ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً - اغتنم شبابك
(ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً)
(الروم/54)
اغتنم شبابك[1]
وصيةُ النبي (صلى الله عليه واله) للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري رسالة عظيمة للأجيال ينبغي مراجعتها والاستفادة منها باستمرار، ومنها قوله (صلى الله عليه واله): (يا أبا ذر.. اغتنم خمساً قبل خمسٍ: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)[2].
وهذه الوصية موجّهة بشكل رئيسي الى الشباب للتصريح بهم في أول فقرة، ولأنهم الأكثر توفّراً على هذه النعم الخمس، فهم شباب أصحّاء وقواهم البدنية متكاملة لم يضعفها مرور الزمن، وهم فارغون غالباً من المسؤولية غير مشغولين بهموم الحياة، وهم أغنياء لانهم غالباً مكفيو المؤونة بآبائهم وليسوا معيلين لكثيرين.
فليلتفت الشباب الى ما حباهم الله تعالى من النعم ليستثمروها في اتجاهها الصحيح أي في طاعة الله تعالى وإعمار الحياة بكل خير ونفع لهم وللمجتمع عامة، وعدم هدر الطاقات وصرفها في اللغو والعبث فضلاً عن الاستخدامات السيئة والاجرامية والعياذ بالله، فكما يردّد الشاب أنني اريد أن أبني مستقبلي وأكوِّن نفسي، ويقصد النواحي المادية كحياة معيشية مرفّهة وزوجة وأطفال ومصدر رزق ونحو ذلك، وهو حقٌّ ومطلوب وحثَّ عليه الشارع المقدس، إلا أنه عليه أن يفكّر ببناء مستقبله المعنوي والإيماني أيضاً ليضمن السعادة والفوز في الآخرة كما في الدنيا، وأن البناء في مرحلة الشباب يكون أرسخ وأقوى.
إن الاهتمام بالشباب ليس اعتباطاً وإنما لوحظ فيه وجود عناصر النجاح والتكامل في الشباب أكثر من غيره وهي:
1. قوة الإرادة وتنفيذ ما يعزم عليه، ونجد كثيراً من الشباب يقوم بالمغامرات المهلكة ويرتكب الحماقات الجنونية لا لشيء إلا لأنه اقتنع بأمر وهو عازم على تنفيذه، وهو مستعد للتمرد والخروج على كل القوانين والأعراف، فيجب توظيف هذه الإرادة القوية فيما هو نافع ومثمر.
2. النقاء وسلامة الفطرة لأنهم قريبو عهد ببراءة الطفولة والخروج الى هذه الدنيا بصفحة بيضاء، وقلوبهم طاهرة كالمرآة الصافية لم تتكدّر بالاستعمال فيكون تلقيها للتربية والاصلاح والمعارف الحقة سريعاً وثابتاً، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما القي فيها من شيء قبلته)[3] وفي كتاب الكافي بسنده عن اسماعيل بن عبد الخالق: (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول لأبي جعفر الأحول وأنا أسمع: أتيت البصرة؟ فقال: نعم، قال: كيف رأيت مسارعة الناس لهذا الأمر ودخولهم فيه؟ قال: والله إنهم لقليل، ولقد فعلوا وإن ذلك لقليل، فقال (عليه السلام): عليك بالأحداث فإنهم أسرع الى كل خير)[4]، أما أذا امتد العمر فإن الأخطاء والمعاصي ستلوّث عقولهم وقلوبهم كما في دعاء الإمام السجاد (عليه السلام): (ويلي كلما طال عمري كثرت معاصيِّ)[5] ومن الصعب حينئذ جلاؤها وتنقيتها وإعادتها الى نفس الصفاء والفطرة السليمة.
3. سلامة القوى البدنية والعقلية (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) (غافر/67) مما يساعده على فعل ما تتطلبه رسالته في الحياة وتلقي العلوم النافعة، وهذه القوى تضعف بمرور الزمن (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (الروم/54)، ويصل الى مرحلة من العمر لا يتمكن فيها من أداء الواجبات فتراه لا يقدر على الصوم ويصلي من جلوس ويعجز عن أداء مناسك الحج والذهاب لزيارة الائمة الطاهرين (عليهم السلام) ولا يتمكن من قراءة القران وأمثال ذلك (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ) (يس/68).
فاغتنام الشباب يعني الاستفادة من هذه العناصر مجتمعة لبناء حياة مؤمنة مطمئنة تسعى لنيل رضا الله تبارك وتعالى وتجنب سخطه. في الحديث عن النبي (صلى الله عليه واله): (ان احب الخلائق الى الله عز وجل شاب حَدَث السن في صورة حسنة جعل شبابه وجماله لله وفي طاعته، ذلك الذي يباهي به الرحمن ملائكته، يقول هذا عبدي حقاً)[6]، وفي حديث آخر عنه (صلى الله عليه واله) (سبعة في ظل عرش الله عز وجل يوم لا ظل الا ظله: إمامٌ عادل، وشابٌ نشأ في عبادة الله عز وجل)[7]، وهذا يستلزم اهتماماً متزايداً بمطالعة الكتب والتثقف والازدياد من المعارف والعلوم التي تبني شخصية الانسان وتقوّم تفكيره وتحصّنه من الانحراف والضلال والفساد والشبهة، وستستفيدون كثيراً من المطالعة.
وقد نصحت مراراً بأن تتخذوا دفتر ملاحظات تسجلون فيه هذه الأحاديث الأخلاقية لأهل البيت (عليهم السلام) وكلمات الحكماء التي تفهمون منها درساً مفيداً في حياتكم، وأن تتعبوا أنفسكم في مطالعة الكتب النافعة وتحصيل المعارف الدينية والأخلاقية والتوعوية، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: (لستُ أُحِبُّ أن أرى الشاب منكم إلا غادياً في حالين: إما عالماً او متعلماً، فإن لم يفعل فرّط، فان فرّط ضيّع، وإن ضيّع أثم، وإن أثم سكن النار والذي بعث محمدا (صلى الله عليه واله) بالحق)[8].
وربما ستؤثر فيكم كلمة صغيرة تقلب حياتكم نحو الأفضل، كما حصل لبشر الحافي العابد الزاهد الذي يفتخر به المتصوّفة، فقد كان صاحب خمر ولهو وعبث مع أصدقاء السوء، وذات يوم بينما كانت جاريته تلقي القمامة ونفايات الطعام خارج الدار، مرَّ الإمام الكاظم (عليه السلام) فرأى داراً فارهةً تصدر منها أصوات الغناء والمجون والفسق فسأل الجارية عن صاحب الدار، فقالت: لسيدي ومولاي بشر، فقال الإمام (عليه السلام): هل سيدك حرٌّ أم عبدٌ؟ فاستغربت الجارية من السؤال لوضوح أن سيدها حر فأجابت: بل سيدي حر، فقال الإمام (عليه السلام): صدقتِ لو كان عبداً لاستحيا من مولاه، ولما عادت الجارية سألها سيدها بشر عن سبب تأخيرها فحكت له ما جرى فقال اذكري له أوصافه، فوصفت الإمام (عليه السلام) لسيدها، وهنا صحا بشر من سكره، وقال ذاك سيدي ومولاي موسى بن جعفر وفهم معنى الرسالة، بأن بشراً لو استشعر معنى العبودية لربه وخالقه الذي أغدق عليه نعماً لا تعد ولا تحصى لاستحيا منه ولم تصدر منه هذه المعاصي والقبائح، وسرعان ما خرج يبحث عن الإمام حتى وجده ووقع على يديه ورجليه يقبّلهما ويستغفر الله تعالى ويتوب على يديه وكانت توبته صادقة وارتقى في درجات الكمال ببركة كلمة صادقة من العبد الصالح، وما اكثر هذه الكلمات في بطون الكتب فاستخرجوها واستفيدوا منها.
إن من أضاع شبابه في اللهو والعبث سوف يندم ويندب حظه السيء. عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (شيئان لا يعرف فضلهما الا من فقدهما: الشباب والعافية)[9] كما قال الشاعر:
ألا ليتَ الشبابَ يعودُ يوماً لاخبره بما فعلَ المشيبُ
أما من اغتنم شبابه واستثمره في العمل الصالح والسلوك النظيف فانه لا يندم على انقضائه بل يفرح عند تذكره بلطف الله تعالى وعنايته به، روي أن ابراهيم (عليه السلام) لما أصبح فرأى في لحيته شيباً شعرةً بيضاء، قال: (الحمد لله رب العالمين الذي بلّغني هذا المبلغ ولم أعصِ الله طرفة عين)[10]
إن عليكم أن تبنوا أنفسكم ثم تنطلقوا الى مجتمعكم فتبذلون وسعكم في توعيته وإصلاحه والمطالبة بحقوقه وأن توفّروا له القيادة الصالحة التي تؤسس له الحياة الكريمة كما أرادها الله تعالى لعباده، ولا تتقاعسوا أو تشعروا بالإحباط أو تنزووا أو تعتزلوا مجتمعكم، فإنكم تضرّون بذلك أنفسكم، وتحرمون أُمتكم من هذه الطاقات الخلاّقة التي عندكم، فأنتم محركو الامة وباعثو الحياة فيها.
إن الامم التي تقل نسبة الشباب فيها تقل قابليتها على النمو والازدهار كما هو حال اوربا اليوم حتى صارت تسمى (القارة العجوز) وقد جنت على نفسها بذلك لحماقتها واتباعها لشهواتها حيث العلاقات الجنسية غير المشروعة كبديل عن الزواج والتشجيع على قلة الانجاب وإباحة الاجهاض والشذوذ الجنسي للمثليين، ونحو ذلك، ومن الحلول التي ابتدعتها تشجيع هجرة ولجوء الشباب من الدول الاخرى خصوصا الاسلامية التي تتمتع بنسبة عالية من الشباب لتعوّض نقص الأيدي العاملة فيها.
[1] من حديث سماحة المرجع اليعقوبي (دام ظله) مع حشد كبير من الشباب وطلبة الجامعات الذين شاركوا في فعاليات دينية وتوعوية في مدينتي النجف وكربلاء يومي عرفة والعيد والتقاهم سماحته يوم الجمعة 11 ذي الحجة 1436 الموافق 25/9/2015.
[2] مكارم الاخلاق للطبرسي: 626
[3] تحف العقول: 70
[4] الكافي: 8/93 ح 66
[5] مفاتيح الجنان:481
[6] كنز العمال: 43103
[7] الخصال: 343 ح8
[8] الأمالي للطوسي:303 / ح604
[9] غرر الحكم: 5764
[10] علل الشرايع: 104 ح 2