خطاب المرحلة: (428) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ

| |عدد القراءات : 2369
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save


خطاب المرحلة: (428) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ 

(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)([1])

                                                   (الرعد : 11)

التعقيب هو ان يأتي شيء بعد شيء ويتلوه كتعقيب الصلاة بالدعاء والذكر بعدها مباشرة، وأُستعير للولد وولد الولد فسُمّوا اعقاباً لانهم يتلون ابائهم ويخلفونهم، قال تعالى (لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (الرعد : 41) اي لا يوجد من يملك حق المراجعة والنظر في حكم الله تعالى وفعله ومعارضته والغائه، وهي جملة خبرية تنبئي عن هذه الحقيقة، وبنفس الوقت تفيد انشاء النهي عن الخوض في البحث عن علة التشريعات والجدوى منها وحكمتها اذا لم يرد بها بيان شرعي كالنهي عن الخوض في القدر والذات الالهية .

والاعتقاب : ان يتعاقب شيء بعد آخر كإعتقاب الليل والنهار، فالمعقبات ([2]) في الآية ملائكة تتعاقب على العبد حافظة له، وهي جمع مفرده معقبّة، ومعناها الجماعة التي تتعاقب او انها صيغة مبالغة من معقِّب كالعلاّمة او البحّاثة او الرحّالة.

فالآية تبين لنا حقيقة غائبة عنا ولا نستطيع ان ندركها بأبصارنا وحواسنا لأنها من عالم الغيب، وتُعدُّ من نعم الله تعالى على عباده التي لم يُلتفت اليها، وهي ان له تعالى عند كل احد ملائكة تتعاقب عليه في جميع اوقاته لتحفظه بأمر الله تعالى من امر الله الذي قضى بجريان السنن والقوانين التي تحكم عالم الموجودات أن تؤثر فيه، كما ان الله تعالى يغلّب رحمته بأمره تبارك وتعالى على عدله الذي هو من امره تعالى (يامن سبقت رحمته غضبه) .

ومن هذا القبيل ما روي عن امير المؤمنين (×) انه كان جالساً الى جدار آيل للسقوط ثم قام عنه لئلا يسقط عليه فقيل له: يا امير المؤمنين (×) : أتفِرٌّ من قضاء الله ؟ قال (×) (أفر من قضاء الله إلى قدره عز وجل)([3]) .

اي ان الله تعالى قضى ووضع قوانين كلية تسيِّر هذا الكون كاقتضاء السقوط من شاهق الى الارض تكسّر العظام والموت، او اقتضاء الغرق في الماء انقطاع النفس والموت، الا ان يتخذ التدابير المانعة من ذلك، او يمتنع اصلاًَ من المضي في هذه الافعال، فالقوانين المؤثرة هي قضاء الله تعالى، اما قدره فهو تحقيق اسباب جريان هذه القوانين والانسان هو الذي يختار هذا الطريق او ذاك وعندئذٍ يقّدر الله تعالى له ما يشاء بحسب المقدمات التي يختارها بنفسه.

وفي رواية عن الامام الباقر (×) يفسّر فيها قوله تعالى يحفظونه من امر الله قال (×) (بأمر الله، من ان يقع في رَكيّ- وهي البئر – او يقع عليه حائط او يصيبه شيء حتى اذا جاء القدر خلّوا بينه وبينه، يدفعونه الى المقادير، وهما مَلَكان يحفظانه باليل، وملكان بالنهار يتعاقبانه) ومثله([4]) حديث عن الامام الصادق (×) وفي نهج البلاغة عن امير المؤمنين (×) ( ان مع كل انسان ملكين يحفظانه فاذا جاء القدر خلّيا بينه وبينه).

 هذه الحقيقة يستطيع ان يدركها الفطن الواعي ببصيرته ووجدانه عندما يلتفت الى احتمالات الخطر والضرر المحيطة به من لدن تكوّنه حملاً في بطن امه وبعد ولادته ونموّه طفلا صغيراً وفي كل مراحل حياته، فلو فكر في حصول خلل ما في تركيب جسمه ووظائف اعضائه او عندما يركب الطائرة او السيارة او يمارس عملاً معيناً ثم يتصور ما يمكن ان يحصل له فانه يصاب بالذهول و الرعب وانهيار الاعصاب لكن الله تعالى سخّر الملائكة المتعاقبة لتدفع عنه كل تلك الاحتمالات ويستمر في حياته ويعمّر طويلاً، بل قد يتعرض فعلا لحوادث خطيرة ثم يخرج منها سالما معافى.

وينبغي الالتفات ايضاً الى الحفظ المعنوي – اذا صحّ التعبير – وذلك من خلال تأثير الملائكة الحافظة في الدعوة الى فعل الطاعة وتزيينها وترغيب الانسان فيها، وتجنيب المعصية وتكرهيها للإنسان وهو ما يسمى بالتوفيق واللطف الذي يجريه الله تعالى على ايدي ملائكته، وقد يكون الامر اكثر من ذلك بان تهيئ له موضوع الطاعة كأن تجعله يلتقي بشخص محتاج ليساعده او تأتي به الى مكان ليستمع موعظة مفيدة تنفعه او يذهب باتجاه معيّن ثم يحس بداخله ما يدعوه الى تغيير مساره فيجد نفسه انه قد ازداد حسنة او اجتنب سيئة، وبالمقابل تجنبّه موارد المعصية وتحول بينه وبينها او تُوجِد موانع لارتكابها، حتى لو ارتكبها فان تلك الملائكة تمنع حصول تداعيات وآثار سلبية لها عليه.

في الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: ( للمؤمن اثنان وسبعون سترا فاذا اذنب ذنباً انهتك عنه ستر، فان تاب ردّه الله اليه وسبعة معه، وان ابى الا قُدما قُدما في المعاصي تهتك استاره، فان تاب ردّها الله اليه ومع كل ستر منها سبعة، فان ابى الا قدما قدما في المعاصي تهتك استاره، ويبقى بلا ستر واوحى الله تعالى الى ملائكته ان استروا عبدي بأجنحتكم)([5]).

فهذه الملائكة موّكله من قبل الله تعالى بحفظ الانسان من جريان القوانين الطبيعية التي اودعها الله تعالى في الكون على خلاف مصلحته وخيرِه رحمة وفضلا من الله تعالى فالإنسان أعجز من ان يواجه وحده كل تقلبات الكون وأحداثه وحوادثه والعوامل المؤثرة فيه وهي كلها من أمر الله تعالى.

ونستطيع الان ان نستخلص من الآية درسين مهمين في حياة الانسان:

الأول: تطمينه من قبل الله تبارك وتعالى بأن مع كل انسان من يحفظه ويرعاه ويدفع عنه كل ما لا يلائم صلاحه، فلا داعي الى القلق والمخاوف والهواجس المرعبة مما يحصل في المستقبل القريب او البعيد، هذا القلق الذي تعاني منه الشعوب في الغرب رغم توفر اسباب الترف والحياة المنعّمة وتؤدي ببعضهم الى الانتحار ليتخلص بزعمه من هذا الرعب والخوف ولو التفت الى هذه الحقيقة القرآنية لاطمأن بوجود رب شفيق رحيم ودود يرعاه ويخصص ملائكة لحفظه ورعايته.

الثاني: في الآية تكريم عظيم للإنسان من خالقه بأن يجعله اداة تنفيذ عملية الاصلاح وتحقيق السعادة التي يريدها الله تعالى لخلقه، وتدعوه الى أن يتحمل بنفسه مسؤولية التغيير ولا يترك الأمر للعوامل الخارجية لكي تتصرف في البشر وتنتهي الى نتائج خارجة عن اختياره، لان الله تعالى كلّف الملائكة تمنع من هذه التأثيرات.

فللإنسان باعتباره عاقلا مختاراً دور في هذه العملية فيستطيع ادامة عمل هذه الملائكة الحفظة بان يلح في الدعاء مثلا او يتصدق فيدفع البلاء او ينشئ المؤسسات النافعة أو ينشر العلوم المثمرة والأخلاق الفاضلة أو يقوم بأعمال صالحة فيكّفر عن سيئاته التي تجلب له السوء، وقد يعرقل عمل هذه الملائكة الحفظة ويجعلها ترفع يدها عنه كما لو قطع رحمه فتسبب في تقصير عمره، او ارتكب من الذنوب ما ينزل النقم او تسلب النعم او تحبس الدعاء ونحو ذلك، او ترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فتسبّب في تسلط الاشرار، بحسب ما افادته الآيات الشريفة .

لذلك جاء في تكملة الآية (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرعد:11) فالمعقبات الحفظة ليس عملهم مطلقاً غير مشروط ولا محدود بل هو مطلق لكل الناس الى مقدار معين ثم يكون مشروطاً باختيار الانسان حتى لا يتساوى المحسن والمسيء، وحتى تظهر آثار من أحسن عملاً، وعاقبة من اساء عملاً على كيانهما ووجودهما، في مجمع البيان عن أمير المؤمنين (×) في تفسير الآية قال (انهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتى ينتهوا به الى المقادير فّيخلون بينه وبين المقادير) وفي هذه الحقائق ردّ على من قال بحتمية التاريخ أو الجبر ونحو ذلك من النظريات السالبة لدور الانسان في التغيير.

عيد الملائكة الحارسة لدى الكاثوليك:

مما يجدر ذكره ان المسيحيين الكاثوليك يحتفلون يوم 2/10 من كل عام بعيد الملائكة الحارسة ونقلت المواقع الالكترونية عن بابا الفاتيكان فرانسيس قوله في قداسه اليومي في الكنيسة الصغيرة الملحقة بمقر اقامته في الفاتيكان ((ان هناك ملائكة حارسة، وإن العقيدة الخاصة بالملائكة ليست من صنع الخيال بل هي واقع، وبحسب تقليد الكنيسة فنحن جميعاً لدينا ملاك معنا يحمينا ويساعدنا على فهم الاشياء)) وأضاف ((ان لا أحد يقطع رحلة الحياة بمفرده ويجب الا يعتقد أحد أنه وحيد)) وتساءل موضحاً هذه الحقيقة ((كم من المرات سمعنا : عليَّ أن افعل هذا وعليَّ ألا أفعل ذاك فانه ليس صائباً وكن حذراً، نسمع ذلك في احيان كثيرة, إنه صوت ملاكنا الذي يرافقنا)).

وأشار الى مدخلية اختيار الانسان في هذه الحقيقة بقوله ((ان إحتمالات اتخاذ قرارات خاطئة تكون اقل بين الاشخاص الذين يستمعون الى نصائحها)) لذلك أقترحَ على المشككين أن يسألوا أنفسهم ((كيف هي علاقتي مع ملاكي الحارس؟ هل استمع اليه؟ هل اقول له صباح الخير ؟ هل أطلب منه ان يحرسني اثناء نومي)) واسئلته هذه طبعاً تنطلق من المستوى الذي يراه للعلاقة مع ربّه أو مع الملائكة.

واعتقد انه بذلك يرّد بشكل غير مباشر على الذين يبلغ بهم الجزع في الحوادث المؤلمة الى حد إنكار وجود هذه الملائكة الحافظة او انكار وجود الله عز وجل أصلاً، ومثال الاول سلفه البابا بنديكتوس السادس عشر الذي أصر عام 2012 على نفي وجود ملائكة تنشد خلال ميلاد السيد المسيح – بحسب تعبيره - .

ومثال الثاني كبير اساقفة كانتربري جاستن ويلبي الذي يتزعم 80 مليون شخص ينتمون الى المذهب الانجليكي المسيحي في العالم فقد كشف في لقاء([6]) مع الصحافية لوسي تيغ للبي بي سي ((انه يشك احياناً بوجود الله ويتساءل لماذا لم يتدخل العلي القدير لمنع الظلم)) وروى ما خطر بباله حين كان يركض ذات صباح مع كلبه مؤخراً وقال ((قبل ايام كنت ابتهل اثناء الركض وانتهى بي المآل الى مخاطبة الرب : أنظر ! إن هذا كله أمر حسن ولكن ألم يحن الوقت لأن تفعل شيئاً إذا كنت موجوداً؟)) لكنه استدرك واعترف بعجزه وقال: ((نحن لا نستطيع أن نفسر كل المسائل في العالم، لا نستطيع أن نفسر ما يتعلق بالمعاناة، لا نستطيع أن نفسر كثيراً من الاشياء)) وحين سئل عما يفعله في مواجهة تحديات الحياة أدعى ((انه يدعو المسيح ان يساعده وهو يلتقطني))، وأظن ان شكوكه هذه ناشئة من القلق والرعب الذي يسوّد الغرب بعد أن قويت شوكة الارهاب وانخرط فيه الالاف من مواطنيهم ممّا يشكل تهديداً خطيراً لبلدانهم.

 أقول : لقد حل القرآن الكريم كل هذه الاشكالات وأجاب عن التساؤلات لان الملائكة الحافظة موجودة وتؤدي عملها للجميع إلا ان الانسان بسوء اختياره يوقف مساعدتها له في مرحلة معينة بمعاصيه وذنوبه فيجّر على نفسه البلاء، رغم كثرة ما يغفر الله تعالى من الذنوب.

 قال تعالى (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى:30)، إلا ان سُنة الامتحان لابد أن تمضي فيكافأ المُحسن على احسانه والمسيء على أساءته وإلا ستكون المساواة بينهما عين الظلم، ولنأخذ امثلة من واقعهم، مثلاً تجري منافسات على كأس العالم فتفوز دول وتخسر اخرى فيحزن جمهورها ويبكي وقد ينتحر بعض المتعصبين، فهل يصح ان نقول ان من الظلم السكوت عن هذه الالام وعلينا ان نعطي كأس البطولة لجميع الدول حتى لا يتألم احد.

ونفس الشيء يحصل لطلبة الجامعات والمدارس ولا يوجد عاقل يطالب بمساواة الجميع واعطائهم كلهم درجات النجاح لكي لا يتألم احد، وهذا ما خفي على اسقف كانتربري والتفت اليه بابا الفاتيكان وطلب من الناس اتباع نصائح الملائكة الحارسة.

 



([1] ) كلمة القاها سماحة المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله) يوم الجمعة 15/ذح/1435 الموافق 10/10/2014 تزامناً مع احتفال المسيحيين الكاثوليك بعيد الملائكة الحارسة .

([2]) هذا ما اردنا بيانه من وجوه تفسير الآية، ويمكن أن يكون معناها ان هذه الملائكة تتعقب الانسان وتحفظ عليه كل شيء حتى لحظات العيون وخطرات الظنون، فيكون الضمير في (له) يرجع للإنسان ويكون قوله تعالى (مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) متعلقاً بالمعقبات وليس بـ(يحفظونه) بل تكون كلمة (يحفظونه) كالبيان التوضيحي وإلا فان كلمة معقبات كافية للدلالة على هذا المعنى، وهذا المعنى لعله انسب بسياق الآيات السابقة ويوحد مرجع الضمائر(وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ، سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ) (سورة الرعد:8-11)، وقد ورد هذا المعنى في آيات اخرى كقوله تعالى (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَاماً كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (سورة الانفطار:10-12)، وقال تعالى(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً) (الأنعام:61) وعملها في طول قوله تعالى (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (سبأ:21)، لان الملائكة موصوفون بانهم (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) الأنبياء27.

([3]) توحيد الصدوق ص369.

([4] ) راجعها في تفسير البرهان : 5/194.

([5] ) بحار الانوار : 73/ 63.

([6]) نشر اللقاء على المواقع الإلكترونية في شهر 9/ 2014.