اختبار التمهيد للظهور المبارك للإمام المهدي (×) لان الرسالة واحدة والغرض واحد، فلنراجع انفسنا ونقّيم افعالنا بدقة ولا نكون من الغافلين المخدوعين ببعض الشكليات والعناوين المزوّقة والطقوس المتخلّفة لنقنع انفسنا باننا قد احيينا شعائر الحسين (×) وهي لا تزيد الا بعدا عن الامام الحسين (×) واهدافه المباركة لأنها تساهم في تجهيل الناس وتسطي عقولهم وهو مخالف لما اراده الامام (×) كما ورد في زيارته المخصوصة انه (بذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة) والله المستعان .
([1]) كلمة القاها سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) في مكتبه الشريف يوم الجمعة 3 / ربيع الاول / 1436 المصادف 26/12/2014 .
([2]) الميزان: 12/298
([3]) نهج البلاغة: الخطبة 291
([4]) ورد عن الامام الصادق (عليه السلام) تخلَّقوا بأخلاق الله. بحار الأنوار: ج 61، ب 42، ص 129
([5] ) موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع) ص 354.
([6] ) موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع) ص 383.
([7] ) موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع) ص 379.
([8] ) موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع) ص 457.
([9] ) موسوعة كلمات الإمام الحسين (ع) ص 408.