خطاب المرحلة: (413) المتمسّك بدينه كالقابض على الجمر
خطاب المرحلة: (413) المتمسّك بدينه كالقابض على الجمر
في كتاب بصائر الدرجات بسنده عن الإمام الباقر (×) قال (قال رسول الله (’) ذات يوم وعنده جماعة من أصحابه: اللهم لقنّي اخواني مرتين فقال: من حوله من أصحابه أما نحن اخوانك يا رسول الله، فقال: لا إنكم أصحابي، واخواني قوم في آخر الزمان آمنوا ولم يروني لقد عرفنيهم الله بأسمائهم وأسماء آبائهم من قبل أن يخرجهم من أصلاب آبائهم وأرحام امهاتهم، لأحدهُم أشد بقية على دينه من خرط القتاد في الليلة الظلماء أو كالقابض على جمر الغضا اولئك مصابيح الدجى ينجيهم الله من كل فتنة غبراء مظلمة). ([1])
أقول: الحديث فيه عدة أمور ينبغي الالتفات إليها، (منها) منزلة من يتمسك بدينه وفضل من يثبت عليه بحيث يسميهم النبي (’) اخوانه ويتمنى لقاءهم، وسيأتي إن أجر أحدهم يعادل خمسين بدرياً.
(ومنها) أن الحديث يبيّن أيضاً صعوبة التمسّك بالدين والثبات عليه ويشبه صعوبته بالأمثلة المؤلمة المذكورة وهي القبض عل الجمر وخرط الشوك الصحراوي القاسي، وهذا التوصيف في محله لأن الثبات على الدين يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة سماه النبي (’) (الجهاد الأكبر) بحيث لا يخضع للضغوط والاغراءات من أي جهة كانت، سواء كانت من جهة النفس الأمّارة بالسوء والشهوات والميالة للعب واللهو واللذات فتضغط عليه للاستجابة لها حتى لو كان فيه تضييع لدينه وآخرته، أو كانت الضغوط من جهة المجتمع اتباعاً للأعراف والثقافات واللياقات المتداولة في الملبس أو المعاملات مع الآخرين ونحو ذلك، أو من جهة ضغوط السلطات الحاكمة أو الزعامات المتنفذة كرؤساء العشائر ونحو ذلك التي تُكرِه الناس على اتباع وتنفيذ أوامرها وتدع الدين جانباً إذا عارض مصالحها.
وقد يظن البعض أن الالتزام بالدين شيء يسير ولا يستحق هذه المبالغة في صعوبته، فما أيسر أن يؤدي الإنسان صلواته المفروضة وصوم رمضان وتجنب الخمر والزنا ونحو ذلك وهكذا، وهو ظن خاطئ ناشئ من قصور في فهم معنى الحديث إذ ينبغي الالتفات إلى أن الحديث عبّر بلفظ الدين وهو أوسع من الأحكام الشرعية كالصلاة والصوم والحج والخمس من الواجبات والمحرمات المذكورة في الفقه، لأن للدين معنى واسعاً يشمل كل ما تضمنته الرسالة السماوية من العقائد والتصورات والمواقف والأخلاق سواء على صعيد الملكات النفسية أو السلوك العملي والعلاقات مع الآخرين، هذا كله مضافاً إلى الالتزام بالأحكام الشرعية، فالتمسّك بالدين يعني الالتزام بكل هذه التفاصيل والجزئيات التي يتعرض الإنسان فيها للابتلاء دائماً، تصوّر شخصاً في مواقع القيادة في الدولة ويستطيع كغيره أن يثري على حساب المال العام ويدير ظهره للشعب والأمانة التي في عنقه لكنه يدع ذلك خوفاً من الله تعالى وليكون مع نفسه وشعبه أو افرض أنّك مدرّس وعندك طالب لا يستحق النجاح لكن له صلة بجهة قوية نافذة فتضغط عليك لتنجحه أو تغريك بشيء ما وأنت ترى في ذلك خيانة لشرف المهنة فهل تقاوم الضغوط والاغراءات وتكون أميناً، أو تؤذيك زوجتك بكلمات جارحة وهي ظالمة لك وأنت قادر على ردِّها فتكظم غيظك طاعة لله تعالى إذ يقول (وعاشروهن بالمعروف)، أو تتعرض لمنظر مثير للشهوة المحرمة فتعرض بوجهك من خشية الله تعالى وهكذا.
إذا نظرت إلى الدين بهذه السعة ستتأكد من صعوبة الثبات على الاستقامة والالتزام بالتفاصيل وإن التشبيه بالقبض على الجمر في محله وليس فيه مبالغة كما يتوهم البعض مما ذكرناه.
وقد كان الكثير من أصحاب الأئمة يظنون أنهم قد أدوا ما عليهم وأنهم نجحوا في أداء ما هو مطلوب منهم لكن الإمام السجاد (×) أثبت لهم توهمهم في ذلك بتجربة عملية تتعلق بطاعة ولي الأمر الذي أمر الله بطاعته فيما تحب وتكره، روى الكليني بسنده عن الإمام الباقر (×) قال: (قال أبي يوماً وعنده أصحابه: من منكم تطيب نفسه أن يأخذ جمرة في كفه فيمسكها حتى تطفأ؟ قال: فكاع الناس كلهم ونكلوا، فقمت وقلت: يا أبة أتأمر أن أفعل؟ فقال: ليس إياك عنيت إنما أنت مني وأنا منك، بل إياهم أردت، قال: وكررها ثلاثا، ثم قال: ما أكثر الوصف وأقل الفعل، إن أهل الفعل قليل إن أهل الفعل قليل، ألا وإنا لنعرف أهل الفعل والوصف معاً، وما كان هذا منا تعاميا عليكم بل لنبلو أخباركم ونكتب آثاركم، فقال: والله لكأنما مادت بهم الارض حياءاً مما قال، حتى أني لأنظر إلى الرجل منهم يرفضّ عرقا ما يرفع عينيه من الارض فلما رأى ذلك منهم قال: رحمكم الله فما أردت إلا خيرا، إن الجنة درجات فدرجة أهل الفعل لا يدركها أحد من أهل القول ودرجة أهل القول لا يدركها غيرهم، قال: فوالله لكأنما نشطوا من عقال) ([2]).
ويحكي القرآن حوادث عديدة ممن فشلوا في المواقف ولم يستطيعوا القبض على دينهم كالمسلمين في معركة أُحد حين نهى النبي (’) الرماة الخمسين على الجبل أن يتركوا مواقعهم فلما حاز أخوانهم المقاتلون الغنائم عصوا رسول الله (’) وتركوا مواقعهم فهاجمهم العدو من الخلف وحصلت الكارثة.
أو قضية جيش طالوت قال تعالى {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }البقرة249.
وأكثر من هؤلاء من يفشلون وينهزمون في المواجهة مع النفس الأمّارة بالسوء، وهذه الامتحانات والمزالق لا تختص بجيل دون آخر ولا بزمن دون آخر فإن سنة الابتلاء والتمحيص جارية في كل الأجيال والأزمان، وإن كانت أصعب في زمان الغيبة حيث لا نبي ولا إماماً معصوماً يرجع إليه ولا وحي ينزل من السماء.
في غيبة الطوسي بسنده عن أبي عبد الله قال (قال رسول الله (’) سيأتي قوم من بعدكم الرجل الواحد منهم له أجر خمسين منكم، قالوا يا رسول الله نحن كنا معك ببدر وأُحد وحنين ونزل فينا القرآن، فقال: إنكم لو تُحمَّلون لما حُمِّلوا لم تصبروا صبرهم). ([3])
فالثبات على الدين أمر صعب يحتاج إلى عزم وإلى إرادة وإلى معرفة ووعي ومراقبة وإلى توسل إلى الله تبارك وتعالى روى الشيخ الصدوق بسنده عن عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق (×) قال (ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يُرى ولا إمام هدى لا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق، قلت وكيف دعاء الغريق قال: تقول: يا الله يا رحمان يا رحيم يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك، فقلت: يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك، فقال: إن الله مقلب القلوب والأبصار، ولكن قل كما أقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). ([4])
ومهما يكن الأمر شاقاً وصعباً ويحتاج إلى مجاهدة طويلة فإنه يسهل بتوفيق الله تعالى والالتفات إلى الحوافز العظيمة التي أوردنا بعضها بحيث أن النبي (’) يشتاق لمثل هؤلاء ويسأل الله تعالى لقاءهم ويسميهم أخواني، اللهم اجعلنا منهم بفضلك وكرمك.
([1] )- بحار الأنوار: 52/124 عن بصائر الدرجات: 2/104 باب14ح4.
([2]) - روضة الكافي: 190ح 289.
([3] )- غيبة الطوسي: 456 رقم 467.
([4] )- إكمال الدين: 2/251 باب33 ح49، بحار الأنوار: 52/149.