خطاب المرحلة: (415) وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا
(1) خطاب المرحلة: (415) وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا
[النور : 22]
في هذه الليلة الأخيرة من شهر رمضان المبارك نأخذ درساً من فعالية كان يقيمها الامام السجاد (×) في مثل هذه الليلة ,وفيها تطبيق وتجسيد لآية في القران الكريم ,والأئمة المعصومون (^) كجدهم رسول الله (’) كان خلقهم القرآن ،والآية قوله تعالى (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) النور:22.
فالآية تعلمنا اسلوباً لتحصيل المغفرة الالهية والعفو والصفح ،وإن كان الله تعالى متصفاً في ذاته بأنه غفور رحيم ويبتدئ عباده بمغفرته ورحمته وإن لم يكن منهم استحقاق ،لكنه تعالى يزيدهم من فضله فيعلمهم أنهم إن أحبوا أن يغفر الله لهم وكل إنسان يحب ذلك إذ ما من عاقل مستعد لملاقاة الله تعالى بعمله من دون فضل الله تعالى وكرمه فعليهم أن يتعاملوا بينهم بالعفو والصفح ويتجاوز بعضهم عن بعض ليحتجوا بذلك على الله تعالى احتجاج انس ومودة وشفقة واستعطاف.
وهذه المعاني عبر عنها الامام السجاد (×) في دعاء ابي حمزة (اللّهُمَّ إِنَّكَ أَنْزَلْتَ فِي كِتابِكَ أَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنا وَقْدْ ظَلَمْنا أَنْفُسَنا فَاعْفُ عَنّا فَإِنَّكَ أَوْلى بِذلِكَ مِنّا وَأَمَرْتَنا أَنْ لانَرُدَّ سائِلاً عَنْ أَبْوابِنا وَقَدْ جِئْتُكَ سائِلاً فَلا تَرُدَّنِي إِلاّ بِقَضاء حاجَتِي([2])).
وقد جسّد الامام السجاد (×) هذه الآية في فعالية كان يجريها في آخر ليلة من كل شهر رمضان ،فقد روى السيد أبن طاووس في كتاب الاقبال بإسناده الى الامام الصادق (×) مضمونها باختصار ان الامام السجاد (×) كان يشتري العبيد والاماء خلال السنة ويؤدبهم وليفقهّم وكان لا يضرب عبداً ولا امة وإذا أذنب احد منهم كتب ذنبه في صحيفة وتاريخها ولم يعاقبه.
حتى إذا كانت آخر ليلة من شهر رمضان ،دعاهم وجمعهم حوله ،ثم أظهر الكتاب ثم قال :يا فلان فعلتَ كذا وكذا ولم أودبّك اتذكر ذلك ؟ فيقول : بلى يا ابن رسول الله ،حتى ياتي على آخرهم ويقرّرهم جميعاً.
ثم يقوم وسطهم ويقول لهم :أرفعوا أصواتكم وقولوا :يا علي بن الحسين إن ربَّك قد آحصى عليك كل ما عملت ،كما آحصيت علينا ما عملنا ،ولديه كتاب ينطق عليك بالحق ،لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا احصاها ،وتجد كل ما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً ،فأعفُ وأصفح كما ترجو من المليك أن يعفو عنك ،فأعفُ عنا تجده عفّوا ،وبك رحيماً ،ولك غفوراً ،ولا يظلم ربك أحدا ،كما لديك كتاب ينطّق بالحق علينا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما اتيناها إلا أحصاها.
وهوّ ينادي بذلك على نفسه ويلقنّهم ،وهم ينادون معه وهو واقف بينهم يبكي وينوح ويدعو بمضمون ما نقلناه من دعاء ابي حمزة ،ثم يقبل عليهم ويقول :قد عفوت عنكم فهل عفوتم عني ومما كان مني اليكم ،فيقولون : قد عفونا عنك يا سيدنا وما اسأت.
فيقول لهم :قولوا اللهم أعفُ عن علي بن الحسين كما عفا عنا فأعتقهُ من النار كما أعتق رقابنا من الرق فيقولون ذلك ،فيقول اللهم آمين رب العالمين اذهبوا فقد عفوتُ عنكم وأعتقت رقابكم رجاءه للعفو عني وعتق رقبتي فيعتقهم.
فإذا كان يوم الفطر منحهم جوائز تصونهم وتغنيهم عما في أيدي الناس ،وما من سنة إلا وكان يعتق فيها في آخر ليلة من شهر رمضان ما بين العشرين نفساً الى أقل أو أكثر) ([3]).
أقول في الرواية دروس عديدة (منها) تواضع ائمة أهل البيت (^) وسمو اخلاقهم وترّفعهم عن الانتقام والرد على الاساءة مضافاً الى اننا تعرفنا من خلالها على احدى الوسائل التي نشر الامام السجاد (×) علوم اهل البيت (^) ومناقبهم وأخلاقهم ومظلوميتهم لأن هؤلاء العبيد كانوا ينتشرون في الامصار وينقلون ما شاهدوه من سيرة الامام السجاد (×) .
هذه كلها اشارات مختصرة ،والمهم هنا تطبيق الآية الكريمة على هذا الفعل ،فقد كان الامام (×) يستطيع أن يقوم بهذا العمل سراً بينه وبين ربه فيعفوا عمن أساء اليه ويطلب من الله تعالى العفو إلا ان الامام (×) كان يجري العمل علناً ليوصل هذا الدرس الى الآخرين ولُينقل عبر الاجيال مضافاً الى أن ((العمل بالقلب كما انه عبادة له فإجراء ما فيه على الجوارح ايضاً عبادة للجوارح فعند الاتيان بالجوارح تتحقق العبادة بها ايضاً، وانها تؤثر في القلب تأثيراً خاصاً ورقة لا يؤثره مجرد الامر القلبي ويصير سبباً لعمل آخر مؤثر ايضاً فيمتد الفيض الدائم، لان للجوارح ايضاً حظاً من نور العمل فيؤثر عملها في القلب نوراً زائدا على نور عمله)) ([4]).
هذا الادب هو ما يريده الله تعالى ورسوله والائمة الاطهار (صلوات الله عليهم اجمعين) منّا، اذ لا شيء يستحق التباغض والتقاطع بين المؤمنين وخصوصا اذا كانوا ذوي رحم ،وليس من المعقول اننا نرجو رضا الله تبارك وتعالى ومجاورة اولياءه في الجنان ونحن نقطع الرحم وآصرة الايمان لأجل كلمة سيئة قالها او تقصير صدر منه او تجاوز على بعض حقوقه، او تنازع بينهم على مال.
والملفت للنظر ان الآية التي ورد فيها الامر بالعفو والصفح جاءت في سياق جريمة كبرى ارتكبها البعض في حق رسول (’) اذ اتهموا زوجته مارية القبطية بالفاحشة وانها ولدت ابراهيم من خدين لها لا من زوجها رسول الله (’) وهي الحادثة المعروفة بحديث الافك، فرغم عظم الجريمة وعظم من وقعت عليه وهو اكرم خلق الله وخاتم الأنبياء ،ورئيس الدولة ،وقد اشارة الآيات الى ذلك (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النور:19وقال تعالى عنها (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) النور: 23 ومع ذلك فقد جاء معها الامر بالعفو والصفح في الآية محل البحث، فكيف لا نعفو ولا نصفح نحن عن توافه الامور التي نتعرض لها في حياتنا.
([1] )- تقرير لكلمة سماحة المرجع اليعقوبي دام ظله في جمع من مصلّى ديوان فاطمة الزهراء عليها السلام في حي الجامعة في النجف الاشرف وجمع من الشباب والطلبة اللذين شاركوا في إقامة العشر الاواخر من شهر رمضان الى جوار أمير المؤمنين عليه السلام 00يوم الاحد 29 رمضان 1435 المصادف 27/7/2014 .
([2] )- مفاتيح الجنان :349 من دعاء ابي حمزة الثمالي.
([3]) المراقبات للملكي التبريزي :199-200
([4]) المراقبات للملكي التبريزي:202