وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ

| |عدد القراءات : 5496
  • Post on Facebook
  • Share on WhatsApp
  • Share on Telegram
  • Twitter
  • Tumblr
  • Share on Pinterest
  • Share on Instagram
  • pdf
  • نسخة للطباعة
  • save

 (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ)([1])

(الحج 11)

          قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج/11) تصف الآية صنفاً من الناس موجودا في كل زمان ، ظاهره متديّن يتكلّم بالدين ويمارس المظاهر الدينية لقوله تعالى في وصف هذا الصنف انه (يَعْبُدُ اللَّهَ) لكن تدينه قلق غير مستند إلى قاعدة متينة وانما هو كالواقف على حافة الهاوية ويمكن ان يسقط فيها في أي لحظة لأنه ينظر الى الدين من زاوية واحدة ويتعامل معه بمقياس واحد هو مقياس مصالحه والفوائد التي يجنيها من هذا الدين،(َأفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه) (الجاثية/23) وإن لم ينتفع منه تركه وتخلى عنه الى غيره حيث يظن وجود المصلحة والمنفعة.

          (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ) فإن حصل على نفع دنيوي من مال أو جاه أو منصب أو أي امتيازات يسعى اليها الناس في الدنيا رضي بهذا الدين واستمر عليه وهو في الحقيقة اطمئنان ورضا بمصالحه، (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ) أي تعرض لصعوبات الابتلاء والامتحان (انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) بأن يرجع الى حرفه الذي يعبد الله تعالى عليه والوجه الذي كان ينظر من خلاله الى طاعة الله تعالى ويترك هذا الدين وينبذه ويرفضه، ولم يقل تعالى (وإن أصابه شر) لأن ما أصابه قد يكون خيراً إما في العاجل أو الآجل من الدنيا أو الآخرة، ولكنه لنظرته الضيقة الى الامور ولأنانيته وعدم امتلاكه البصيرة والرؤية الصحيحة للامور اعتبر ما حصل شراً فانقلب على وجهه، وكأنه هو الذي يعرِّض الدين للاختبار، فإن جلب له المنفعة كان صدقاً وحقاً والا فلا.

مثلاً انضم الى جماعة المتدينين للحصول على منصب أو مال أو وجاهة اجتماعية فلمّا لم يحصل عليها رفض الدين ، ولعل حرمانه من هذه الامور خير له، لانه لا ينجح في امتحانها، لكن مدى تفكيره محدود فكانت نتيجته (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)، لأنه حُرِمَ من الدنيا التي كان يسعى للحصول عليها فتنة من الله تعالى له وبقلقه واضطرابه وانفعاله وعدم استقرار حاله، وخسر الآخرة بتركه لسبب السعادة والفلاح وهو الدين.

وهذا الوصف لحاله في الدنيا سيتجسد على أرض الواقع والحقيقة في الاخرة حيث تبلى السرائر وتنكشف البواطن على حقيقتها وأشارت الروايات الى ذلك حين وصفت الصراط بأنه أدق من الشعرة وأحدّ من السيف وإن من الناس من يعبره الى الجنة كالبرق الخاطف وآخر ركضاً وآخر زحفاً بحسب استحقاقاتهم وآخر يتمايل عليه ولا يستقر ثم يهوي منه في نار جهنم لان الصراط ممدود عليها، فهذا الصنف الاخير هو من كان في الدنيا قلقاً في تدينه غير مستقر وينقلب عن الدين إذا اصيب بابتلاء وهذا معنى سقوطه في جهنم.

روى في الدر المنثور عن أبي سعيد قال (أسلم رجل من اليهود فذهب ببصره وماله وولده فتشاءم بالاسلام فأتى النبي (صلى الله عليه واله) فقال: أقلني. فقال: إن الإسلام لا يقال، فقال: لم اصب في ديني هذا خيرا، ذهب بصري ومالي ومات ولدي، فقال (صلى الله عليه واله) يا يهودي الاسلام يسبك الرجال كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة، ونزلت الاية)[2].

وقد وردت عدة روايات معتبرة في تفسير الآية في الكافي وغيره منها ما رواه زرارة عن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (سألته عن قول الله عز وجل (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ) قال: هم قوم وحدّوا الله وخلعوا عبادة من يُعْبَدْ من دون الله فخرجوا من الشرك، ولم يعرفوا أن محمداً (صلى الله عليه واله) رسول الله فهم يعبدون الله على شكٍّ في محمدٍ (صلى الله عليه واله) وما جاء به([3])، فأتوا رسول الله (صلى الله عليه واله) وقالوا: ننظر فإن كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أنه صادق وأنه رسول الله، وإن كان غير ذلك نظرنا، قال الله عز وجل (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) يعني عافية في الدنيا (وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ) يعني بلاءً في نفسه وماله (انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ) انقلب على شكّهِ الى الشرك (خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. يدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ) قال: ينقلب مشركاً، يدعو غير الله ويعبد غيره، فمنهم من يعرف ويدخل الإيمان قلبه فيؤمن ويصدّق، ويزول عن منزلته من الشك الى الإيمان، ومنهم من يثبت على شكّه ومنهم من ينقلب الى الشرك)[4].

فهؤلاء يقفون على الحافة - والحرف هو حد الشيء وحافته ومنتهاه دون أصله وحقيقته كما يقال حرف الجبل أي منتهاه وليس كل حد وجانب حرفاً حتى تكون له قابلية ربط الشيء بغيره كالحرف الهجائي فانه الحد الذي تنتهي اليه الكلمة ولا معنى له في نفسه لكنه يربط بين ما له معنى، ومنه التحريف أي الخروج عن المعنى الوسط المعتدل المعروف الى حافته المشتبهة – متزلزلين غير ثابتين لم يتمكن الدين من قلوبهم ونفوسهم، يسقطون في أول اختبار وامتحان فينقلبون على وجوههم.

وقد شخص الإمام الحسين (عليه  السلام) هذه الظاهر في حياة المجتمع فقال (عليه السلام): (النّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيا وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلى ألسِنَتهم، يَحُوطُونَهُ ما دَرَّت مَعائِشُهُم، فَإذا مُحِّصُوا بِالبَلاءِ قَلَّ الدَّيّانُونَ).

 وهذه الظاهرة الاجتماعية في حياة الناس  لا تختص بالكافرين أو المنافقين كما ربما يتصور، بل تشمل الذين يتظاهرون بالشكليات الدينية لكنهم في أخلاقهم وتعاملاتهم وسلوكهم وصفاتهم النفسية أبعد ما يكونون عن الدين، لقوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ) فهم يمارسون الطقوس الدينية لكنهم لا يعملون بحقيقتها، ولا أُريد أن استغرق ببيان النماذج لوضوحها لدى الناس خصوصاً من السياسيين الذين يتسترون بالعناوين الدينية، لكن همهم الاول والاخير دنياهم واهوائهم ومصالحهم وتراهم يُداهنون ويتنازلون عن المبادئ الدينية الثابتة إذا أضرت بمصالحهم، ومن أمثلة هؤلاء من يقلد مرجعاً دينياً والمفروض أنه قلده بحجة شرعية، فاذا اصطدم هذا التقليد مع مصلحة له أو وجد منفعة دنيوية أفضل عند غيره عدل اليه ولا يسال عن الحجة الشرعية في ذلك.

          هذا سلوك غريب لأن المفروض أن تكون العقيدة هي الأصل وهي المسطرة الثابتة التي تقاس صحة الامور وبطلانها على أساسها فما وافقها - وإن اقترن بالمصاعب والبلاءات- فهو حق والا فهو باطل وإن جلب بعض المنافع الدنيوية، وليس العكس كما عليه هؤلاء من الاضطراب والتشتت، فهذا خلل كبير في الايمان الذي يدعيه هؤلاء وانحطاط في فهم الدين ولوازمه، لأن المؤمن الحقيقي لا يأخذ على إيمانه جزاءً دنيويا لأن دينه ليس سلعة قابلة للبيع والشراء وجلب المنافع، وإنما يبتغي بإيمانه والتزامه رضى الله تبارك وتعالى، ويعتبر التزامه بالدين توفيقاً من الله تعالى ولطفاً منه تبارك وتعالى ونعمة لا تجازى ويعجز عن شكرها وبالدقة يرى الملتزم بالدين حقاً ان نفس استمراره وثباته على الدين وما يترشح عنه من اطمئنان وسعادة وسمو هو أفضل  جزاء يعطيه الله تعالى له على التزامه بالدين.

والأغرب من ذلك في سلوك هذا الصنف من الناس أنه حينما يتخلى عن المبادئ الدينية والمنهج الالهي الذي لا يوجد أفضل منه فما هو البديل الذي يلتزم به (يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (الحج/12-13) هذا هو الضلال المبين أن يتخذ من المخلوقات التي لا تملك لنفسها ضراً ولا نفعاً سواء كانت أصناماً حجريةً أو بشريةً أو أهواء نفسية أو مصالح أو أعراف وتقاليد يتخذ منها المولى والعشير والقائد الذي يتبعه (ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) الغارق في الضلال والبعيد عن العودة الى الطريق الصحيح.

ويروي التاريخ شواهد كثيرة لمثل هؤلاء كعبيد الله بن الحر الجعفي الذي كان مواليا لأمير المؤمنين  (عليه السلام) ولما طلب الامام الحسين (عليه السلام) منه النصرة وهو في طريقه الى الكوفة امتنع وأهدى له سيفه وفرسه فرفضهما الإمام الحسين (عليه السلام) ثم ندم على خذلانه وصار قائداً في جيش المختار الثقفي ثم انشق عنه والتحق بمصعب بن الزبير وقاتل معه المختارَ حتى انتصروا ثم تمرد عليه بجمع من الجيش وغادر الكوفة.

ومثل شبث بن ربعي الذي كان في جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين ثم سقط في فتنة الخوارج، وبعدها كان ممن كاتب الإمام الحسين (عليه السلام) طالباً منه المجيء الى الكوفة لكنه انخدع بمناصب الولاة والتحق بجيش بن زياد لقتال الإمام الحسين (عليه السلام) وكان قائداً للمقاتلين المشاة (الرجّالة) يوم عاشوراء وقد ذكره الإمام الحسين (عليه السلام) باسمه في احتجاجه على الجيش المعادي حين نادى: (يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا لي أن أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجندة)[5].

ومما جرى من الحوارات يوم عاشوراء لما خطب الحسين (عليه السلام) واحتج عليهم بالكثير مما قاله رسول الله صلى الله عليه واله ورواه أصحابه قاطعه الشمر قائلا عن نفسه: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: والله اني أراك تعبد الله على سبعين حرفاً وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول قد طبع الله على قلبك[6].

ولما كانت الامور تعرف بأضدادها، فمن ضد هذا الوصف وهذه الصورة نتعرف على ما يجب أن تكون عليه قيمة الدين في حياة الانسان فهو مستقر في قلبه ووجدانه، سعيد به ثابت عليه، يلجأ اليه في كل اموره، ويجعله قائداً له في حياته يستهدي به ويزن به الامور، فيفرّق به بين حقها وباطلها، وهذا الثبات والاستقرار في العقيدة تجسّد في أصحاب الحسين (عليه السلام) وأهل بيته بحيث يفرحون ويستبشرون حينما يُعْلِمَهُمْ الامام الحسين (عليه السلام) بالقتل.

 



[1]) ألقيت يوم الجمعة 28/صفر1437 الموافق 11/12/2015 وقد شارك بها ممثل عن سماحة الشيخ المرجع (دام ظله) في مؤتمر الطف الدولي السابع الذي أقامته كلية الآداب في الجامعة المستنصرية يومي 7-8/12/2015 وجعلها سماحته إنموذجاً لوحدة الخطاب القرآني والحسيني.

[2]) الدر المنثور: 4/346.

[3]) وكان بعض هؤلاء من الصحابة المعدودين قريبين للنبي (صلى الله عليه واله وسلم) لكنهم كانوا يشككون في تصرفاته ويعترضون ويتمردون كما تنقل كتب الفريقين وفي آخر حياته قالوا (إن الرجل ليهجر) وهؤلاء كانوا مستعدين  للانقلاب عن الدين والرجوع الى جاهليتهم كما أخبر عنهم الله تعالى (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ) (آل عمران : 144) فرأى امير المؤمنين (عليه السلام) ان الصبر على المظالم التي لحقت به أحجى وقد سجل ذلك كله في خطبه المأثورة.

[4]) تفسير البرهان: 6/310 عن الكافي: 2/303 ح 1 ، 2.

[5] الارشاد للمفيد: فصل: خروج مسلم ابن عقيل - رحمة الله عليه - بالكوفة يوم الثلاثاء.

[6] مقتل الحسين للسيد المقرم: 279